منهج الأستاذ فاضل السامرائي في التفسير البياني وإجراءاته في إبراز الإعجاز النحوي
د. جاويد أحمد بال
أستاذ مساعد، قسم اللغة العربية وآدابها، الكلية الحكومية للنساء في بلوامه (كشمير).
paljavid@gmail.com
—————————
ملخّص البحث:
الأستاذ فاضل بن مهدي البدري السامرائي من النحويين المعاصرين الكبار الذين ساهموا في إثراء المكتبة العربية بالبحوث والدراسات الأصيلة التي لها دور فعال في إنعاش علوم النحو في سياق التفسير البياني، فقد كرس الأستاذ فاضل السامرائي حياته للدراسات النحوية، واهتم بالجانب النحوي للقرآن الكريم ليكشف الستار عن أسراره الإعجازية بإجراءاته اللغوية، وأوضح بمثل هذه الوسائل أن في استعمال القرآن الكريم للفظة خصوصية قد تتغير بتغير حرف واحد في التركيب، فجاءت مؤلفاته مليئة بفوائد كثيرة حول الإعجاز النحوي التي توجد في التركيب القرآني، ومن الوسائل والأدوات التي استخدمها لأجل إبراز هذا الإعجاز: أولا تقليب الكلام على ما يحتمله من أوجه، وهو النظر في احتمالات أخرى لأداء نفس المعنى بعرض مفردات أخرى على التركيب القراني، ثانياً النظر في بناء الكلمة أو نوع الجملة وربطه بالدلالة والبلاغة، إذا كانت وسيلة تقليب الكلام على ما يحتمله من أوجه مقتصر على السياق غالباً فهنا ينظر الأستاذ فاضل إلى الاسم أو الفعل أو الحرف من حيث علاقتها بالمعنى ليبرز لنا الإعجاز الكامن في اختيار دقيق لكلمة ما في النص القرآني، ثالثاً هو يقلب الأفعال أحيانا من حيث أنواعها المختلفة ليكشف لنا الدقة في الاستعمال القراني للأفعال، رابعاً النظر في أغراض تقديم الألفاظ وتأخيرها، كما هو معروف في علم البيان ويطبق ذلك على النص القرآني في ضوء السياق المحدد، وأخيراً يعقد الصلة بين المقام والظواهر المختلفة مثل التأكيد والحذف والتشابه والاختلاف ليرينا أن القرآن نص معجز في البناء النحوي.
الكلمات المفتاحية: التركيب، التفسير، القرآن، الكلمة، المعنى، النحو
الأستاذ فاضل السامرائي هو فاضل بن مهدي البدري من مواليد 1933 م، وعشيرة ” البدري” من إحدى عشائر سامراء، وهو أستاذ متخصص فى مادة النحو، اشتغل مدرسا ودرس مادة النحو حوالى أربعين سنة واشتغل على مناصب مختلفة فى جامعات عربية مختلفة مثل جامعة الكويت وجامعة عجمان وجامعة الشارقة، وجدير بالذكر أنه قضى ما يقارب أربعين عاما أستاذاً للنحو في جامعة بغداد، كانت رسالته للماجستير بعنوان ابن جني النحوي ورسالته للدكتوراه بعنوان الدراسات النحوية واللغوية عند الزمخشري، وللدكتور فاضل برنامجه الشهير “لمسات بيانية” قدمه على قناة الشارقة وبالإضافة لكون الدكتور نحوياً فذاً وعالماً جليلاً فهو أيضاً شاعر كبير. ومن أهم كتبه الجملة العربية والمعنى، ومعاني النحو، والجملة العربية تأليفها وأقسامها، على طريق التفسير البياني (ثلاثة أجزاء)، نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من الشك إلى اليقين، بلاغة الكلمة في التعبير القرآني
منهجه في التفسير البياني:
كان للأستاذ السامرائي باع طويل في فهم الأساليب القرآنية حتى استطاع أن يميز بين أسلوب وأسلوب وبين كلمة وأخرى حتى بين حرف وحرف آخر، ويتجلى من خلال تفسيره الموسوم بـ”على طريق التفسير البياني” أنه “استطاع أن يصل إلى الدلالات والمقاصد انطلاقا من اللغة القرآنية ذاتها معتمدا على بنية الكلمة ومالها من دلالة و على معنى الكلمة الخاص الذي تتميز به دون مرادفاتها و على التركيب القرآني و ما يعتريه من تغيرات والتواءات و علاقته بالمقاصد و الدلالات”[1]، يقول في مقدمة الكتاب:
” فهذا كتاب في سلسلة كتب التعبير القرآني التي كتبتها، آثرت أن أسميه: ( على طريق التفسير البياني)، ولم أشأ أن أسميه (التفسير البياني)، لأنه في الحقيقة ليس تفسيراً بيانياً للقرآن الكريم، وإنما هو قد يكون خطوة أو خطى على طريق التفسير البياني، أو نقطة فيه قد تكون نافعة لمن يريد أن يسلك هذه السبيل. ومن المهم أن أذكر ههنا أنني في أحكامي واستنباطاتي اعتمدت على القواعد المقررة والأصول الثابتة في اللغة، ولم أخرج عنها. وقد حاولت أن أنأى عن التعليل الذي لا يقوم على أساس من مسلمات اللغة وأحكامها، وعملت على أن يكون الكتاب ميسور الفهم لمن يقع في يده، غير أنه لا شك أنه سيكون أوضح في الحجة وأبين في الاستدلال لمن كان له بصر باللغة ومعرفة بأ حكامها.”[2]
لم يتحدث الأستاذ السامرائي مباشراً عن منهجه في التفسير ولكنه يحدثنا في مقدمة الكتاب عما يحتاج إليه المتصدي للتفسير البياني من الأدوات المهمة والعلوم اللازمة، وضمنها خمسة عشر أمراً، وقد تقيد السامرائي بهذه الأمور إلى درجة كبيرة، فمنهجه منهج تطبيقي علمي فقد كان همه الوحيد إثبات الوجه البياني والإعجازي للقرآن الكريم بالإضافة إلى تعميق الصلة به وتقوية الإيمان به. وأشار الأستاذ السامرائي في مقدمته أيضاً إلى ما يحتاج إليه المفسر البياني، فهو بالإضافة ما يحتاج إليه المفسر العام من معرفة أسباب النزول والقراءات والأقوال المأثورة والاطلاع على كتب التفسير وغيرها، يحتاج أيضاً إلى التبحر في علوم اللغة العربية، والعناية بالسياق ومراجعة المواطن القرآنية التي وردت فيها أمثال التعبير الذي يراد تبيينه لاستخلاص المعنى المقصود وعلم بخصوصيات الاستعمال القرآني وفهم تعليل سائغ للوقف والابتداء وتغيير المفردة، لعله يميز المفسر العام والمفسر البياني: “فالمعرفة الواسعة والتبحر في علوم اللغة من ألزم الأمور للمفسر وهي للمفسر البياني ألزم”[3] يقول الباحث د. اليزيد بلعمش : “منهج فاضل السامرائي يقوم على ثلاثة أركان، هي: مصادر ترتكز عليها الدراسة، وضوابط تتقيد بها، وآليات وإجرءات تستخدم فيها”[4] ويعني بالمصادر علوم القرآن وأهمها علوم اللغة خاصة البلاغة منها، وبالضوابط مراعاة قدسية النص ومكانته، بالإجراءات دراسة المفردة في مستويات مختلفة وجمع المواطن المتشابهة والمقارنة بينها، وكان يعتقد أنه ليس هناك زيادات في الجملة القرآنية حيث لكل الزيادة معناها الخاص ودلالتها المعينة، إذاً فسر الأستاذ السامرائي القرآن الكريم تفسيرا بيانياً دقيقاً متفحصاً دقائق علم النحو باحثاً عن أسرار التعبير القرآني، مجتهدا ما وسعه الجهد في التوسل إلى خفاياها واستخلاص معانيها الكامنة والظاهرة، يستقرأ القواعد النحوية إزاء بناء الجملة القرآنية ويثبت أنه بناء معجز حيث أنه يوحي إلى دلالات إضافية ومن الطرق والأساليب التي أبرز بها الإعجاز النحوي في القرآن أنه كان يقلب الكلام على ما يحتمله من أوجه وينظر إلى علاقة النحو بالمعنى والبلاغة، فينظر إلى استعمالات خاصة للاسم والفعل وأنواعه والصيغ المشتركة للفعل في مواطن التشابه والاختلاف وتقديم اللفظ وتأخيره على العامل أو غير العامل وفيما يلي تفصيل عن الوسائل والإجراءات التي يتخذها الأستاذ السامرائي في تأصيل المنهج وإثبات الإعجاز النحوي في القران.
إجراءات الأستاذ السامرائي لإبراز الإعجاز النحوي في القران الكريم:
1.تقليب الكلام على ما يحتمله من أوجه:
كان يقلب الكلام وينظر فى احتمالات أخرى لأداء نفس المعنى ليرينا إعجاز التركيب في اختيار دقيق له، نأخذ آية في سورة الحديد[5]، قال الله تعالى:
“يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ”(12).فقد قلب تركيب ‘يسعى نورهم بين أيديهم‘ على أوجه مختلفة فعلل قائلا:
“في هذه الآيات يتجلى إكرام المؤمنين وإبعاد النصب عنهم بخلاف المنافقين فإنها يتجلى فيها إرهاقهم وإهانتهم والتهكم بهم فقد قال في المؤمنين:
- أنه تعالى قال “يسعى نورهم” ولم يقل”يمشى نورهم” للدلالة على اللإسراع بهم إلى الجنة، وهذا إكرام فإن الإبطاء إلى السعادة ليس كالإسراع إليها، وفي الإسراع ما فيه من الإكرام.
- أنه تعالى أسند السعي إلى النور ولم يسنده إليهم فلم يقل”يسعون” لأن السعي قد يجهدهم، فأسنده إلى النور فدل على أنه يسعى بهم…..
- قال ” يسعى نورهم”، فذكر الفاعل ولم يقل”يسعى بهم” بالبناء للمجهول وحذف الفاعل وعندئذ لا يدرى أيسعون قي ظلمة أم في نور، فذكر أن لهم نوراً يسعى.
- أضاف النور إليهم، وهذا فيه أمران: الأول الدلالة على أن هذا النور إنما هو نور المؤمن، وهو يدل على قدر عمله. كما إنه لم يقل” يسعى النور” فيجعله عاما يستضيء به المنافقون، فجعل لكل مؤمن نوره الذي يستضيء به فلا يشاركه فيه غيره، وهذا إكرام للمؤمنين وحسرة على غيرهم.
- قال” بين أيديهم” ومعناها أمامه غير أنه لم يقل” أمامهم” لأن الأمام قد يكون بعيداً عن الشخص، فقد تسأل عن قرية فيقال: هي أمامك وقد يكون النور أمامك ولا تتمكن من الاستضاءة به لبعده….
- قال بأيمانهم”ولم يقل “عن أيمانهم” لأن معنى بأيمانهم أنه ملتصق بالأيمان وليس مبتعداً عنها…..
- قال” بشراكم”، ولم يقل”يقال لهم بشراكم” لأنه أراد أن يجعل المشهد حاضراً ليس غائباً، يُسمع فيه التبشير ولا يُنقل.
- وأضاف البشرى إلى ضمير المخاطبين لتنال البشرى كل واحد، ولم يقل “البشرى جنات” وهو إكرام آخر.
هكذا يمر الأستاذ ويتناول الآية الكريمة مفردة مفردة ليشرح لنا علل هذا الاستعمال الخاص في سياق إكرام المؤمنين، ويبرز إحدى وعشرين نقطة، ثم يبين الدلالات الأخرى في سياق إهانة المنافقين وإرهاقهم. نأخذ مثالا ثانياً من سورة الإخلاص، يقول الله تبارك وتعالى: “قل هو الله أحد” فيقلب الأستاذ السامرائي هذا التركيب ويسأل ويعلّل قائلاً:
“وقد تقول ولم لم يستعمل( واحدا) ههنا؟
والحواب أن ذلك لعدة أمور منها[6]:
- أن كلمة أحد خاصة بمن يعقل ومن يصح خطابه على العموم ولا تستعمل لغير العاقل، أما كلمة (واحداً ) فتستعمل للعاقل وغيره، فتقول ( كتاب واحد وقلم واحد)، فإذا سألك سائل (هل رأيت أحداً قي الدار؟) فإن لم يكن فيها إنسان قلت: لا. وإن كان فيها إنسان قلت نعم. ولا يصح أن تقول (نعم) إن لم يكن فيها إلا دابة كالثور والبعير وعموم ما لا يعقل.
وقد تقول: ولكن القرآن استعمل كلمة واحد لله تعالى. فنقول: نعم إنه استعملها لما يقابل الاثنين والثلاثة وعموم التعدد، فقال: ﴿لَّقَد كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَة وَمَا مِن إِلَهٍ إِلَّا إِلَه وَاحِد……..﴾[المائدة:73] فكان استعمال كل لفظة في مكانها أنسب.
- إن الواحد يدخل في الأحد والأحد لا يدخل في الواحد، ذلك أن كلمة (أحد) يدخل فيها معنى الواحد فعندما تقول (الله أحد) دل على أنه واحد ودل على أمور أخرى مع الوحدانية كالحياة والعلم، أما الأحد فلا يدخل في الواحد لأن كلمة (أحد) تدل على كلمة واحد و على صفات أخرى معها فكان استعمال(أحد) أنسب ههنا.
- إنك إذا قلت (فلان لا يقاومه واحد) جاز أن يقال: لكنه يقاومه اثنان بخلاف الأحد، فإنك لو قلت: (فلان لا يقاومه أحد) لا يجوز أن يقال لكنه يقاومه اثنان.
- النظر في بناء الكلمة أو نوع الجملة وربطه بالدلالة والبلاغة:
أما الوسيلة الثانية لإبراز الإعجاز النحوي في التراكيب القرآنية هي النظر في علاقة بناء الكلمة ونوع الجملة بالمعنى والبلاغة، فينظر مثلا في معانى بنى الاسم والفعل والحرف حيث يعتمد على قول اللغويين إن الاسم يفيد الثبوت والفعل يفيد التجدد والحدوث لأنه مرتبط بالزمن[7]. يقول الباحث اليزيد بلعش: “ينظر في الدلالة المعجمية للمفردة القرآنية، محاولاً العودة بها إلى أصل دلالتها ثم يربطها بسياقها كما فعل ذلك في توضيح (الفلق) و(الغاسق) و(وقب)، ولم يكن يهمل أبداً الدلالة والصيغة للكلمة، بل كانت حاضرة دوما في دراسته مع الربط بينها وبين المعنى المعجمي ومن أوضح المواضع في ذلك حديثه عن مدلول (الوسواس)، وعند تفريقه بين استعمالات القرآن للعالم وعلام وعليم”[8] وقد نرى في المثال السابق من سورة الإخلاص أنه لا ينظر في اختيار كلمة (أحد) بدلاً من (واحد) فقط ليري ملائمة كلمة (أحد) في السياق بل أيضاً ينظر إلى صلة كلمة (أحد) بالمعنى وبالبلاغة، فيستطرد قائلاً[9]:
“إن( أحد) صفة مشبهة على وزن( فعل) بطل وحسن. أما ( واحد) فعلى زنة اسم الفاعل من( وحد)، والصفة المشبهة أثبت من اسم الفاعل فأحد أثبت من واحد وأدوم، فالواحد قد تزول وحدانية إذا كان له نظير فتقول كنت واحدا فصرنا اثنين وكان واحدا فصاروا جمعا وقد يبقى على وحدانية إذا لم يكن له نظير. أما (أحد) فهي تدل على الثبات والدوام ووحدانيته لا تتغير ولا تزول فجاء بالصيغة الدالة على الدوام الأحدية وعدم تغيرها وهذا مناسب لقوله (لم يلد ولم يولد)”.
ويقول أيضاً: “إن كلمة (أحد) الواقعة في الإثبات خاصة بالله تعالى وهي تفيد الوحدانية في الذات والصفات فهو متفرد في ذاته ومتفرد في صفاته لا يشركه فيها غيره، أما الواحد فهي خاصة بالذات. جاء في ( البحر المحيط): واحد بمعنى واحد أي فرد من جميع جهات الوحدانية لأنه في ذاته وصفاته لا يتجزء، وهمزة أحد بدل من واو”
وكذلك يقال بالنسبة لأنواع الجمل وعلاقتها بالمعنى أن الجملة الاسمية تدل على الثبات الخبري والإسنادي حيث يصير المسند بالنسبة للمسند إليه كالوصف الذي لا يتغير كقصير وطويل، والحكم بالخبرية ثابت لا يتغير وهذا بخلاف الجملة الفعلية التي تدل على التجدد والمزاولة، كما أن النصب بخلاف الرفع لأنه يدل على الفعلية، ولأن العامل فيه فعل، بخلاف الرفع الدال على الثبوت، يوضح السامرائي فيقول: “قال تعالى ﴿هَل أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيفِ إِبرَاهِيمَ المُكرَمِينَ ﴾ ﴿إِذ دَخَلُواْ عَلَيهِ فَقَالُواْ سَلاما قَالَ سَلَام…﴾ [الذاريات:24-25] ففرق الله سبحانه وتعالى بين السلامين فجعل الأول بالنصب والثاني بالرفع ولم يسو بينهما وذلك لأن قوله (سلاماً) تقديره: نسلم سلاماً أي بتقدير فعل، وقوله (سلام) تقديره: سلام عليكم، أي بتقدير اسمية الجملة، والاسم أثبت وأقوى من الفعل فدل على أن إبراهيم عليه السلام حيا الملائكة بخير من تحيتهم.”[10]
3.تقليب الأفعال من حيث أنواعها المختلفة:
هذه أداة أخرى يستخدمها الأستاذ السامرائي لإبراز الإعجاز النحوي في القران، يقول في تفسير قول الله سبحانه وتعالى: ﴿لَقَدۡ حَقَّ ٱلۡقَوۡلُ عَلَىٰٓ أَكۡثَرِهِمۡ فَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ ٧﴾[يس:7] “وقال( فهم لا يؤمنون) ولم يقل (فهم لم يؤمنوا) ليدل على أنهم سيموتون على الكفر وأنهم لا يؤمنون في مستقبل حياتهم ولو قال( فهم لم يؤمنوا) لكان إخباراً عن أمر قد مضى. وكذلك لو قال( فهم غير مؤمنين) لاحتمل أنه يخبر عن حالتهم التي هم عليها وقت نزول الآية وقد يتغير ذلك في المستقبل فقد يكون أشخاص غير مؤمنين وقت نزول هذه الآية وسيؤمنون بعد ذلك فلا يكون عند ذاك إخباراً عن أمر غيب، فكان قوله الذي قاله أمثل شيء وأنسبه.”[11]
توقف الأستاذ السامرائي عند قوله تعالى: ﴿ءَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِۦٓ ءَالِهَةً إِن يُرِدۡنِ ٱلرَّحۡمَٰنُ بِضُرّٖ لَّا تُغۡنِ عَنِّي شَفَٰعَتُهُمۡ شَيۡٔٗا وَلَا يُنقِذُونِ ٢٣﴾[يس:23] فيقول في قوله تعالى ( إن يردن الرحمن بضر): “استعمل الفعل المضارع فقال(إن يردن) واستعمل الماضي مكان آخر فقال (إِنۡ أَرَادَنِيَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ هَلۡ هُنَّ كَٰشِفَٰتُ ضُرِّهِ) الزُّمَر:38 وعند النحاة أن الماضي في الشرط يفيد الاستقبال، والذي يترجح عندنا أن الفعل المضارع مع الشرط كثيراً ما يفيد افتراض تكرر الحدث بخلاف الفعل الماضي فإنه كثيرا ما يفيد افتراض وقوع الحدث مرة كما قال تعالى ﴿وَمَن يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمٗا ٩٣﴾[النساء:93] وقال: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٍ أَن يَقۡتُلَ مُؤۡمِنًا إِلَّا خَطَٔٗاۚ وَمَن قَتَلَ مُؤۡمِنًا خَطَٔٗا فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤۡمِنَةٖ …. الآية﴾ [النساء:92] فجاء مع القتل العمد بالفعل المضارع لأنه يفرض فيه تكرر الحدث، إذ كلما سنحت للقاتل فرصة قتل مؤمناً بخلاف قتل الخطأ فإنه لا يفترض تكرره، فنقول إن استعمال الفعل المضارع في سورة يس في قوله تعالى (إِن يُرِدْنِ ٱلرَّحْمَٰنُ بِضُرٍّۢ) إشارة إلى إنه كان يتوقع تكرر وقوع الضرر على الرجل الساعى من قومه وأنهم لا يكفون عن إلحاقه به ما دام بينهم”[12].
- عقد الصلة بين السياق أو المقام والظواهر المختلفة مثل التقديم والتأخير والتأكيد والحذف والتشابه والاختلاف:
يعتقد السامرائي أن الظواهر اللغوية مثل التأكيد وعدمه وذكر الحرف أو الكلمة وحذفهما لا تأتي كمصادفة عشوائية أو اعتباطية إنما تأتي لحكمة. فمن هذا الباب تقديم الألفاظ على العوامل منها تقديم المفعول به على فعله وتقديم الحال في فعله وتقديم الظرف والجار والمجرور على فعلهما وتقديم الخبر على المبتدأ ونحو ذلك. وأمثلة من القرآن كثيرة نحو قوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، وقوله تعالى: ( وربك فكبر) وقوله تعالى: (بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ)، هذا التقديم في الغالب يفيد الاختصاص، ومثل هذا التقديم في القرآن كثير: فمن ذلك قوله تعالى(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)في سورة الفاتحة، فقد قدم المفعول به إياك على فعل العبادة وعلى فعل الإستعانة دون فعل الهداية قلم يقل إيانا اهد كما قال في الأوليين، وسبب ذلك أن العبادة والإستعانة مختصتان بالله تعالى فلا يعبد أحد غيره ولا يستعان به[13]. ومن هذا الباب أيضاً تقديم الألفاظ بعضها على بعض في غير العوامل، وسببه في الغالب عند السامرائي العناية والإهتمام. والعناية باللفظة لا تكون من حيث أنها لفظة معينة بل قد تكون العناية بحسب مقتضى الحال والقران يقدم السماء على الأرض ومرة يقدم الأرض على السماء ومرة يقدم الإنس على الجن ومرة يقدم الجن على الإنس ومرة يقدم الضر على النفع ومرة يقدم النفع على الضر كل ذلك بحسب ما يقتضيه القول وسياق التعبير. ومن مقتضياته مثلا التدرج حسب القدم والأولية في الوجود، فيرتب الكلمات على هذا الأساس فيبدأ بالأقدم ثم الذي يليه وهكذا وذلك نحو قوله تعالى(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)الذاريات) فخلق الجن قبل خلق الإنس بدليل قوله تعالى( وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ(27)( الحجر) فذكر الجن أولا ثم ذكر الإنس بعد هم. نحو قوله تعالى(لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ)(255) (البقرة) لأن السنة وهي النعاس تسبق النوم فبدأ بالسنة ثم النوم.[14].
نأخذ مثال استخدام التأكيد وعدم استخدامه، يقول الأستاذ السامرائي أن ‘التوكيد‘ له وظيفة معنوية: أن يؤتى بالألفاظ المؤكدة بحسب الحاجة إليها في السياق، فقد يكون الكلام لا يحتاج إلى توكيد، وقد يحتاج إلى مؤكد واحد أو أكثر بحسب ما يقتضيه المقام وأمثلة على ذلك كثيرة، منها قوله تعالى في سورة يس:
(إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ (14)( قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) يقول السامرائي: “( إنا إليكم مرسلون) قالوا مؤكدة به ( إن) لأن الموقف يحتاج إلى توكيد ذلك أن أصحاب القرية كذبوا الرسولين كما أخبر تعالى (إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا) ولذا قواهما بثالث فاحتاج الكلام بعد التكذيب والتقوية بالثالث إلى توكيد فقال( إنا إليكم مرسلون) وهذا القول إنما هو بعد التكذيب التعزيز يدل على ذلك( فقالوا) بالجمع وقوله( إنا إليكم مرسلون) بالجمع”[15]. أما ظاهرة الذكر والحذف فإن للقرآن نمطه الخاص في الذكر والحذف للكلمات والحروف، فقد يذكر الحرف في كلمة في موطن ما، ويحذف هذا الحرف من نفس الكلمة في موطن آخر، وتذكر الكلمة في موطن ما وتحذف في موطن آخر مع اقتضاء ذكرها، وهناك أغراض يذكرها النحاة في هذا الباب قيقولون: زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى إلى غيرها من الأغراض النحوية العربية وفي القرآن نجد من هذا كثيراً ولكن يحكمه التوازن الدقيق ليس في بعض أبوابه بل في كل أبوابه. ضرب السامرائي مثالا لكلمتين:” اسطاعوا” و”اسطاعوا”:
جاءت هاتان الكلمات في سورة الكهف في الحديث عن السد الذي بناه ذو القرنين على يأجوج ومأجوج وأنه بعد أن بناه عليهم كي يمنع فسادهم أرادوا الخروج فحاولوا تسلق السد فلم يفلحوا ثم حاولوا أن ينقبوه أو يخربوه فلم يستطيعوا كذلك، قال تعالى (فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (الكهف: 97).
فلماذا حذف التاء في الأولى وأثبته في الثانية؟ يظهر والله أعلم أن ذلك ليتناسب مع السياق فتسلق السد شيئ لطيف يحتاج إلى لطف وخفة فناسب حذف التاء والنقب والخراب شيء ثقيل يحتاج على جهد وقوة ومعدات ثقيلة فناسب ذكر التاء ليكون ثقل الكلمة مناسب لثقل الفعل وخفة الكلمة مناسب لخفة الفعل.
أما ظاهرة أخرى فهي التشابه والاختلاف وخاصة في القصص القرآنية يعني تغير كلمة من سياق إلى سياق ومن سورة إلى سورة وذلك لأن التعبير يختلف عن مشهد من مشاهد القصة بين سورة وسورة لأن كل سورة تأتي بجزئية من القصة نفسها تتناسب مع سياق الآيات قي السورة التي تذكر فيها. فالمشاهد مختلفة وقعت للقصة نفسها ولا تختلف في الفحوى والحقيقة، يقول د محمد الجبالي: “لم يتصد له فيما أعلم إلا قلة قليلة من العلماء المحدثين منهم فاضل السامرائي وهو أكثرهم وأعظمهم أثراً”[16] مثال ذلك كلمتان (انفجرت) و(انبجست)، والسؤال ماذا حدث فعلاً هل انفجرت أو انبجست؟ والجواب كلاهما وحسب ما يقوله المفسرون أن الماء انفجرت أولاً بالماء الكثير ثم قل الماء بمعاصيهم وفي سياق الآيات في سورة البقرة الذي يذكر الثناء والمدح والتفضّل على بني إسرائيل جاء بالكلمة التي تدل على الكثير فجاءت كلمة (انفجرت)، أما في سورة الأعراف فالسياق في ذم بني إسرائيل فذكر معها الانبجاس وهو أقل من الانفجار وكلا المشهدين حصل بالفعل.[17]. وخلاصة القول أن الأستاذ السامرائي اجتهد في كثير من الأمور التي تتعلق بالجانب البياني للقران الكريم واختلف أحيانا مع المتقدمين في مواطن عديدة وبرهن ما ذهب إليه بالحجج منها مثلاً في قوله تعالى: (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ. بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين) يقول السامرائي:”وما ذهب إليه الكشاف من أن (ما تحتمل أن تكون اسماً موصولاً على معنى بالذي غفره لي من الذنوب يضعفه ثلاثة أموار منها:
(أ) أن ذلك يؤول إلى تمني علمهم بالذنوب المغفورة ولا يحسن علمهم بما عمل من معاص تستوجب المغفرة كما أشار إلى ذلك صاحب البحر.
(ب) أن المغفرة معناها الستر، وغفران الذنواب سترها، وتمنيه علمهم بها يعني تمنيه نشرها وفضحها وهو مغاير لمعنى الستر وما أكرمه الله من سترها فإن ستر الذنوب من جلائل النعم.
(ت) أنها لا تنتظم مع قوله (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) فإن ذلك يؤول إلى المعنى الآتي: يا ليت قومي يعلمون بالذنب المغفور وجعلني من المكرمين فإن قوله ( ما غفرلي) يعني الذي غفره لي ربي من الذنوب أو بعبارة أخرى الذنب المغفور، فلا يصح جعل (وجعلني من المكرمين) صلة له. فاتضح أن (ما) إما أن تكون مصدرية أو اسما موصولا والباء تفيد السبب فيكون المعنى: يا ليت قومي يعلمون بالسبب الذي غفرله به ربي وجعلني من المكرمين. فيستقيم المعنى على الوجهين والله أعلم”[18].
خاتمة: لاحظنا فيما سبق أن الأستاذ السامرائي يتتبع دقائق علم النحو باحثاً عن أسرار التعبير القرآني مجتهداً ما وسعه الجهد في التوسل إلى خفاياها واستخلاص معانيها الكامنة والظاهرة، يستقرأ القواعد النحوية إزاء بناء الجملة القرآنية ويثبت أنه بناء معجز حيث يوحي إلى دلالات إضافية ومن الطرق والأساليب التي تبرز بها الإعجاز النحوي في القرآن أنه كان يقلب الكلام على ما يحتمله من أوجه وينظر إلى علاقة النحو بالمعنى والبلاغة، فينظر إلى استعمالات خاصة للاسم والفعل وأنواعه وتقديم اللفظ وتأخيره على العامل أو غير العامل وغير ذلك من الوسائل التي يبرز من خلالها الإعجاز النحوي في القران وما قدمناه في هذا المقال هو غيض من فيض مما حواه كتبه وخاصة كتابه “على طريق التفسير البياني” ليكون دليلاً لمن يتوق إلى معرفة هذه الميزة المهمة في القران الكريم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الهوامش:
[1] شادلي سميرة المقالة بعنوان المنهج البياني في تفسير القرآن الكريم عند فاضل صالح السامرائي في مجلة دراسات معاصرة، مخبر الدراسات النقدية والأدبية المعاصرة بالمركز الجامعي تيسمسيلت، المجلد الثاني، العدد الثالث، سنة 2018، صفحة 106
[2] فاضل السامرائي: على طريق التفسير البياني، كلية الآداب والعلوم، جامعة الشارقة، 2002م، ص 5
[3] فاضل السامرائي: على طريق التفسير البياني، كلية الآداب والعلوم، جامعة الشارقة، 2002م، ص 5
[4] د. اليزيد بلعش، مقالة بعنوان ” الدراسة البيانية للقرآن الكريم عند فاضل صالح السامراني: سمات ومرتكزات ” في مجلة مجلة الآداب و العلوم الإنسانية، المجلد 11, العدد 21, سنة 2017م ص 186
[5] على طريق التفسير البياني، ج/1، ص 262-266
[6] على طريق التفسير البياني، ج/1، ص 61-63
[7] ينظر للتفصيل في “معاني الأبنية في العربية” للأستاذ فاضل السامرائي، دار عمار للنشر والتوزيع، عمان ط/2، 2006م، ص 9
[8] د. اليزيد بلعش، ” الدراسة البيانية للقرآن الكريم عند فاضل صالح السامراني: سمات ومرتكزات “ص 193
[9] على طريق التفسير البياني، ج/1، ص 61-63
[10] لأستاذ فاضل السامرائي، “معاني الأبنية في العربية” ص 14
[11] فاضل السامرائي: على طريق التفسير البياني، كلية الآداب والعلوم، جامعة الشارقة، ط/1، 2004م، ج/2، ص 19
[12] على طريق التفسير البياني، ج/2، ص 75-76
[13] الأستاذ فاضل السامرائي، التعبير القرآني، دار ابن كثير، ط/2، 2016م ص 49-50
[14] على طريق التفسير البياني، ج/2، ص 68
[15] نفس المصدر السابق، ص 53
[16] ينظر للتفصيل في محمد رجائي أحمد الجبالي، توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم من القدامى والمحدثين: أحمد الغرناطي وفاضل السامرائي، رسالة لنيل درجة الدكتوراة في أكاديمية الدراسات الإسلامية، جامعة ملايا كوالالمبور، 2012م، ص 89
[17] التعبير القرآني ص 188-189
[18] على طريق التفسير البياني، ج/2، ص 92
ثبت المصادر والمراجع:
- بلعش، اليزيد: مقالة بعنوان ” الدراسة البيانية للقرآن الكريم عند فاضل صالح السامراني: سمات ومرتكزات ” في مجلة مجلة الآداب و العلوم الإنسانية، المجلد 11, العدد 21, سنة 2017م
- الجبالي، محمد رجائي أحمد: توجيه المتشابه اللفظي في القرآن الكريم من القدامى والمحدثين: أحمد الغرناطي وفاضل السامرائي، رسالة لنيل درجة الدكتوراة في أكاديمية الدراسات الإسلامية، جامعة ملايا كوالالمبور، 2012م
- السامرائي، فاضل ، التعبير القرآني، دار ابن كثير، ط/2، 2016م
- السامرائي، فاضل: “معاني الأبنية في العربية” للأستاذ فاضل السامرائي، دار عمار للنشر والتوزيع، عمان ط؟2، 2006م
- السامرائي، فاضل: على طريق التفسير البياني، كلية الآداب والعلوم، جامعة الشارقة، ج/1، 2002م
- السامرائي، فاضل: على طريق التفسير البياني، كلية الآداب والعلوم، جامعة الشارقة، ج/2، 2004م
- سميرة، شادلي: المقالة بعنوان المنهج البياني في تفسير القرآن الكريم عند فاضل صالح السامرائي في مجلة دراسات معاصرة، مخبر الدراسات النقدية والأدبية المعاصرة بالمركز الجامعي تيسمسيلت، المجلد الثاني، العدد الثالث، سنة 2018م
……………….. *****. ………………