قصة: ضريح الحب

Vol. No. 2, Issue No.2 - April-June 2022, ISSN: 2582-9254

0
576

قصة إنجليزية

قصة: ضريح الحب

قصة لـ: ناميتا غوخالي *
ترجمة: د. مخلص الرحمن **
* كاتبة هندية ومديرة مؤسِسة لـمهرجان جيفور للآداب، الهند. لها عشرون مؤلفا في الموضوعات المختلفة بما فيها القصة القصيرة والرواية والمسرحية وغيرها.
** أستاذ مساعد ورئيس قسم اللغة العربية، كلية ايتش. بي. التابعة لجامعة بردوان، الهند.
mukhles1@gmail.com

—————————

عند نقطة التقاطع، بدت شوارع دلهي خضراء باهتة من شباك السيارة، وتَراءَى لي وجه أمامي وكعادتي في الهند أغمضت عيني، لأنه عندما كنت صغيرة كانت يدي تتحسس حقيبتي، لكني مؤخرًا تغيرت وصرت أشيح عنهم بعيدًا لأنه من المهم تفادي التقاء العيون فهؤلاء الأشخاص واسعوا الحيلة، حينما أصابع نحيلة لشاب دقت على الحاجز الزجاجي الآمن لسيارة المرسيدس السوداء لأخي، وظللت انظر بعيدًا بحزم إلى أن تغيرت الأضواء وانطلقت السيارة، والسائق المدرب الخبير احتفظ بعدم اكتراثه بشكل جيد. فقد المتسول -الذي أخطأ في تقدير كيده ونقاط ضعفي – توازنه بسبب حركة السيارة القوية. تساقط عكازه الخشبي البالي في الرَدغة الموسمية، وظهرت علامة الرضوخ على وجهه. لم أستطع إغلاق عيني تماما، لا أحد يستطيع أن يفعل ذلك أبدًا، إن العيون والآذان تسجل، حتى لو قاوم العقل. هز المتسول كتفيه – لقد كان هزًا رجوليًا، ولم يكن يحمل في طيه أي عداوة، ثم اقترب من السيارات التالية.

               الهند مليئة بالفقراء، ولا يمكننا إطعامهم جميعًا، فمن واجب الحكومة أن تفعل شيئًا. وهذا ما ندفع الضرائب لأجله. هذا ما يقوله أخي دائمًا، وزوجي…زوجي السابق الآن، لم تكن آراؤه مختلفة في الحقيقة، أما أنا فقد تعلمت أن انظر بعيدًا، تعلمت ذلك في وقت مبكر من زواجي. فقد شرحت لي أم زوجي ذلك قبل زمن طويل، عندما كنت لا أزال في الهند “الرجال هكذا” كما قالت. وأضافت: “هم مختلفون، عليك أن تتعلمي إغلاق عينيك. لكن تذكري، أنت زوجته، ولا شيء يمكن أن يغير ذلك”. هذا ما قالته، لكنها ماتت قبل ست سنوات تقريبا. وخاتمها الماسي يتلألأ فى إصبعي وأنا وزوجي مطلقان.

كنت أعتقد أن الأسوأ قد انتهى في زواجنا بانفصالي عنه، وكنت أتجاهل أفعاله الطائشة، وتَغَاضَيت عن سَفاسفه، وبرّأته من خياناته. حينها كنت على يقين أنه مازال يحبني أو على الأقل يهتم بي بطريقته الخاصة. ولكن الطلاق فاجأني تمامًا على الرغم من أنه قام بتسوية سخية للغاية، ولم يكن المال هو المشكلة على أية حال، أو مثل أحد المشاكل بيننا. لا بد لنا أن نعترف بأن النساء يجدن الرجال الأثرياء جذابين، وزوجي – زوجي سابقا الآن– ثري جدًا، فهن يتجمعن حوله كما يتجمع الذباب حول الحلوى، وأحب لفت انتباههن. تغاضيت عن ذلك قدر المستطاع، ولكن شيلا كانت أكثر إصرارًا من البقية، أقنعته أنهما وقعا في الحب، وراميش –زوجي – ساذج حقًا، وبعد أحد عشر عامًا من زواجنا، وبعد ست سنوات من وفاة حماتي، كنا مطلقين، وكنت وحدي في دار الضيافة لأخي في دلهي.

لقد نشأت في بومباي – ومازال شقيقي يعيش هناك. في الحقيقة لم أقرر بعد أين سأعيش، أو ماذا ينبغي أن أفعله بعد ذلك، إنه شعور مريح أن ليس لدي أولاد، ربما لكانت الأمور معقدة لو كان عندي أطفال، ربما لم يكن راميش ليتركني، لقد أخبرني الطبيب أنه يعاني من قلة في عدد الحيوانات المنوية، لكنه لا يعترف بذلك أبدًا، وشيلا على حد علمي تلاعبت بمشاعره، قالت له (لأنه قام أخي بالتنصت على هاتفه)، ليس لديك أطفال، يا راميش، لكان الأمر مختلفًا لو كان لديك أطفال. لا يوجد شيء يجمعكما معًا، ليس لديك عائلة على الإطلاق.

انطلقت السيارة بسرعة إلى المطار، حيث سأستقبل صديقتي أماندا، القادمة من لندن لرؤية تاج محل. ولتلتقي ببعض أصدقائها في دارامسالا بعدها، أنا وأماندا لم يكن لدينا الكثير للحديث مع بعضنا البعض. فأنا خجولة في التفاعل مع الناس، لكني أحبها وأنا مرتاحة في صمتنا. وهكذا كنا في اليوم التالي على الطريق السريع، على طريق ماثورا، مرورا بالمباني ذات المظهر الصناعي وضوضاء حركة المرور الصاخبة التي لا تستطيع خرخرة المرسيدس الجيدة أن تخفيها.

لقد أحببت دائما تاج محل، إنه المبنى الأكثر رومانسية في العالم، أقصد حين أفكر في ذلك: هل يوجد أي رجل يقضي اثنين وعشرين عامًا من حياته ويصرف أموال طائلة على زوجته؟ يجعلني أشعر برغبة في البكاء، وأتمنى أن أكون محبوبة مثلها، كانت المناظر الطبيعية – من أبقار وإبل وحقول غمرتها المياه وتعكس سماء المانسون – جميلة جدا. توقفت أماندا مرة أو مرتين لالتقاط الصور. وبعد شارع ماثورا، أرادت أن تتوقف عند مقهى على جانب الطريق لتناول فنجان من الشاي، في الحقيقة حاولت أن أشرح لها أن هذا الفعل ليس آمنا، وأن سائقي الشاحنات يصابون بالجنون عندما يرون امرأة بيضاء، وأنه من الممكن أن تتعرض كلانا للاغتصاب، لكنها لم تقبل بذلك، وطبعا عليها أن تلتقط صوراً لسائقي الشاحنات، أولئك السردارجي الضخام الممددين على السرر والشاربوي، وهم يخدشون ما بين الفخذين. سمعت أنهم جميعًا مصابون بالإيدز.

كان الفندق مكانا مريحا. وهذا ما تعودت عليه لما فيه من الردهات الرخامية، والسجاد الناعم، والرائحة الآمنة لرغد العيش، كان زوجي راميش يقول لي دائمًا: إنه يستطيع أن يعمل بشكل أفضل في “بيئة خاضعة للرقابة. أعتقد أنني أحب الشيء نفسه، وعند طلوع الشمس قررنا زيارة تاج محل، لإنه دائمًا يبدو أجمل عند الفجر ملفوفا في ضباب الصباح، إلى جانب ذلك، وتكون رسوم الدخول في ذلك الوقت، مكلفة أكثر مما بعد، ولكن لا يكترث به أحد حقًا إذ لا يواجه تدفق الناس وقتذاك.

دوما، شعرت بالأسف الشديد لممتاز محل المسكينة. أعني، تخيل بعد أن كانت قرينة شاه جهان، الزوجة الرئيسة للإمبراطور، نور البلاط المغولي، أصبح قبرها الآن ممتلئًا بكل هؤلاء العمال البيهاريين، لا بد أنها تتململ في قبرها، وذلك بالمعنى الحرفي. في الواقع، تقع القبور الحقيقية تحت الأرض، لكنني أعتقد أنهم يسمحون للجمهور بالدخول هناك. أتذكر أنني ذهبت مرة إلى تاج محل يوم الجمعة – إذ الدخول مجاني في أيام الجمعة – كانت تتواجد تلك الحشود، وكل شيء يفوح منه رائحة الموت والفقر. والنساء المسنات من ولاية ماهاراشترا بملابسهن “نواري ساري”  – كلهن يشبهن النساء الجميلات اللاتي ينظفن ويمسحن في شقتنا في مدينة مومباي – كن يحدقن في ذهول ودهشة في تاج محل. أعتقد أنهن لم يرين شيئًا كهذا من قبل.

كانت أماندا منبهرة. ورأيت نفس الشيء مع الأجانب، فهم غير مستعدين لجمال تاج محل إذ لا تكون الصور تعبيرا دقيقا أبدا للتناغم المذهل وروعة النِسب – كل شيء في محله كما ينبغي أن يكون. لم يكن من الممكن أن يكون في أي شكل آخر، ونهر يامونا، المنتفخ بسبب المانسون، يتدفق بجانب تاج محل، ويبدو كنهر من الحرير في ضوء الصباح اللطيف، ويقال إن شاه جهان كان يريد أن يبني تاج محل آخر على الضفة المقابلة للنهر بالرخام الأسود إضاءة للتباين. أنا فرحة بأنه لم يفعل كذلك، لأن ابنه أورنغزيب منعه من ذلك. أعتقد أنه لو فعل ذلك لكانت تبدو مثل رقعة الشطرنج قليلا. ربما أنا على خطأ.

أتساءل ما إذا كانت (ممتاز محل الزماني) جيدة في الفراش. (لقد كنت دوما متفوقة على الآخرين في مادة التاريخ في مدرستي الداخلية في منطقة التلال). تزوجته وهي في العشرين من عمرها، ولم ينظر إلى امرأة أخرى بعدها، أو هكذا يقال، ماتت وهي تضع طفلها الرابع عشر. مات سبعة من أولادها وبقي سبعة منهم في مدة عشرين سنة. حتما، إنها حملت وحضنت أطفالها واحدا بعد آخر. بالطبع، لم تكن ترعى أطفالها بنفسها، كانت لديهم ممرضات ومرضعات، أتساءل عن حياتها الجنسية، هل وصلت إلى النشوة الجنسية في وقت ما، لم أشعر أبدًا بنشوة جنسية في حياتي، أنا وراميش، لم نكن أبدًا جيدين في الفراش معًا. وبالطبع، بالرغم من أنه لم يكن هناك أي شخص آخر، أنا امرأة هندية، أليس كذلك؟

كان من الممكن أن تكون الأمور مختلفة لو كان لدينا أطفال. ولكن انظر إلى شاه جهان، إذا سمحت، سبعة أطفال من زوجته المفضلة، وماذا يفعلون؟ أورنغزيب، أصغر أبنائه، قتل دارا شيكوه، ابنه المفضل. ثم سجن والده في قلعة آغرا. يمكنني أن أتصور بأن أورنغزيب ربما كان رجلاً صالحًا، مثل أخي. لا بد أنه كره إسراف شاه جهان، لأنه من اللازم أن تاج محل كلفهم كثيرا، بالتأكيد.

أتذكر أنني قرأت في مكان ما أنه عندما أراد أورنغزيب استعارة جواهر شاه جهان لتتويجه، ثار الرجل العجوز لدرجة أنه بدأ يقذف الجواهر الثمينة في الغبار بالمِدَقَّةُ والهاوَن. وأوقفته ابنته الكبرى جهانارا بيغوم التي تدعى بـ بيغوم أي صاحبة، كما أعتقد. وقرأت في نفس الكتاب أن شاه جهان نام معها بعد وفاة والدتها، ما وصفه المؤرخون المعاصرون بـ “أنه ذاق ثمرة غصنه”. لا بد أنه شعر بوحدة شديدة بعد وفاة ممتاز محل، وربما بدت جهانارا بيغوم مثل والدتها. على أية حال، لم يكن الأمر مبررا، لكني أعتقد أن القواعد مختلفة عند الأباطرة.

تحركت أماندا بالكاميرا. من البديهي أنها تستمتع بنفسها، تنقضّ على الرخام الأبيض في عباءتها السوداء وسروالها الضيقة، كأنها خفاش ثائر. “لا يمكن أن يكون هناك تاج محل آخر، هل يمكن أن يكون، يا ملكة؟” صرخت وهي تدير عينيها بطريقتها المعتادة، أخبرتها كيف قام شاه جهان بجدع وإعاقة جميع الصُنَّاع بمرسوم إمبراطوري، حتى لا يتمكنوا من بناء قصر منافس لأي ملك في أي مكان آخر. أنا دائما أتمتع بسرد تلك القصة للأجانب لكي أرى ردود فعلهم وارتباكهم، بدوا مرعوبين ولا يعرفون أبدًا كيف يُظهرون ردود فعلهم.

طوال الوقت، كان يلاحقنا المرشدون والمصورون الذين يعرضون علينا مرافقتنا في زيارة المكان، لكننا تجنبناهم ببراعة. وكان المطر قد غسل الرخام، فبدا جديدا وشفافًا. عندما افترقت الغيوم وأضاءت شمس الصباح الرخام الذي يعكس ضوء النهر، حبست أنفاسي في دهشة. الجمال كاللغز، لطالما له القدرة بإيقاعك في الدهشة مرارًا وتكرارًا، كنت أُعتَبر جميلة حينما كنت أكثر شبابا، وحتى راميش كان مفتونا بي، بالرغم من أنني مازلت أبدو كذلك إلى حد كبير حتى الآن – وشكلي لا يزال جيدًا، وبشرتي أيضا – لكن تغير شيء ما، أنا شخص موضوعي، وأعلم ذلك. أبدو متوترة ومنهكة، كما تعودت أن أكون. ولم يكن من المفترض أن يتفكك الزواج الهندي بالطريقة التي حدث بالنسبة لي.

اختفت الشمس وراء سحابة، وبدأ رذاذ خفيف يتساقط. صرخت أماندا بفرح، لم أسمعها يوما تبدي رد فعل كهذا بسبب نزول المطر في لندن. دخلنا في الضريح التذكاري من خلال الباب المقوس، ولاحظت التناسق المثالي لجناحَين مائيين ممتدَين في توازٍ شديد إلى قِباب المدخل الرئيسي. تعلق مرشد بنا ملحا، ولم يسمح لنا بالذهاب. وبالتالي، إذعانا لاستمراره، سمعنا حديثه الجاهز: استغرق بناء تاج محل حوالي اثنين وعشرين عامًا حيث عمل فيه عشرون ألف عامل، نُقش نبات الخشخاش على قبر شاه جهان، ويتواجد الصدى في القبة، وما إلى ذلك. خيم الظلام في الداخل، ومصباحه اليدوي واصل إرسال أشعته عبر الظلام، وتضيء الجدران المرصعة بالزهور، تصميمًا هندسيًا، رائحة الميت في الضريح. وكنت أعلم أن القبور الحقيقية آمنة في القبو الفعلي أدناه، وتم إغلاقه للإصلاح. وهذا الضريح لشاه جهان وزوجته ممتاز محل مجرد نموذج، صُنع لإيجاد التوازي، ولصرف النظر عن الضريح الحقيقي.

كانت أماندا تصرخ فجأة بفرح مرة أخرى. التفتُ لأجدها بين ذراعي رجل طويل جدًا، بدا وكأنه أمريكي، وعندما قامت بتقديمه إليّ، اكتشفت أنه بريطاني مثلها، قالت أماندا، هو صديقي توني رايس، وحتى في الظلام تمكنت من ملاحظة بشرتها التي تتلألأ، يا لها من مفاجأة رائعة أن ألتقي به هنا! اختفوا في الظلام المقبب مع الدليل. وكنت أستطيع أن أسمعهم يصرخون ويصيحون في حيرة ودهشة وهم يتفحصون الزخرفة. حماسهم جعلني متعبة للغاية، فتراجعت إلى الزاوية أشاهدهم يتجولون مع السياح الآخرين -الألمان ذوي البشرة الوردية، واليابانيين، والهنود غير المقيمين ممن يرتدون تي شيرت.

عندما توقف المطر أخيرًا، عدنا إلى الرخام الأبيض المغسول بالخارج. رأيت طاووسًا فوق إحدى المنارات، وهو يجفف ريشه، ويرفرف ويهز جناحيه الثقيلين الأزرقين. لسبب ما، لم أخبر أماندا وتوني عنه، إذ كان الطائر يستحق خصوصيته، وبالإضافة كان لديهم بالفعل ما يكفي لكاميراتهم، وكان هناك سنجاب صغير قلِق، يركض صعودًا وهبوطًا على شجرة النيم، ويهز ذيله الكثيف ليجفف نفسه من المطر. وحين مرورنا عبر البوابات الرئيسة الممنوعة حيث توجد الماسحات المعدنية والأجهزة الأمنية، رأيت قطتين صغيرتين سوداوين، عيونهما الخضراء تلمع في الظلام، وهما جالستان مرتاحتان جافتان في عش من حصير ألياف جوز الهند الملفوف، وبدأ الدليل، الذي ما يزال قريبًا منا، بالثرثرة مرة أخرى بلغته الإنجليزية ذات اللهجة الغريبة. وأشار إلى قبر زوجتي شاه جهان الأُخْرَيَيْن وأوضح كيف دُفنتا خارج المجمع الرئيسي لأنهما، لسوء الحظ، كانتا عاقرين وبلا أطفال. بدت المواساة من صوته. كنت أريد أن أركله في ما بين فخذيه.

رافقَنا توني إلى الفندق. أرادت أماندا أن تستريح لبعض الوقت قبل الغداء. أماندا امرأة جذابة، لكن عندما اجتمعنا مرة أخرى في وقت الغداء، بدت جميلة بشكل إيجابي. “توني ذاهب إلى جيفور”، كما قالت، وهي بدت مشدوهة ومخبولة مثل فتاة مراهِقة، “ثم إلى أودايفور وجودفور. لقد قررت الذهاب معه.” ثم أطلقت ضحكة لاهثة. أخشى أن تضطري للعودة إلى دلهي وحدك يا ملكة، كان شعور بارد بالغيظ يتراكم بداخلي. لكني لم أقل شيئا. كان الماس الموجود على إصبعي، الذي كان لوالدة راميش، يتلألأ بشراسة، مرسلاً ضوءا حادا بالأخضر والأزرق. درسته بتأني، وحاولت ألا أستمع إلى أغنية غزلية يعتبرها الفندق شيئا أساسية لطبق التندوري.

الطعام الهندي في لندن أفضل بكثير مما تجده في الهند -حتى توني وأماندا قالا ذلك، على الرغم من أنني وافقت في قلبي، إلا أنني اعترضت وقلت إن ما أكلناه لم يكن طعامًا هنديًا إطلاقا في الواقع. فجأة، تذكرت كيف كان مذاق الطعام الذي تطبخه جدتي البنغالية بالرغم من أنها تزوجت من سندي. كان طبخها معبقا بالنكهات ومعطّرا برائحة التوابل غير المتوقعة. مجرد ذكرى كاري السمك الخاص بها جعلني أرغب في البكاء، وشعرت بوحدة رهيبة.

آغرا مدينة قبيحة، وامتداد شنيع من الأوساخ والأدران، وعندما تركنا ضواحيها، لم أستطع إلا أن أقع في حلم رومانسي حول ما كانت عليه المدينة في زمن المغول. تساءلت عما إذا كان السير جيمس روبوك سخيفا وغير منطقي مثل توني رايس. فكرت في مينا بازار، حيث كانت نساء البلاط يعرضن بضاعتهن للملك لفحصها. تساءلت عما إذا كن قلقات بشأن الخطوط الموجودة تحت أعينهن، وبشأن تدَلي أثُدِائهن، وعن فقدان السيطرة، ورأيت فتاة جميلة في البلاط تبيع الأساور المطلية وغيرها من الحلي للحاشية والنبلاء حتى للإمبراطور نفسه.

عند العودة من آغرا وحدي، نظرت إلى الخارج من الشبابيك المغطاة بالضباب في المناظر الطبيعية التي تمر بسرعة. بدت الأرض الخضراء المبللة قانعة ومرتاحة، وحتى السائق كان يبتسم لنفسه وهو يهمهم بأغنية.

تذكرت الوقت الذي كنت أنفجر فيه بالغناء قبل زمن، بشكل عفوي ودون إثارة. كانت والدتي تعتقد أن صوتي جيد – كل الأمهات يعتقدن كذلك- وأُرسلت لتعلم الموسيقى الكلاسيكية من روما ديفي، وهي أرستقراطية كَرِيمة المَحْتِد، التي صدمت جيلها بتعلم موسيقى ثومريس  ودادراس  من المومسات، حتى زوجها كان خبيرا بالموسيقى والنساء والسيجار، رفض تجاوز نقطة معينة في حماسها بشكل مؤدّب. لكن روما ديفي اتخذت مومسا عجوزا كمعلمة لها. وبمرور الوقت، تعلمت من أوساطها الاجتماعية التعايش معها، حتى قمن بإشادة أسلوبها وجرأتها. كان ذلك، بالطبع، قبل أيام كثيرة. أعتقد أن الأمر عكس ذلك تمامًا الآن، وأن كل مغني ناوتانكي قديم   يرتقي تلقائيًا إلى مرتبة بيغوم أختر من قِبل مجتمع متعطش للإثارة.

على أية حال، أتذكر طفولتي بطريقة شاعرية مبهمة، بما يتماشى مع الطقس وألوان المناظر الطبيعية، حينها ظهرت فجأة ذكرى غير سارة مع ومضة سريعة من الحقيبة السوداء المقفلة التي تشكل الماضيّ. بين الحين والآخر، أقوم فقط بإرسال أجزاء من حياتي – الأجزاء غير السارة إلى هذه الحقيبة الكبيرة التي تقبع بشكل غير محتمل في غرفة الرسم بألوان الباستيل في رأسي. إنها تحتوي على قفل حديدي قوي رميت مفتاحه بعيدًا. لكنني أعرف كيفية استعادته كلما احتجت إلى الإقفال على الأشياء فيه. ربما كانت هذه هي المرة الأولى في حياتي التي حاول فيها شيء ما الهروب من الحقيبة بمفرده. اعتقدت أنه أمر مشؤوم، ينذر بالسوء، وتجاهلت الصورة المستمرة لعازف الطبلة الذي كان مرِنا مثل القرد ويرافق رومى ديفي، وهو مخلوق ضعيف فكاهي يدق دقات بارعة على الطبلتين المائلتين، وينظر بتقدير عندما تغني روما ديفي.

كانت لروما ديفي طريقة خاصة للنظر إليه فجأة في منتصف الأغنية. وهو أيضًا، كان يرفع حاجبيه ويومئ برأسه ويبدو أكثر تقديرًا من المعتاد. دائما وجدت ذلك محببا جدا. ذات يوم، عندما كنت أتعلم الموسيقى، أعطيته نظرة مماثلة، وابتسمت في عينيه، هو رفع رأسه وأومأ بحاجبيه ردًا. فجأة، تم الاتصال بروما ديفي، وكان ذلك من خلال مكالمة هاتفية كما أعتقد. لم يحضر الطلاب الآخرون في ذلك اليوم الممطر إذ كانت المياه قد غمرت المدينة. كنت أعيش في مكان قريب، وكان سائق والدي قد أوصلني. في الواقع، كان ينتظر في الخارج، وكانت روما ديفي على الهاتف، في ذلك الوقت قفز عازف الطبلة عليّ بحركة وحشية. كان فمه على فمي، يقبلني، ويدسّ عليّ لسانه الداكن وأسنانه الملطخة بالتنبول. لقد جمدت من الذعر والهلع، وكان الخوف المستمر يلفّني تمامًا لدرجة أني حتى اليوم، بعد سنوات عديدة، أتصبب بالعرق حينما تذكرته. ومضت الصورة في ذهني لجزء من الثانية، ثم اختفت. امتنعت عن التفكير، وأجبرت نفسي على نسيانها مرة أخرى.

حاولت يائسًة أن أتذكر ما حدث، ولكني فشلت في استعادة الذكرى. نظرت إلى السيارة   والسائق والمنظر الأخضر في الخارج، ووقعت في حيرة بشأن من أنا وأين أنا؟ استطعت استحضار الخوف، كنت خائفة من والدي، من أن يكتشف الأمر، من أن أكون حاملا. وظننت أنني قد أنجب طفلاً هناك، وبما أنني لن أتجرأ لطرده بعيدًا، فوالدتي ستكتشف ما فعلته.

اليوم فقط، بعد مرور سنوات، تبادر إلى ذهني ذكريات الماضي – أقسم بالله إنها ومضة ارتجاعية، كإشعاع ضوء أبيض نظيف بأنني لم أرتكب شيئًا خاطئًا. ولم أرتكب ذنبا، ولا لوم عليّ. كنت ابتسم ببراءة على عازف الطبلة لروما ديفي وهو هاجمني، كان وحشيا في منتصف عمره. وسامحته، فأنا شخصية كريمة بهذا المعنى. لقد سامحت حماتي وزوجي راميش على كل الفظائع التي أتذكرها والتي لا أتذكرها. لقد سامحت فرقات خان على تصرفه الذي لا يوصف. والأهم من ذلك أنني سامحت نفسي. ذنبي، ومخاوفي، وصمتي، وكرهي لجسدي – حل كل شيء محله. عرفت فجأة كل ما حدث لي وراميش، ولماذا توقفت عن الغناء.

في العصر الحاضر، يسمون ذلك بـ إساءة معاملة الأطفال. دائمًا، وجدت ذلك الأمر غير قابل للتصديق، كذلك تلك المقالات الصحفية المملة والمقابلات التلفزيونية، وتلك الصدمة المبالغ فيها، ولكن الآن بعد أن استجمعت ذاكرتي تلك القطعة المفقودة من الأحجية، الآن بعد أن أتذكر ماذا حدث، الآن بعد أن عثرت على هذا الدليل المهم، يبدو الأمر كما لو أن الغيوم قد انفصلت وسمحت لضوء الشمس بأن يدخل. كان هذا ما أدى إلى كل الخيانات اللاحقة. وكل ضرر لاحق قد أكد ذلك الهجوم المرير الأول.

كانت ثقتي هي التي قد تعرضت للإساءة، وبمجرد انتهاك هذا الدفاع الأول، بدأت العملية بجِدِّيَّة: والداي أعطياني مثل قطعة أثاث، أنا وافقت، كما أوافق دائمًا، والذنب ينخر داخلي، ويأكلني حتى اليوم. في طريق عودتي من آغرا، كانت أغنية السائق المتعثرة قد أفرجتني عن ذلك السجن الخيالي، وذلك الماضي المنسيّ.

كذلك يحدث بي، كل شيء يحدث بسرعة كبيرة. الآن، مع سرعة الحمائم التي ترفرف، قد انفلتت تلك الذاكرة الخاضعة للرقابة من فخاخ الماضي. لست بشخصية شاعرية، وأنا لا أختلق هذا، لكن ما حدث بعد ذلك كان نوعًا ما رمزيًا، لقد جعلني أشعر بالتفاؤل، بطريقة ما. كنا ما زلنا على الطريق المؤدي إلى دلهي، وإلى الغرب، كانت السماء صافية، وانتشر قوس قزح مضيء في ابتسامة فوق الأفق، وألوانه المتعددة تتلألأ في السماء اللؤلؤية.

هذا أمر شاعري بقدر ما أسمح لنفسي أن أكون. عائلتي سِندية، علما بأن جدتي كانت بنغالية. لم أنفجر بالغناء، حتى أنني لم أبتسم، لكن الأيدي الحديدية السبعة المحيطة بقلبي كانت قد تفككت. كان المستقبل مستقيماً وسهلاً مثل الطريق أمامي، والماضي قد وَلَّى الدبر. ولدى العودة من آغرا تركته ورائي في مكان ما على الطريق، مع تاج محل وأَشياء أُخرى.

……………….. *****. ………………

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here