الرؤية الاجتماعية في رواية “نائب عزرائيل” ليوسف السباعي: دراسة تحليلية
مـحمد مزمل حق
باحث في الدكتوراه، قسم اللغة العربية وآدابها، الجامعة العالية، كولكاتا، الهند.
mozammel.amu@gmail.com
————————————-
ملخص البحث:
يوسف السباعي (1917-1978) واحد من أشهر الروائيين المصريين الذين ساهموا في كتابة الرواية بعد الأربعينات من القرن العشرين. وكانت هذه المرحلة مرحلة الازدهار لفن الرواية، حيث كان السباعي قدم أمام القارئ ست عشرة رواية متتالية، منها رواية “نائب عزرائيل” (1947) التي تتضمن فيها الانتقادات الاجتماعية والخلقية والمعاناة الشعبية والاضطرابات السياسية والسلطة القيادية بطابع فكاهي ومضحك. هذه الرواية مكتوبة في العصر الخطير الذي ابتلى به مصر، حيث سيطر عليها الرؤساء الديكتاتوريون الذين اتخذوا السلطة والقدرة سلاحهم لقمع الحرية، و عزرائيل (واحد من الأبطال) في هذه الرواية رمز زعيم وحاكم غرق في بحر العشق والجنس والهوى، وغفل عن واجباته، ليس له فكر ولا شعور بإصلاح أحوال المواطنين. وقد قدم السباعي الحس الوطني في هذه الرواية خلال النص الذي يعبر عن الإحساس بالارتباط والالتزام لأمة خاصة أو دولة معينة أو مجتمع سياسي، لأن الوطن هو الهدف الأول، وغيرة الكاتب الوطنية كانت شديدة في أحلام يقظته ومنامه وخياله. وفي الحقيقة، كان الوطن عنده قبل كل شيئ. وأحاول في هذه المقالة البحثية تسليط الضوء على رؤية السباعي الاجتماعية والوطنية والقضايا الأخرى المتعلقة به التي تتجلى في نصوص الرواية.
كلمات مفتاحية: نائب عزرائيل، الرؤية الاجتماعية، الحس الوطني، فساد المجتمع، الفقر والجهل.
حبكة الرواية والشخصيات الرئيسة:
“نائب عزرائيل” هو أول رواية كتبها الروائي المصري الكبير والقاص العبقري الشهير يوسف السباعي التي صدرت لأول مرة عام 1947م. تتحدث هذه الرواية عن شخص قبض روحه عزرائيل بالخطأ وذهب به إلى الدار الآخرة حيث يتولى الرجل منصب النائب لعزرائيل. وهو في اعتقاد الكاتب ملك الموت، وتتوالى الأحداث المشوقة في قصة هذه الرواية تباعا. والقصة بها طابع فكاهي وإن كانت مثيرة بشكل رائع، ينتقد بها الكاتب المجتمع والسياسة العربية والعالمية. ويقدم فلسفة الموت والحياة ويتحدث عن سبب انهيار الثقافة العربية باسم تطورها، ويبين أخلاق الزعماء العرب وكل العواطف البشرية لأشخاص المجتمع.
تبدأ هذه الرواية برسالة خاصة يكتبها الكاتب يوسف السباعي لعزرائيل إهداءً واحتراما له، ويظهر الكاتب فيها أن عزرائيل هو بطل هذه الرواية، ودوره في هذه الرواية كالبشر، وله عواطف بشرية مختلفة، يصدر منه الخطأ والصواب ويقع في حب الحوريين في الجنة، وهو حب عذري لا جسدي. ويرى عزرائيل العالم وسكانه من قريب أثناء قبض الأرواح بأنه مملوء بالظلم والجور بالزعماء الظالمين وأخلاقهم الشنيعة. ويحس أن الجهل انتشر باسم الثقافة الغربية في العالم الإسلامي.
تناقش هذه الرواية أيضا أفكارا مهمة في شؤون الثقافة المصرية والمجتمع المصري أثناء الحرب العالمية الثانية والأحوال السياسية المصرية وفكرة تحقق الإنصاف بين الشعوب العربية والعالمية وأحوال الرؤساء والزعماء والصراع الشعبي والمجتمع وفلسفة الحب والحياة.
تقدم هذه الرواية صورة عزرائيل الذي يخطئ في قبض روح شخص، وكان ذلك الخطأ حدث لرجل اسمه “يوسف”، وبدأ ينتقل هذا الرجل إلى دار الآخرة بسبب تشابه اسمه مع اسم الشخص الذي كان من المفترض أن يموت بدلا منه. وقتذاك يبدأ “يوسف” متحيرا بالضوضاء حوله ويسمع المنادي ينادي أسماء الأشخاص واحدا فواحدا ويسمع يوسف اسما متشبها باسمه ناداه المنادي ولكن ليس هناك شخص تقدم إليه، فيتقدم يوسف ويقول أنه “يوسف” ولكن ليس “يوسف” الذي ناداه من قبل، فيصيب المنادي الحيران بهذه الحادثة ويدرك على وقوع خطأ مخجل قام به عزرائيل في قبض الأرواح. وبعد ذلك جرت المناقشة في قضية يوسف بين المنادي وعزرائيل بصدد إعادته إلى الدنيا، وبجانب ذلك يرتاح يوسف في دار الآخرة ولا يريد العودة إلى الدنيا. وأنذره عزرائيل بتهديدات الآخرة. لكن يوسف رضي بشؤون الآخرة بعد أن يطلع عليها، فيري عزرائيل أنه أصبح خطرا ولا يمكن إعادته للحياة فيتفق معه على أن يقوم نيابة عنه ببعض مهامه أو وظائفه في قبض الأرواح، وكان يوسف يتعجب بهذا الاقتراح وهز قلبه بهذه المهمة المخوفة عند ملك الموت، ولكن لابد له من القيام بها لوفاء وعده إلى عزرائيل. ويتعلم من عزرائيل تعليمات قبض الأرواح، وأخذ منه كل الأدوات والقائمة التي تسجل فيها أسماء أرواح الناس المقهورين وتخلو من أسماء الزعماء الظالمين الذين يمتصون دماء البائسين. وفي أثناء الطريق بين السماء والأرض تغير فكره وهو يريد أن يقبض أرواح الزعماء الظالمين والمستخلصين النهمين، ويخالف تعليمات عزرائيل ولا يتقيد بقائمة الأسماء والعناوين التي أعطاها له، رغم أن قد كتبت في القائمة أسماء الأشخاص الذين قبضت أرواحهم بأمكنة معينة وأوقات معينة.
وكان يوسف يهبط واجها إلى الدنيا وحاملا عصاه وقائمة الأسماء وكيسا ليقبض أرواح الناس ويجعل الأولاد يتامى والنساء أيامى والعكس. ويتوجه إلى شاطئ البحر السيد بشر فور وصوله إلى الدنيا للبحث عن الروح الأولى وهي “زيزي إبراهيم” وكان الوقت المطلوب قبض روحها في الساعة الثانية عشرة ظهرا حين تتمتع بمياه البحر، فهاجمتها الأمواج وتغرقها، ولكن ينقذه النائب من الموت بوسيلة إعادة جسد الآخر، وليس بمجرد الإنقاذ إلا أنه يتنعم ببدنها الجميل. وهذا ما يفعله يوسف لسائر الأرواح المقبوضة ويأتي من جسد إلى جسد آخر لينقذهم من الموت ويتمتع بما يوجد من الأجساد، كما حدث للأرواح التالية. وإن يوسف بوصفه نائبا لعزرائيل يقضي فرصته في قبض الروح الثانية هو “المعلم حنفي وزوجته زهرة”. كلاهما يكتبان للموت بإصابة أنقاض منزله. فمرة أخرى أخذ يوسف يبذل كل جهده لإفشال وفاتهما، فكان في النجاح. وفي الثالث هو الرجل السمين “جابر كيراشو”، وهو رجل تاجر وصاحب مَطعم كَبَاب وكفتة الأكثر شهرة في القاهرة. وقال إنه سوف يموت في مأدبة غداء عقد في مكان بسبب التجاوز في تناول الطعام. وكان بفضل براعة يوسف نجا من الموت.
وتلي الروح الرابعة وهو “محمود آفندي الفنتي” رجل فقير، ولكنه الرجل المتكبر الذي أصبح عمود الحياة لأسرته. مرة، تتم مصادمة سيارة أجرة بين يديه وقدميه عندما لم يك بحذر حين عبور الطريق بالسبب أنه فتنت به إمرأة جميلة ومثيرة اسمها “ملكة تحية الحب”. وكان يوسف يتمكن من إنقاذ محمود بعد أن يبتلع تلك المرأة الجميلة. وفي إنقاذ روح الخامس (وهو أبو سعد) يفشل يوسف لأن عزرائيل فجأة يكون بقربه. وكان أبو سعد هو الشخص الذي سوف يتم حفظه من حادثة الترام التي أحدثت عن مقتل 15 شخصا. وأصبح عزرائيل غاضبا على يوسف لأنه لم يقم بوفاء وعده. وكان الهدف الأخير في قبض الروح هو شاب جميل ينادى بـ”حسن قدري”. وسيارة بورش التي كان يقودها انقلبت بسبب التهور في القيادة وعدم أخذ الحذر والحيطة إذ كان يتعاشق ويتمتع مع حبيبته اسمها “فيفي”. وكانت فيفي لا تموت في مثل هذه الحوادث منذما دخلت قائمة النزاع في حادثة أخرى.
وكان عزرائيل يضبط نائبه يوسف ملتبسا بمخالفة أوامره، ويقرر إعادة روحه إلى جسده لأي قبر. ولكن من الأسف الشديد بأن عائلة يوسف النائب كانت مشغولة في المنزل في الحديث عن وثائق التأمين والمطالبات إلى الترام التي صادمته بموت يوسف. ففزع عزرائيل ليوسف بأنه سيعود إلى أسرته الفرحة بحصول على مساعدة التأمين على حياته، وشعر له عزرائيل بالأسف ولكنه لابد من إعادة روحه إلى جسده بأسرع ما يمكن قبل أن يعرف سكان الآخرة خطأه المخجل، وفكر عزرائيل برهة عن حل تلك المشكلات، وكان يوسف يطلب منه ليأخذه إلى السماء فرفض عزرائيل، لكنه وعده بأن يضع سمه في قائمة الموجة الأولى التي سيتم إلغاء حياته. وبسبب الحلم صار يوسف قلقا بالفعل للذهاب إلى الآخرة. لذلك يفضله عزرائيل بأن يعطيه فرصة يومين لفعل الخيرات، وإذا تم ذلك فإنه يضمنه بأنه يدخل الجنة. فبعد مرور يومين التقى معه عزرائيل وأنهما يطيران إلى السماء معا. وما كان فيه من حزن في النفس فهو يرى في الواقع أكثر راحة. فتنتهي قصة الرواية بصعودهما لمرة ثانية إلى السماء.
عزرائيل في خطأ شنيع:
رحل يوسف من الدار الأولى (الدنيا) إلى الدار الآخرة وكان المنادي يصيح بصوته الجهوري واحدا فواحدا، فيذهب من يناديه شاقا طريقه بين الأجساد المتراصة المتزاحمة ، وينفذ من باب ضخم آخذا مكانه في الطابور الطويل الذي يشق طريقه إلى الداخل. وسمع يوسف اسمه يفوه به المنادي ولكن كان به بعض التحريف والتبديل أو يكون اسمه يشابه اسم شخص آخر. ولذا، لم يجب يوسف ولم يجب غيره. وتكرر النداء فذكر له صحة الاسم فنظر إليه المنادي بعين ملؤها الغيظ والحنق وانتقل إلى الاسم الذي يليه واستمر في عمله. ولما خف الزحام شكا إليه يوسف بأنه مصرّ على الخطأ في نداء اسمه، فأمسك المنادي بالكتف وألقى عليه نظرة فاحصة[1]، فبدا له شيء عجيب لأن عزرائيل قد التبس عليه الأمر فقبض روح يوسف خطأً. وتركه المنادي في خارج الباب وأخد يعدو إلى الداخل وقد بدا عليه ارتباك شديد. وفكر يوسف في انتقاله إلى الدار الآخرة سهلا بسيطا هينا لينا، “فقد انتقل إلى الدار الأخرى خفيفا لطيفا بلا دواليب ولا كرابيب، ولا عفش ولا أثاث ولا شنط..”[2] لو أدرك الأحياء ذلك لما بقي منهم مخلوق في هذه الدنيا الكريهة البغيضة، وهذا هو السبب الذي من أجله غرس في الإنسان خشية الموت والفزع منه.
وبعد قليل أقبل إليه المنادي مع عزرائيل وكان عزرائيل يهزّ رأسه في أسف شديد، فتساءل يوسف عن الحكاية، فأجاب مطرقا رأسه إلى الأرض “لست أنت المقصود حقيقة أن الاسمين متشابهان، ولكن ذلك لا يمكن أن يكون عذرا لارتكاب مثل هذا الخطأ، فهو خطأ مخجل شنيع. “وامتلأت نفس عزرائيل بالاكتئاب والحيرة”[3]. فأظهر يوسف العطف عليه وهوّن أمره وأبدى أن الآخرة لديه أحسن من الدار الأولى كثيرا ورضي بوفاته. فقبّله عزرائيل شاكرا إياه على هذه الشهامة لإنقاذه من ورطته. والتمس إليه أن لا يكشف على أحد عما حدث هنا من خطأ في قبض الأرواح وأن يختبئ هنا في سكون دون ضوضاء، وكان صوته مليئا بالرجاء. فهذه صورة عزرائيل الجبار الذي ترتجف من ذكره الأفئدة وتهلع من اسمه النفوس، يقع في يد الروح ويعفو عنه بهذه البساطة ويرحم عليه، وتملأ نفس يوسف بالكبرياء، ويتمنى أن يراه أهل الأرض في هذا الموقف وعزرائيل المخيف، وسرى فصعد به عزرائيل إلى السماء دون كلفة كأنهما أصدقاء عبر العصور.
أشار يوسف السباعي في هذه الرواية إلى أن كل شخص في هذا الكون ليست له البراءة من الأخطاء البشرية ولو كان عالما أو جاهلا، أو كان تلميذا أو أستاذا، أو كان صاحب السلطة والدولة أو كان ملكا جبارا، حتى كان – كما يرى الكاتب – من الملائكة، كما يقع عزرائيل في الخطأ المخجل في قبض الأرواح. وأشار إلى سنة الموت وهي سنة من سنن الحياة في المجتمع، وأحيانا بالموت يحيا الإنسان، وبالموت تحيا الشعوب وتزدهر وتتخلص من أقسى العبودية، فهذه الجدلية الفلسفية النفسية الاجتماعية هي جدل الوجود الإنساني بأسره، فلسفة الوجود والعدم فلسفة يمكن تلخيصها في أن يموت الرجل ويحيا الآخر، وهي أيضا تمركز الإنسان في جدلية الحياة والموت. وفيها تصوير من الأحوال الصعبة التي يقاسيها الإنسان في الحياة الدنيوية مع كل تحديات ومتاعب، ولكن الناس يرتاحون بهذه الأحوال وهم يتمنون أن يطيل الله عمرهم حتى يعيشوا لسنين، رغم أن الناس في الدنيا لا بد لهم أن يواجهوا الأحوال التي تشغلهم وهي توفير حوائجهم النفسية وحوائجهم الأخرى من آبائهم وأمهاتهم وأزواجهم وأولادهم وأقاربهم وكذلك الحوائج العبودية لربهم.
تصور هذه الرواية ظاهرة الدار الآخرة من ناحية إيجابية يعني الجنة وحورها الجميلات ومناظرها الجذابة وكل وسائل السعادة والسرور. وحث بها الناس على أعمال صالحة ونبه بها الظالمين المستعمرين.
إن كل رواية من روايات يوسف السباعي تتأسس على فكرة محورية تدور حولها أحداث الرواية. وفي هذه الرواية رسالة خاصة إلى أصحاب السلطة والسياسة الذين يقودون الناس ويسيطرون عليهم ظلما وجورا. ويظنون أن زمام الشعوب تحت أيديهم، وكل شيء على رهن إشارتهم وطوع بنانهم، وهم يصيبون دائما ولا يخطئون، فأشار السباعي بأن القائدين لابد لهم من تصحيح آرائهم في قضية السلطة في حقهم وفي حق الأمة. ولا بد للزعماء والسياسيين أن لا يقصروا في أداء واجباتهم، والقيام بمسؤولياتهم بالعدل والإنصاف.
عزرائيل العاشق:
فلسفة يوسف السباعي تتجلى في روايته “نائب عزرائيل”، وقلمه الساخر يلعب بالعقول والنفوس، ويهز القلوب ويجعل الشفاه تبتسم في أشد مهازل الحياة أو مأساتها[4] حتى في الموت، وفي شبح الموت، يداعب القلب عزرائيل ويجعله “عاشقا”. عزرائيل يعشق ويحب. إذ لا يمكن لقلم السباعي أن يكتب شيئاً بدون حب، إنه قلم مدمن للعشق ومحترف للحب. ويجول ويصول في اختيار الموت لضحاياه، والموت لا يدقق أبدا في الاختيار، وذلك يثير أسى السباعي، فكيف يأخذ الموت روح فتاة على عتبة الزفاف؟ في حين يترك كهلا في أرذل عمره متسولا في الطريق؟ وفي الحقيقة إن عزرائيل ليس عنده نظر، وعزرائيل نفسه عاشق ولهان، أي إنه يقصد أن يقول: ” إن الحب لا بد أن يلمس كل قلب، شريرا كان أم خيرا، إنسانا كان أم ملاكا، في الأرض أو في السماء، حتى عزرائيل نفسه أصابه الحب بلوعته. ويعشق واحدة من أهل الجنة. وحينما اعترض بأن قباض الأرواح لا يمكن أن يكون عاشقا.. فأظهر عزرائيل آراءه حول الحب، ليست هناك صلة بين العمل (قبض الأرواح) والحب، الحب شيء لا بد منه لكل كائن حي، إنه كالهواء الذي نتنفسه.. ولا بد من الحب ما دامت الحياة. وليس في هذا الكون من لا يشعر بالحب ولا يحتاج له، الا الجماد. والكائنات الحية لا بد لها من التوليد والتكاثر، وإلا تنقرض ولا تبقى حية. والتكاثر لا بد له في أغلب الأحيان من جنسين. ولا بد لحدوث التكاثر من تقارب بين الجنسين، ولا بد للتقارب من جاذبية تدفع أحدهما إلى الآخر، هذه الجاذبية هي ما يسمونه الحب، وهذا هو تفسير الحب في دنياكم، أما عندنا فيخيل إلي أن الكائنات أشبه بالأقطاب المغناطيسية، لا يكاد القطب السالب يقترب من القطب الموجب حتى يندفع كل منهما تجاه الآخر”. [5]
ولتحليل هذه الفقرة علينا أن نتوقف قليلا لكي نفهم أن في القصة وصايا، يريد الكاتب بيانها بطريقة رمزية حيث كانت هذه الرواية مكتوبة في العصر الخطير الذي مر به مصر، إذ كان يسيطر عليها الرؤساء الديكتاتوريون الذين جعلوا الشعوب دمية سياسية وفاءا لأغراضهم. وفي هذه الرواية، عزرائيل رمز زعيم وحكيم غرق في بحر العشق والجنس والهو كما تقدم ذكره.
الحب والجنس في الرواية:
كان الحب والجنس يشغلان حيزا كبيرا في الحبكة الأدبية الحديثة، حيث أصبحت الرواية العربية وقصصها تعالجان إلى نطاق واسع قضية الحب والجنس، لأن الحب والجنس بكمّيّة موفورة في كل مخلوقات العالم، والإنسان يسعى بفطرته أن يشبع حاجته الطبيعية بما يناسب متطلبات تكوين جسده السيكولوجي، إذ الجنس حاجة طبيعية للبقاء واستمرار الحياة. وإذا كانت المرأة صاحبة الجسد الذي يدور عليه موضوع الجنس. فكان يوسف السباعي يبادر في روايته عند الحديث عن الجنس بالرؤية الثقافية ، والمرأة هي أساس الجنس في الواقع العربي، وفي هذا الواقع الذي يتملكها على مستوى المحاور الرئيسية في المجتمع. ومن أجل ذلك سن الإسلام شريعة الزواج. وهذا الواقع يبينه يوسف السباعي في هذه الرواية. ويبدو أنه يتحدث عن نفسه وتجربته في الحب لأحداث الرواية نوعا ما من سيرة حياته. وفي هذه الرواية يمثل الحب والجنس حينما قام نائب عزرائيل بقبض الروح الأولى وهي الآنسة زيزي في شاطئ البحر. وكانت هذه الفتاة في نحو الرابعة عشرة من عمرها، تحب الفتى أحمد، وهو ينتظر لها في الشاطئ تحت مظلة. واقتربت منهما فإذا هما قد استلقيا فوق البرسوار في ناحية، وتقاربا وجهاهما وأخذ يتهامسان همس العشاق. وفجأة علت عليهما موجة من أمواج البحر فقلبت البرسوار والتيار يدفعهما بعيدا عن الشاطئ. فاغتنم الفرصة وتقدم إليها نائب عزرائيل لإنقاذها من الموج، وقبض روح الفتى وتقدم إلى الفتاة يتشكل عاشقها، وقد جاش في قلبه سكرة الغرام ونشوة الهوى، وتهامس معها همس العشق والمحبة وهمّم إليها بعض أحاديث الغزل الذي أجاد في حياته، واقتربت شفته من شفتيها ليقبّلها لفرط صبابه ولإحساس شهوته معها وهي فتاة جميلة. ولكن فجأة سمع صوتا من العلبة التي فيها السمّاعة يتصل بها عزرائيل من بعيد ليسأل عن واجبه، فسمع نائب عزرائيل ضوضاء بضع الحوريات التي حوله للتسلية والترفيه. فعلم أن كلاهما في سكرة الغرام والعشق والحب. وذهب الخوف من قلبه وملأ بالفرح والسعادة. وكذلك رأينا مثال الحب والغرام والجنس في حلقة أخرى قام عزرائيل فيها بقبض الأرواح في هذه الرواية في حادثة عربة “بويك”، حيث أن الفتى والفتاة كلاهما يشربان من رحيق العشق والمحبة في داخل العربة وهي تسرع على الشارع فوقعت الحادثة وكلاهما يطبعان قبلة رقيقة وترك الفتى يده تتحسس ساقي الفتاة. وصور الكاتب هذا المنظر ويقول بلسان البطل: “وهنا رأيت الفتاة تمد شفتيها تتحسس بهما رقبة الفتى ثم ذقنه وتقترب من شفتيه شيئا فشيئا وأحست بنشوة جارفة ولذة عجيبة.. ووصلت شفتا الفتاة إلى شفتي الفتى وأخذتا تمساهما مسا خفيفا..وهنا رأيت الفتى قد أمسك رأس الفتاة بكلتا يديه وضغط شفتيها بشفتيه ضغطا عنيفا”.[6] هذا قلم السباعي الواقعي الذي يرسم كل شيء من الحب والجنس وأشار به إلى المجتمع الذي يبيح كل شيء بإسم الثقافة الغربية. ويبحث فيه سعادة الحياة.
لا تخلو رواية يوسف السباعي من ظاهرة علاقات الحب والجنس في لغتها وحوارها، بل تعدو هذه الظاهرة أحيانا في بنية القصص والرواية كما نجد في معظم رواياته وقصصه، وهي تحمل دلالات عديدة من وضوح وشفافية الحب العذري وعن شهوانيته الجنس وجسديته مما يشير إلى وجود ثقافتين لهما حضور ما المعقد في حياة المرأة وفي علاقتها بالرجل. وهذا التداخل بين العنصرين الحب والجنس يتضح بصورة كاملة حين تصل العاطفة إلى ذروتها. فإن علاقة الحب والجنس تمتلئ بحلقات كثيرة في مجال العلاقات الجنسية والعاطفية كما نجد في هذه الرواية.
صورة المجتمع والجيل الجديد في الرواية:
حينما قام يوسف بمهمته الجديدة كنائب عزرائيل، ومهمته الأولى كانت في شاطئ بحر السيد بشر. و هناك يرى أجساد النساء المثيرة التي تتشمس وتستريح وكذلك يرى بعض النساء الداخلة إلى الكابينة لتنظيف بدنها وتبديل لباسها، فينتهز هذه الفرصة الجيدة للتلصص على أجساد النساء، وهو يريد التنعم بالنساء في حياته ولكنه لا يجد فرصة مؤاتية، وقد صور يوسف السباعي المناظر المخجولة والظواهر الرديئة التي تدل على انحطاط أخلاق سكان هذه الدنيا حيث كان الشبان والفتيات يتنعم بعضهم بعضا بدفء وخلاعة، والزوج لا يبالي ما فعلته زوجته والعكس رغم أنهم يسكنون في البلاد الإسلامية. ويحكي الظواهر الاجتماعية وما يخص به انحطاط أخلاق المجتمع في الفقرة التالية:
“وبعد هنيهة أبصرت صاحبتنا قد ارتدت “المايوة” أو شيئا شبيها به.. مكونا من قطعتين.. قطعة شدت من صدرها وقطعة شدت إلى خصرها.. ويعلم الله أن القطعتين قد أظهرتا من الجسد أكثر مما سترتاه. واندفعت صاحبتنا تعدو إلى البحر وخلفها ما يقرب من عشرة شبان يصيحون في شبه مظاهره .. وبدا في البحر نشاط عجيب، فقد أثارت الفتاة ومن حولها من الشبان ضجة هائلة.. فهي تتصايح وهم يتصايحون، وهي تتضاحك وهم يتضاحكون، وقد أخذوا يقبلونها بين أيديهم كأنها دمية جميلة وهي تندفع من هذا إلى ذاك.. والناس على الشاطئ ينظرون إلى ذلك في دهشة وعجب”.[7]
توضح الفقرة المذكورة مفاسد الدنيا التي أثرت كثيرا في الشبان حيث يقضون أوقاتهم بالتنعم بملذات الحياة وتبذير الأموال، وتأثروا بالعصر العولمي وهذه الظواهر تصور الانحطاط الأخلاقي. ومن مظاهره أيضا أن مهمة نائب عزرائيل الأولى كانت قبض روح الزيزي وإنقاذها من كل المنكرات الموجودة حولها. ولكنه يغتنم الفرصة للتمتع ببدنها المثير للجنس وينسى مهمته، وهذا يدلّ على أن الملك لا يختلف عن الإنسان أو المجتمع إذا عاش في المجتمع الإنساني كإنسان عادي.
صورة فساد المجتمع:
صور السباعي عزرائيل ملك الموت الذي يقبض أرواح الناس تاركا وراءه الأرامل واليتامى والدموع والأحزان وخراب البيوت. ونائب عزرائيل يؤدي مهمته بعصاه السحرية، كأنه ماريشال في يده مصير الأرواح، لكنه تحير. إن الموت لابد أن تكون له نظم وقوانين، وأن من يموت يكون وجوده على الأرض شرا وضررا ينبغي أن يمحى، لتمحى معه شروره وآثامه، أما أن يخطف روح مالا يقبله نائب عزرائيل الجديد: الإنسان الرائق الشفاف، نائب عزرائيل الذي يمثل قلمه الحب والوفاء.[8] وإنه يجد أن الموت يطيح بأرواح لا ذنب لها ولا جريرة، إنه يتصرف تصرفا طائشا لا بحكمة واعية، يترك المريض يعيش وطبيبه الشاب الذي يعالجه يموت، يترك الأرملة الكهلة المريضة الفانية، ويختطف روح العروس الشابة النضرة، دون أن تتمتع بحياتها. تترمل الزوجات ويتيتم الأبناء. ما حكمة هذه الفلسفة الغريبة البعيدة عن كل فهم وكل منطق؟ لم لا تنسق عملية الموت. لو كان هو عزرائيل، لاختطف روح المريض، وترك الطبيب وأخذ روح الأرملة الكهلة، ووهب الحياة للعروس الشابة، كان بالفعل يتمنى أن يكون مكان عزرئيل ليحكم بالعدل، ويأخذ أرواح من لا يستحقون الحياة، بل ويكون وجودهم عبثا قاسيا على هذه الحياة. وها قد سحنت له الفرصة، فيك يتصرف نائب عزرائيل؟ كيف؟ وفكر القلم، وفكر العقل وفكر الإنسان، وفكر الكاتب المحلق في أفق اللانهاية، مع تعايشه التام لواقع الأرض.[9] كما نرى أيضا في كتابة الأديبة لوسي يعقوب ميخائيل في تحليل نصوص هذه الرواية حيث تقدم ثلاث نقاط مهمة :
“أولا: سوف يضع قوانين ونظما للموت.
ثانيا: سوف يتصرف بحكمة تحترم الإنسان والبشر، لا تضرهم ولا تؤذيهم ولا تحطم حياتهم.
ثالثا: سوف لا يجعل البشر يفاجؤون بالموت، حتى لا تضطرب حياتهم ويصيبهم الانهيار والضياع، بل سيدركونه ويعرفون نظمه وقوانينه حتى يستعدوا له.[10]
إذن في فكر السباعي وفي تصوّره، ومن إيمانه العميق بهذا الفكر أن الموت يجب أن يكون فقط للتطهير من الجريمة ومن الشر، وعلى هذا المبدأ سوف يسير، وإن أخلف وعده، وغير من كشوف الأسماء التي يجب أن يختطف أرواحها، وهذا لا يهم، في سبيل المبدأ الإنسانية، وسلامة الأرض والبشر، فإن الغاية تسوغ الوسيلة، وعلى هذا المبدأ، انطلق نائب عزرائيل ليؤديّ مهمته في الأرض.
“هنا يظهر فكر الفيلسوف وقلمه الحقيقي، الذي مزج هذا الخيال الجامح بالواقع الحقيقي المر، فلقد تحايل بالخيال، ليظهر واقعا حقيقيا ويكشف عن نوعية من البشر، تضلل الناس، وتنشر الفسق وتخنق رقاب العباد، بسيطرة يطيحها لها منصب وجاه وحكم وتحكم”.[11]
أحوال الزعماء والسياسيين في الرواية:
حاول قلم السباعي الجامح الغارق في الخيال أن يقدم صورة صادقة للمجتمع البشري الذي يعيش فيه الكاتب فيلبس “يوسف” (بطل الرواية) صورة “نائب عزرائيل” ليكشف زورا وبهتانا وأثوابا تغطي أناسا لا هم بشر ولا حتى سوائم، إنهم الشر المجسد، ومع ذلك لا يوجد اسمهم في كشف خطف الأرواح الذي سلمه له عزرائيل، إنهم مجانين، ولكنهم مطلق السراح، يعيثون في الأرض فسادا وفسقا وشرا، ويحرضون الناس على قتل بعضهم البعض وتدمير العالم بحجة المحافظة على كيان أوطانهم، كأنهم لا يريدون أن أوطانهم جزء من العالم، وأن في هدم العالم هدما لأوطانهم. ولهم قدرة عجيبة على خداع الناس، والإمساك بزمامهم، بصفتهم الرسمية، إنهم “حكام وقادة وسياسيون” يحيلون الأرض جحيما، ويقطعون الرقاب ويسيلون الدماء ويقيمون دولة على دولة بالحروب والمنازعات، إنهم بالفعل مجانين، ولكنهم ليسوا في مستشفى المجاذيب، هؤلاء يمكن السيطرة عليهم، أما العظماء والساسة والقادة، فيحركهم جنونهم نحو دمار العالم، وفناء البشرية بطريقة حكمهم الموتور، إنه صراع أمم، إرضاء لشهوات نفوس مريضة، وشخصيات مهزوزة، تستغل مناصبها لإرضاء شهوات جامحة مريضة في إراقة دماء البشر!!.
هؤلاء هم من يستحقون أن تقبض أرواحهم فورا، دون هوادة أو تواكل حقنا للدماء، وإنقاذا للبشرية، منهم ومن شرهم، ومن مرض نفوسهم. هؤلاء المرضى، يجب بترهم بترا نهائيا من هذه الدنيا، هؤلاء الذين يغرقون العالم بالدماء، ويشوهون صورة الحياة، ليقفوا ويشاهدوا مآسى البشر ومذابح الإنسانية، تتراقص على مذبح شهواتهم. فيجب كشف ستر هؤلاء الذين يتسترون تحت ستار الوطنية الزائفة، والتي تخفى مرضهم النفسي، ومشاعرهم الدموية، مصاصو الدماء، إنهم لا يبحثون إلا عن مطامعهم الشخصية وأهوائهم الذاتية لإرضاء هذه الذوات بالسيطرة على أكبر رقعة من العالم، بحجة الوطنية.[12]
الحس الوطني في الرواية:
يقدم يوسف السباعي الحس الوطني خلال نصوص الرواية التي تعبر عن الإحساس بالارتباط والالتزام لأمة أو دولة معينة أو مجتمع سياسي. وهو يتضمن الرغبة في التضحية لغاية تعزيز مصلحة الوطن. وشعور مناسب وطبيعي ناتج عن ارتباط الشخص بالوطن الذي ولد وعاش فيه، وشكل من أشكال الشكر للفوائد التي عاد بها هذا الوطن عليه كالعيش على تربته، وبين مواطنيه، وتحت القوانين الخاصة به، بالإضافة لاعتبار الوطنية جزءا مهما من الشخصية، وينظر البعض إلى أن الوطنية أمر أخلاقي إلزامي ومركز للأخلاق. وفي هذه الرواية يعبر السباعي عن إحساسه الإيجابي الشديد للوطن والوطنية ويكشف أحوال الزعماء والقادة وأنانيتهم ومصالحهم الشخصية: “هؤلاء المجانين يخدعون الناس بطريقة ساحرة..هذه الطريقة هي بث ما يسمونه بالروح الوطنية..أو على الأصح روح التعصب الوطني، فالروح الوطنية هي شر ما ابتلي به الإنسان..فالوطنية بهذا المعنى هي الأنانية بأسوأ معانيها وأبشع مظاهرها فهي أنانية أمة. وهي أن تشعر مجموعة من الناس بأنهم خير من غيرهم.. وهنا يبدأ الصراع وينشب القتال.. فكل أمة تريد أن تنهش من جسد العالم أكبر قطعة يمكنها نهشها.. فيأكل الضعيف القوي.. ثم يصطدم القوي بالقوي.. فيصرعهما الصدام.. هذه هي الوطنية التي يظنها الإنسان خير ما يفرضه على نفسه..وهو لو درى لعلم أنه ما قاده إلى التهلكة شر من هذه الوطنية”.[13]
وتقدم الأديبة لوسي يعقوب تحليلها لهذه الفقرة للرواية: “إنها أنانية لا وطنية، ومصالح شخصية لا مصالح وطنية، إنها (الأنا المريضة) وليست الكل والمجموع، الذي يحيا ويعيش بأنفاس الوطنية الصادقة، المضحية بالنفس والروح في سبيل المجموع، إن الوطنية هي الوطنية كله، لا أن يأكل القوي الضعيف، ويتستر تحت ستار الوطنية!!
ومن هنا يجب على نائب عزرائيل (يوسف) أن يبدأ التطهير، والاستئصال والبتر، من هنا يمكن إنقاذ البشرية كلها من طغيان قوة غاشمة وقوة ضاربة على شعوب مسالمة ضعيفة. من هنا يجب جمع الشمل للعالم كله، ليعيش في أمن وسلام بكل أجناسه ودياناته، وعقائده وشعوبه، ليصير محصنا آمنا ضد الحروب والتطاحن.
هذه هي العلة وهذا هو الداء، يجب إيجاد الدواء بإنقاذ الوطن الجريح والبشرية المطحونة، والإنسانية المظلومة من ظلم فئة طاغية مستبدة حاكمة، تستغل طبيعة الشعوب الهادئة المستكينة، المسالمة والطيبة والراضية، وتؤرجحها بين نار الحروب، وذل الأسر، وتشتت الشعوب والأفراد، وقيام أمة على أمة، والمجاعة، وكل ويلات الحروب، وكل النتائج التي يمكن أن تنتج من مفارقات ومنازعات ومشاكل لن تحل، ولن تبتر إلا ببتر هذه العناصر، وهذه الفئة ممن لا يستحقون الحياة، في هذه الحياة. واستعد نائب عزرائيل لهذه الرسالة الوطنية الصادقة، متخطيا فيها كل الصعبات، ضاربا بكشف عزرائيل عرض الحائط، دون من تقيد بأسماء ولا أشخاص، تم تحديدها بالفعل في كشف عزرائيل الأصلي المبجل”.[14]
فالوطن والإخاء والإنسانية الحرة الكريمة والعيش في سلام وأمن وطمأنينة، أفضل ألف مرة من تعليمات يوسف السباعي التي تركز هذه الرواية.
المجتمع: صورة الفقر والمرض والجهل في الرواية:
مما لا شك فيه أن الفقر والمرض والجهل هي أهم أسباب الحالة البشعة التي يقاسيها معظم البلاد في العالم والتي أدت إلى هذا الوضع السيء الذي يعاني منه المجتمع المصري وإنه لا أمل في مستقبل بدون خوض معركة ضد الفقر والمرض والجهل. فصور الكاتب تصويرا جليا لهذه القضايا الاجتماعية والثقافية التي انتشرت في أحياء مصر الحبيبة وفي شعوبها وأفرادها بلسان نائب عزرائيل الذي قام لأداء مهمته الخاصة وهو قبض الأرواح نيابة عن عزرائيل ملك الموت، في وقت محدد ومكان معين، وهذا المكان هو “سيدي زينهم” ويخيّل إليه أن فيها المقابر قد رصت فيها الأجساد على سطح الأرض لا في باطنها، بل هنا الأحياء الذين يقومون بدور الأموات، والموتى الذين يسعون على الأرض. هنا الزعماء الذين يعرضون أحسن موقفهم لدى الشعوب لأجل مصلحتهم الشخصية. وذكر الجنود المرتزقة من الجيوش المحاربة في العصور الوسطى مشبها للجيوش المصرية، وهم جنود يحاربون من أجل الرزق وقوت العيش، ومن أجل لقمة العيش، فالقتال عندهم مهنة وحرفة لكسب الأموال والنقود، والابتعاد عن الفقر والافتقار، وهم لا يهزمون أعداءهم إلا بقدر ما يحصلون عليه من غنائم وأموال مستلبة، وبقدر ما ينتهكونه من حرمات وما يسبونه من سبايا. لا يهمهم الغرض الذي يحاربون من أجله، ولكن يهمهم الأجر الذي يدفع لهم. فليس لهم من أنفسهم دافع للانتصار من أجل وطن أو مبدأ. فالحروب والكوارث وضعف التعليم وتدني الأجور من أهم أسباب أزمة الاقتصاد وبث الافتقار والجهل في مصر عبر العصور. ومن الأسف الشديد أن الكتّاب يكتبون القصص والكتب والنقد فيما يتعلق بدستور دين الإسلام والأحوال الاجتماعية من أجل الرزق فحسب. والخطيب يخطبون وهو يرجو من خطبته مطلبا، والدعاة يعلمون الدين الإسلامي ويدعون الناس إلى أعمال صالحة ولكن فيه مطلبه. والزعماء الوزراء والكبراء والشيوخ والنواب كلهم ليسوا إلا مرتزقة. كلهم يتكأكأون على محاربة الفقر والمرض والجهل، ولكن كثر الجهل لكثرة الحروب والمنازعات التي أصاب بها مصر عبر العصور. هؤلاء الزعماء لا يبغون إلا مصلحة خاصة، حتى الكاتب الذي تفيض مقالته بالنقد لهم وبالسخرية منهم، لا يهمهم من مقاله إلا أجر المقالة. أما محاربة الفقر والمرض والجهل فهي أبعد ما تكون عن ذهنه. ولم يصرف وقته وجهده في الاحساس إلى فقير أو مواساة مريض أو تعليم جاهل. فيقول نائب عزرائيل: “ما أعجب أولئك الذين بيدهم الأمر في هذا البلد، هم يحرصون على المناداة بمحاربة الفقر والمرض والجهل. مع أن المسألة في حد ذاتها لا تحتاج إلى حرب وقتال”[15]
فالنقد الاجتماعي في هذه الرواية ظاهرة من الظواهر التي تحدث عنها نائب عزرائيل أثناء سيره إلى بيت “المعلم حنفي”، وصور تصويرا دقيقا الشعوب الذين يعيشون بين الحياة والموت في حالة خطيرة لا يبالي به المسؤولون والحكماء.
صورة انهيار البيوت وفساد العمران:
إن يوسف السباعي يتحرر من قيود الزمان وواقعية المكان في هذه الرواية موظفا شخصية نائب عزرائيل للنقد الاجتماعي.[16] فصور الزعماء الذين يعرضون أحسن موقفهم لدى الشعوب لأجل مصلحتهم الشخصية. ووصف الجيوش المحاربة المسماة بجنون المرتزقة الذين يحاربون من أجل الرزق فقط والعلماء والدعاة والكتاب يخطبون ويكتبون من أجل الرزق فحسب. والشعوب يعيشون بين حياة وموت بل يموتون قبل موتهم.
والانتقادات الاجتماعية الواردة في الرواية تشير إلى العلامات التي لا بد من فهمها بأن المجتمع أصبح كبيوت ومنازل بلا عماد وقوام قوي، فليس هناك من يحافظ عليه من الانهيار لعدم تواجد المسؤولين والزعماء العادلين. كما تبين لنا الرواية أن البيت الذي سوف ينهار له شكل آخر ألا وهو البلاد، والزعماء والساسة العادلون هم دعائمها، وهم يستطيعون أن يحافظوا عليها من الانهيار والانهدام، ولكنهم مشتغلون بالأمور التي تنفع أنفسهم وترفع درجاتهم دون أن يتفكروا في المنازل المحتاجة إلى مساعداتهم اللازمة . وإن في كل بيت منهار الضحايا كما حدث على بيت المعلم حنفي وكان هو وآله من الضحايا في تلك الحادثة في هذه الرواية. وإنهم سوف يموتون تحت أنقاض بيتهم المنهار، وكان نائب عزرائيل جاء لأجل إنقاذهم كما حكي في كلمة نائب عزرائيل “وبدأت أفكر في كيفية إنقاذ المعلم حنفي وآله الكرام”[17]. وأشار الكاتب إلى كثرة البيوت الفاسدة التي على وشك الانهيار لأن صاحب البيت يشتغل بأعماله في اكتساب الأموال أكثر بالنسبة لعنايته ببيته المنهار أو يمكن أن يكون صاحب البيت هو الشخص المسكين الذي ليس لديه مصاريف لإصلاحها وما أشبه ذلك. وهناك الأزقة الضيقة بين تلك البيوت التي يمسك بعضها من الذعر بعضا، والتي تفوح منها العفونة وتجمع جوانبها القمامة وفيها يلعب الذباب، وأمام كل أبواب من البيوت مياه الغسيل النتنة الآسنة، هذه هي الملامح لتلك البيوت التي تخرب ظاهرتها كل يوم. وأن المعلم حنفي وآله علامة من الشعب المسكين الذي فقد حقوقه الإنسانية، وهو لا يستطيع إصلاح بيته رغم أنه على وشك الانهيار. وقد تبين من تلك الظاهرة أن الحكام لا يهتمون كثيرا بأمور شعوبهم، إنما هم يبالون ويتفكرون في أمورهم الشخصية وطريقة تحقيق كل ما يريدونه ويغرقون في بحر سلطتهم. وينظر النائب إلى تلك الحوادث بقلب حزين ويشكو متأسفا في قوله:
“يا لها البلد من زعمائه وكبرائه ووزرائه.. يا لها البلد من شيوخه ونوابه وكتابه.. يا لها البلد من كل أولئك المرتزقة الذين بيدهم أمره”.[18]
والبلاد في هذه الرواية كمثل بيت يحتاج إلى عماد قوي من الخشب الجيد والحدائد القوية حفظا من الانهيار والانهدام، ويحتاج إلى الحكام العادلين والشبان المثقفين والشعوب المتقدمين أفكارهم. وهذا هو الداء الذي أصاب مصر منذقرون حيث كانت حكومته استبدادية.
نتائج البحث:
يستنتج من هذا البحث بأن هذه الرواية صورت الدنيا ومصاعبها حيث كانت فيها الأخطار المحدقة الصادرة من الزعماء والسياسيين المستبدين. وبطل الرواية “يوسف” يتمنى تغيير النظام المستبد، كما يتمنى تغيير الدنيا المليئة بأخطاء سكانها إلى الدنيا المثالية التي ليست فيها الاختلافات العرقية والطبقية وتخلو من اضطهاد الزعماء والقادة. إضافة إلى ذلك، توجّه الرواية انتقادات اجتماعية إلى المجتمع المصري و سائر الأمم في أنحاء العالم، وتتحدث عن استبداد الرؤساء الظالمين غير العادلين، وفسادات المجتمع الأخلاقية في جميع المجالات وجميع الطبقات الاجتماعية، وتسلط الضوء على الفقر والمرض والجهل المتفشية في المجتمع، وسوء قيادة الزعماء والساسة وانحراف الجيل الجديد عن سواء السبيل. ويحاول الروائي يوسف السباعي إنقاذ الشعوب والجيل الجديد من هذه المساوئ الاجتماعية والسياسية ويدعو هم إلى مكارم الأخلاق كما تتجلى في نهاية الرواية.
الهوامش:
[1] السباعي، يوسف: نائب عزرائيل، مكتبة الإسكندرية 1947، ص:8.
[2] المصدر نفسه، ص:9-10.
[3] المصدر نفسه: ص:11.
[4] يعقوب، لوسي: يوسف السباعي بين الرومانسية والواقعية، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، 2007، ص: 33.
[5] السباعي، يوسف: نائب عزرائيل، مكتبة الإسكندرية 1947، ص:29.
[6] السباعي، يوسف: نائب عزرائيل، مكتبة الإسكندرية 1947، ص: 127-128.
[7] المصدر نفسه: ص:56-57.
[8] يعقوب، لوسي: يوسف السباعي بين الرومانسية والواقعية، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، 2007، ص: 35.
[9] المصدر نفسه: ص:36.
[10] المصدر نفسه: ص: 36.
[11] المصدر نفسه: ص: 36.
[12] يعقوب، لوسي: يوسف السباعي بين الرومانسية والواقعية، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، 2007، ص: 37.
[13] السباعي، يوسف: نائب عزرائيل، مكتبة الإسكندرية 1947، ص: 46-47.
[14] يعقوب، لوسي: يوسف السباعي بين الرومانسية والواقعية، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، 2007، ص: 38.
[15] السباعي، يوسف: نائب عزرائيل، مكتبة الإسكندرية 1947، ص:73.
[16] شريف، عبد العزير: أسوار المدينة في أدب يوسف السباعي في مجموعة من الكتاب “يوسف السباعي في ذاكراه الأولى، القاهرة، الهيئة المصرية العاملة للكتاب، 1979م، ص:103.
[17] السباعي، يوسف: نائب عزرائيل، مكتبة الإسكندرية 1947، ص: 74.
[18] السباعي، يوسف: نائب عزرائيل، مكتبة الإسكندرية 1947، ص: 71.
المصادر والمراجع:
- السباعي، يوسف: نائب عزرائيل، مكتبة الإسكندرية، 1947م.
- يعقوب، لوسي: يوسف السباعي بين الرومانسية والواقعية، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، 2007.
- أئمة المسلمة: الرواية نائب عزرائيل ليوسف السباعي، دراسة تحليلية سيمائية لشارل سندرس بورس، بحث مقدم إلى كلية الآداب والعلوم الثقافية بجامعة سونان كاليجاكا الحكومية جوكجاكرتا 2015.
- شريف، عبد العزير: أسوار المدينة في أدب يوسف السباعي في مجموعة من الكتاب “يوسف السباعي في ذاكراه الأولى، القاهرة، الهيئة المصرية العاملة للكتاب، 1979م.
- مفيد، حنان: يوسف السباعي سبعة وجوه،دار الشروق بالقاهرة، مصر 2005م.
- عيسى عماد الدين: يوسف السباعي فلسفة قلم وحياة، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1987م.
……………….. ***** ……………….