تمثلات الربيع العربي في رواية “ورقات من دفترالخوف
بقلم: ولي الله
باحث الدكتوراه، مركزالدراسات العربية والإفريقية، جامعة جواهر لال نهرو، نيو دلهي.
ملخص:
يعتبر الربيع العربي أكبر حركة سياسية قامت في العالم العربي في التاريخ الحديث حيث شهدت المنطقة ثورة تاريخية أحدثت تغييرات كثيرة من الناحيتين الإيجابية والسلبية على السواء. انطلقت شرارة الربيع العربي في ديسمبر 2010م مع احتجاجات سلمية واسعة النطاق من أجل نيل الحقوق المدنية والحرية والكرامة والديمقراطية، ولكن مع مرور الزمان، تحول “الربيع” إلى “خريف”، متمثلا في أحداث عنف وقتل ودمار واشتباكات وصراعات مؤدياً في النهاية إلى حروب أهلية دامية في عدد من البلدان العربية، وعودة النظم الديكتاتورية المستبدة في عدد من دول العالم العربي.
ومعلوم عن الأدب أنه مرآة للمجتمع، يصور ما يقع بداخله من تطورات، ويعكس ما يحدث فيه من وقائع واضطرابات وأحداث، وما يدور فيه من توجهات سياسية واقتصادية وثقافية، لذلك من الطبيعي أن تتجلى أحداث الربيع في الأدب، والرواية العربية كونَها ملحمة العصر الحديث أجدر بأن تصور أحداث الربيع العربي بأدق صورها وتفاصيلها. وقد أثبتت الرواية العربية المعاصرة ذلك فعلاً. منذ أن انطلق الربيع العربي في البلدان العربية من تونس وصولاً إلى مصر وليبيا وسوريا، انبرى الروائيون العرب يرصدونه ويوثقون هذه الأحداث بعناية ودقة بالغة. لقد هزَّ الربيع العربي المجتمعات العربية، حيث انفجر بركان غضب الشعوب العربية فجأةً، متمثلا في احتجاجات ومظاهرات عارمة اتخذت شكل ثورات قوية تمكنت من قلب الأنظمة الحاكمة واستبدالها بأخرى جديدة، وانعكس هذا الغضب العارم بقوةٍ ووضوحٍ في الرواية العربية بمضامينها ومحتوياتها.
لم يتمخض الربيع العربي عن ثورة في المجال السياسي والاجتماعي فحسب، بل في الأدب العربي أيضا. فنرى عددا كبيرا من القصائد والروايات والقصص القصيرة العربية التي اتخذت من ثورات الربيع العربي موضوعاً لها، وتناولتها من عدة زوايا. اهتم الروائيون العرب اهتماما بالغا بالربيع العربي وكل ما يتصل به من خلفيات ووقائع وأحداث. فجاءت عشرات الروايات العربية في هذا الموضوع. وما من شك في أن هذه الروايات ذات أهمية بالغة في استكناه الربيع العربي بشتى تجلياته وأبعاده.
يهدف هذا البحث إلى إبراز تجليات الربيع العربي في رواية “ورقات من دفتر الخوف” لأبي بكر العيادي.
الكلمات المفتاحية: الربيع العربي، الخريف، تمثلات، ثورة، الأنظمة الحاكمة، الاستبداد، الدكتاتورية، الرواية العربية، احتجاجات، مظاهرات، البطالة، الفساد، حقوق الإنسان.
نبذة عن الربيع العربي:
“الربيع العربي” هو مصطلح يطلق على سلسلة من الاحتجاجات والثورات ضد الحكومة والانتفاضات والتمردات المسلحة التي انتشرت في العالم العربي في مطلع عام 2011م.اشتعلت شرارة الربيع العربي الأولى في تونس عندما أشعل الشاب التونسي البالغ من العمر ستة وعشرين عاما “محمد بوعزيزي” النار على جسده وأحرق نفسه في وسط شارع مزدحم تعبيراً عن غضبه على بطالته وفساد الحكومة. في الحقيقة إنه لم يضرم النار في جسده، بل في العالم العربي كله.لم يكن هذا حادثا منعزلا، بل كان انعكاساً لإحباط جيل الشباب في العالم العربيمن جراء تفشي البطالة والفساد والدكتاتورية وانتهاك حقوق الإنسان والظروف المعيشية السيئة.
انطلقت الاحتجاجات والتظاهرات على مستوى الدولة عقب حادثة إضرام البوعزيزي. واستخدام الشرطة القوة المفرطة ضد المتظاهرين السلميين أثار غضب الناس.هاجمت قوة الأمنعلى المتظاهرين، والصحفيين وعامة الناس بطريقة وحشية، واعتقل كثير منهم. وتم فرض حظر التجوال في تونس بعد اشتباكات مع الشرطة. وامتدت الاحتجاجات إلى الدول العربية الأخرى مثل ليبيا ومصر، واليمن، وسوريا، والبحرين.
اضطر الرئيس التونسي زين العابدين بن علي إلى الفرار من البلاد واللجوء إلى السعودية في 14 يناير 2011م. وبعد فرار بن علي من تونس، أعلنت حالة الطوارئ في البلاد. وتعهد قائد الجيش رشيد عمار بحماية الثورة. وتولى رئيس الوزراء محمد الغنوشي منصب الرئيس المؤقت وأعلن بإجراء انتخابات جديدة. ووعد الغنوشي بالالتزام بالدستور والحد منالفوضى. استمر إطلاق النار في تونس وقرطاج في الوقت الذي كافحت فيه الأجهزة الأمنية للحفاظ على القانون والنظام. وبعد نهاية نظام بن علي بدأ القتال من أجل الاستيلاء على السلطة.
بعد الإطاحة بالرئيس التونسي زين العابدين بن علي بعد احتجاجات شعبية، توقع العديد من المحللين السياسيين أن مصر ستكون هي الدولة التالية التي تحدث فيها مثل هذه الثورة. في 25 يناير 2011 المعروفة باسم “يوم الغضب” أو “يوم الثورة” انفجرت احتجاجات في مدن مختلفة في جميع أنحاء مصر، بما فيها القاهرة،والإسكندرية، والسويس، والإسماعيلية.
سئم معظم المصريين من نظام حسني مبارك وديكتاتوريته وظلمه وسياساته الاقتصادية الفاشلة واستبداده لمدة 30 عاماً. وبعد الثورة التونسية انفجر غضبهم علانية. وبدأت الاحتجاجات والانتفاضات الشعبية في جميع أنحاء البلاد. احتل مئات الآلاف من المصريين العديد من الأماكن العامة في جميع أنحاء مصر، بما في ذلك ميدان التحرير في القاهرة. بدأ الآلاف يتجمعون في ميدان التحرير، واستخدمت الشرطة الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه ضد المتظاهرين. وبذلت الحكومة والسلطة قصارى جهودها لإيقاف المتظاهرين ومنعهم بالقوة. ومع ذلك خرج الملايين للاحتجاج ضد النظام.
في 11 فبراير 2011 في الساعة السادسة مساءً حسب توقيت مصر، أعلن نائب الرئيس عمر سليمان أنه تم تنحية الرئيس المصري حسني مبارك عن منصب الرئاسة، ويتولى المجلس العسكري الأعلى الحكم في البلاد. كان ذلك نبأ عظيما للمتظاهرين خاصة والشعب المصري عامة.
وفي يونيو 2012م، أجريت انتخابات رئاسية فاز فيها مرشح حزب الحرية والعدالة التابع للإخوان المسلمين محمد مرسي، وتولى منصب الرئاسة في 30 يونيو 2012 وأصبح أول رئيس مدني منتخب ديمقراطيا في تاريخ مصر.
أمر الرئيس المصري الجديد محمد مرسي بصياغة دستور جديد لمصر يحمي فيه الحقوق المدنية في ضوء التعاليم الإسلامية. قامت بصياغتها لجنة خاصة بكتابة الدستور التي انتخبها برلمان ما بعد الثورة. أدت هذه الخطوة إلى احتجاجات شديدة وأعمال عنفٍ من قبل العناصر العلمانية في عدة أنحاء البلاد. وفي 3 يوليو 2013 أعلن وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي عزل مرسي من خلال انقلاب واحتجز الرئيس المعزول مرسي في مكان غير معلوم وقام بإلغاء الدستور. أدت هذه الإجراءات إلى غضب شديد بين أنصار مرسي فبدأوا التظاهرات في أنحاء البلاد. منذ إزالة مرسي من الرئاسة ما زالت الحكومة المصرية المتأثرة بالجيش تقوم بقمع أنصار مرسي والمعارضة.
وفي جانب آخر، وصلت نيران ثورة الربيع العربي إلى ليبيا من الدول المجاورة مثل تونس ومصر، وصبّ الإعلام الغربي المزيد من الزيت على النار حتى صارت النار لهيبا وأحرقت ليبيا. بدأت الحرب الأهلية الليبية الأولى في عام 2011م بين القوات الموالية للعقيد معمر القذافي والجماعات المتمردة التي دعمها الغرب والتي تسعى إلى إسقاط حكومة القذافي.
وقعت اشتباكات بين المتظاهرين ومجموعة موالية للعقيد القذافي.استخدمت السلطة المدفعية وطائرات الهليكوبتر وقاذفات الصواريخ المضادة للطائرات لقتل المتظاهرين. تم تشكيل قوات التحالف بقيادة حلف شمال الأطلسي للقتال ضد القذافي وإسقاط حكومته. عمليات الناتو على ليبيا أدت إلى حرب أهلية دامية وإسقاط النظام وسيطرت الجماعات المتطرفة والإرهابية على ليبيا والذي حذر منه القذافي مرارا. اتهم الكثير من الخبراء السياسيين بأن حلف الناتو والدول الحليفة قامت بالهجوم على ليبيا ولم يكن ذلك لحماية المدنيين إذ قتل فيه المدنيون أيضا، بل كان لتحقيق أهدافها ولتحقيق الأجندة السياسية خلال إطاحة نظام القذافي وكان ذلك تدخلا مباشرا في الشؤون الداخلية.
قتل القذافي بأيدي الثوار. وواجهت ليبيا مشاكل عديدة بعد الإطاحة بالقذافي. اندلعت في ليبيا أعمال عنف بين مليشيات مختلفة وقوات أمن الدولة الجديدة. تصاعد العنف إلى الحرب الأهلية الليبية الثانية. لا تزال ليبيا ساحة معركة بعد أكثر من عقد من الإطاحة بالقذافي.
مع أن احتجاجات الربيع العربي اندلعت في عدة دول عربية منذ يناير 2011، ولكن سوريا ظلت هادئة حتى منتصف مارس 2011 بسبب الخوف من الشرطة والنظام بين المدنيين. وعندما اشتدت الاحتجاجات في العالم العربي وتمت إطاحة النظام في تونس ومصر تجرأ السوريون على الاحتجاجات ضد نظام بشار الأسد. بدأت الاحتجاجات في سوريا. مع اشتداد الاحتجاجات زادت الحكومة في استخدام القوة لقمع المقاومة وقتلت المئات من المتظاهرين. حاصرت قوات الأمن مدينة درعا التي أصبحت مركز الاحتجاجات وأوقفت جميع الخدمات اللازمة. قامت الحكومة بإطلاق النار العشوائي على المتظاهرين واعتقال الآلاف، والتعذيب الوحشي، خطف افراد عائلات المتظاهرين والقصف على المدنيين ونشر الدبابات في داخل المدن والقرى والحصار وارتكبت الحكومية السورية الجرائم ضد الإنسانية.[1]
وفي 29 يوليو 2011، أعلنت مجموعة من ضباط الجيش السوري المنشقين عن تشكيل “الجيش السوري الحر” ليحارب ضد نظام الأسد ويسعى لإسقاط النظام وأصبح أول قوة عسكرية معارضة منظمة. بعد أن تم تشكيل “الجيش السوري الحر” بدأ التمرد المسلح ضد الحكومة السورية. واستولى الجيش السوري الحر على مناطق عديدة في سوريا. قامت القوات المسلحة السورية باستخدام مدفعية على واسعة النطاق ضد الثوار والقصف العشوائي مما أدى إلى تدمير منازل المدنيين والمباني.[2]
وثق المرصد السوري لحقوق الإنسان (SOHR) مقتل 387118 شخصاً بحلول ديسمبر 2020 من بينهم 116911 مدنيًا. بالإضافة إلى 205300 مفقودا ويفترض أنهم قتلوا. يعاني أكثر من 2.1 مليون مدني من إصابات أو إعاقات دائمة نتيجة للصراع.
نزح أكثر من نصف سكان سوريا من ديارهم. هناك حوالي 6.7 مليون نازح داخليًا، يعيش العديد منهم في المخيمات، بينما تم تسجيل 5.6 مليون آخرين كلاجئين في الخارج. وهو أكبر عمليات نزوح اللاجئين في التاريخ الحديث. وُلد مليون طفل سوري لاجئ في المنفى.
لا يبدو أن الحرب الأهلية السورية ستنتهي في أي وقت قريب، لكن الجميع يتفقون على أن الحل السياسي مطلوب. ومع وجود خمسة جيوش أجنبية نشطة في سوريا، لا يمكن للمجتمع الدولي تقديم الحلول بدون توافقها. ومستقبل سوريا لا يزال غير مؤكد في هذه الظروف.
بعد عقد من انطلاقة الربيع العربي لاتزالالصراعاتوالحروب الأهلية مستمرةفي عدة دول عربية مثل سوريا وليبيا واليمن.
نبذة عن كاتب الرواية:
أبوبكرالعيادي هو كاتب وروائي ومترجم وصحفي تونسي. ولد الكاتب بجندوبة بتونس في عام 1949. أكمل دراسته الثانوية في جندوبة، ثم التحق بجامعة طرابلس، ثم سافر إلي فرنسا للدراسة العليا ولايزال يقيم في باريس منذ 1988. قام بالتدريس وعمل في الصحافة والإذاعة. كتب عدة قصص وروايات ومقالات ومسرحيات وأدبا لأطفال باللغة العربية والفرنسية. قام بترجمة أعمال عربية إلى الفرنسية. وله مساهمة قيمة في إعداد كتب مدرسية لأبناء الجالية التونسية في أوروبا. كتب العيادي مسلسلات إذاعية وسيناريوهات تلفزيونية أيضا.
من أهم رواياته:
- ورقات من دفترالخوف، 2013
- زمن الدنّوس،2011
- الرجل العاري، 2009
- آخرالرعية،2002
- مسار بالتيه،2001
- لابس الليل، 2000
من مؤلفاته الأخرى:
- العتق والرق (مقالات فكرية) 2016
- لعنة الكرسيّ (قصص) 2015
- جمركانون (قصص) 2013
- الضفة الأخرى (قصص) 2011
- حقائب الترحال (قصص) 2009
- قافلة معروف (أدب الأطفال) 2006
- الملك السمين والحكيم (أدب الأطفال) 2006
- حكاية شعلة (قصص) 2000
- حكايات آخرالليل (قصص) 1992
- دهاليزالزمن الممتد (قصص) 1986
تمثلات الربيع العربي في رواية “ورقات من دفتر الخوف”:
حكم الرئيس زين العابدين بن علي تونس منذ عام 1987م. مع أنه ادعى حكمه بالديمقراطي، ولكنه في الحقيقة ما كان إلا نوعا من حكومة استبدادية وديكتاتورية. قامت حكومته بتطوير القطاع الخاص في تونس لصالح الاستثمار الأجنبي. فالشركات العملاقة بدأت تستغل عمالها وتنتهك حقوقهم. وفي جانب آخر انتشر الفساد في القطاع العام على نطاق واسع. كل ذلك أدى إلى البطالة والأزمة الاقتصادية. في هذه الظروف السيئة أشعل الشاب التونسي البالغ من العمر ستة وعشرين عاما “محمد بوعزيزي” النار على جسده وأحرق نفسه في وسط شارع مزدحم تعبيرا عن غضبه على بطالته وفساد الحكومة.
بدأت الاحتجاجات والتظاهرات على مستوى الدولة عقب حادثة إضرام البوعزيزي. ورد فعل الشرطة القوي على المتظاهرين السلميين أثار غضب الناس.اشتبكت الشرطة مع المتظاهرين فاضطرت الحكومة الى نشر قوة الأمن في العديد من المدن في جميع أنحاء البلاد. تحدثت رواية “ورقات من دفتر الخوف” لأبي بكر العيادي عن هذه الأحداث. وهي تسلط الضوء على أحداث الربيع العربي في تونس، وأحوال الدولة الاجتماعية والسياسية في الفترة التي حكم فيها بن علي، والفساد المتفشي والظلم والاستبداد والبطالة في البلاد. استخدم نظام بن علي الخوف أسلحة للقمع وإسكات المعارضين. زرع الخوف في قلوب المواطنين بأساليب عديدة. كشفت الرواية هذه الأوضاع بأسلوب رائع. فبدأ الكاتب هذه الرواية بالإهداء بهذه الكلمات “إلى كل من لم يبع ضميره زمن الخوف.”[3]
ثم اقتبس الأبيات التالية:
وكنت أخاف الدهر ما كان باقيــــــــا فلما تولى مات خوفي من الدهر
لا يصلح الناس فوضى لا سرة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا تُهدى
الأمور بأهل الرأي ما صلت فإن تولت فبالأشرار تنقادُ[4]
ذكر الكاتب أمثلة القمع والاستبداد والمعاناة والاضطهاد والحبس والنفي لتصوير الخوف السائد في البلاد. الخوف هو القضية الرئيسية في هذه الرواية. يراقب الكاتب من المنفى في باريس الأوضاع المتغيرة المتسارعة خلال ثورة الربيع العربي في تونس ويحس بالخوف على المتظاهرين.”من منفاي الباريسي، وبي خوف من أن تدور الدوائر على المتظاهرين في الشارع الرئيسي، فالطاغية سفاح لا يعرف الرحمة، سيرته معمدة بالقتل، ملطخة بدماء ضحاياه من أبناء الشعب الأعزل.”[5]
هذا الخوف الذي أصبح سلاحا للحكم على البلاد قد زال من قلوب المواطنين بعد اندلاع الثورة فقد كسروا قفص الخوف وأصبحوا أحرار لتحقيق مطالبهم وهي الحرية، والعدالة، والكرامة، والرخاء. “بذلك حكمنا بن علي وأركب علينا طغمته وعائلته الفاسدة، وما هم في الأصل سوى أصنام من رمل اندثرت لأول موجة.”[6]
تصور الرواية شجاعة الشباب الذين يتحدون الخوف من الموت أثناء احتجاجهم على النظام القاسي. “نزل إلى الشوارع والساحات يتحدى آلة القمع غير عابئ بالموت.”[7]
قرر الثوار تحرير البلاد من الحكام الفاسدين ولو يتعرضون للعذاب الشديد لتحقيق هذه الغاية. تمثل الرواية هذا العزم الصارم:
“والله الموت أهون عليّ من رؤية عصابة لصوص تنهب البلاد في وضح النهار.”[8]
مع نزول المتظاهرين على الشوارع والميادين انتقل هذا الخوف من المواطنين إلى الطبقة الحاكمة. “وعجبت للناس يتحدونه، أمام معقل جهازه الأمني الذي أقام عليه مجده وكرس بقاءه، وهم يعرفون من بطشه ما لم يعد خافيا على أحد. وعجبت أكثر لشبان يطاولونه (…) خيّل إليّ ساعتها أن الخوف انتقل من المستضعف إلى الآمر الناهي.”[9]
تصور الرواية كيف استخدم النظام الأجهزة الحكومية من رجال الأمن والشرطة والمخابرات لزرع الخوف في قلوب الناس. “بوليس، ذلك هو (زعبع). مجرد بوليس لا يفهم من الحكم غير مراقبة المواطنين والتجسس عليهم والتربص بهم، للإيقاع بهم في هذا الخندق أو ذاك، خندق الوشاية أو خندق الركوع والانسحاق، وقد غدا لديه الشعب كله في حالة سراح شرطي، محكوما عليه سلفا، ولا يدري متى يعاد إلى الحبس.”[10]
ذكرت الرواية وحشية الشرطة أثناء القمع على المتظاهرين.
“عاد البوليس إلى قمع الأيام السابقة. أيام سود كان أعوانه خلالها يصيدون البشر كما تصاد الأرانب، حتى أثناء الجنائز والناس يدفنون قتلاهم، بلا شفقة ولا رحمة وكأنهم يحاربون أعداء.”[11]
صورت الرواية أنواع التعذيب في السجون السرية والاعتقال غير القانوني والإبادة الجماعية.
“البوليس السياسي وهو يعتقل الناس دون تمييز فيمارس ضدهم وسائِله البشعة، حرق وجلد وقلع أظفار واغتصاب لا يفرقون بين صغير وكبير، ولا بين ذكر وأنثى. ميليشيات الحزب الحاكم تقتحم بيوت حفظ الموتى لتختلس الجثث وتلقي بها في الوديان والمقابر الجماعية لإزالة آثار الجريمة.”[12]
شاهدت تونس القمع والاستبداد والفساد في فترة حكم بن علي أكثر من عهد حبيب بورقيبة الذي أطاح به انقلاب 1987. كما ذكرت الرواية:
“القمع متواصل كما كان في عهد بورقيبة، لا بل أكثر، والنهب جار على قدم وساق.”[13]
لا يسمح للمواطنين أن يتحدثوا مع الإعلام الأجنبي أو المنظمات الحقوقية الدولية عن الأوضاع السياسية والاجتماعية في البلاد. ومن يفعل ذلك فهو يتعرض لأشد العذاب. كما جاء في الرواية:
“ويل لمن نقل أطوار المهزلة إلى وسائل الإعلام الأجنبية أو رفع صوته بالشكوى لدى المنظمات الدولية.”[14]
تصور الرواية غضب الناس على الحكومة عند اندلاع الثورة. “نحن بالنسبة إلى النظام أتفه من بعوضة، مجرد قشه، لا بل ذرة من تراب يمكن أن تزول في أقلّ من ثانية بنفحة بسيطة.”[15]
تناقش الرواية مطالب المتظاهرين من الحرية والكرامة والعدالة والخروج من الحكم الاستبدادي والفقر والبطالة. أعرب المتظاهرون عنمطالبهم بهتافات جذابة. سجلت الرواية كل التفاصيل الصغيرة للربيع العربي حتى الشعارات والهتافات التي رددها المحتجون خلال الربيع العربي بعضها مبتكرة جدا وجذابة. لعبت الروايات العربية دورا بارزا في الحفاظ على تلك الشعارات والهتافات. ذكرت رواية ورقات من دفتر الخوفبعض هتافات جذابة:
“وجدت رسائل كثيرة وشرائط بالجملة. فتحت أحدها فإذا مسيرة ضخمة فاضت عن شارع بورقيبة، والناس رجالا ونساء، شباب وبنات، يرفعون علم تونس ولافتات كتب عليها: RCD DEGAGE
ويهتفون:
تونس تونس حرة حرة والتجمع على برة.”[16]
جاء في موضع آخر في الرواية:
“لاح الأصدقاء الافتراضيون على الفايسبوك وقد استعاض أغلبهم عن صورته بعلم تونس أو بشعارات مثل:
ثورة الحرية والكرامة BEN ALI DEGAGE
ثورة 14 جانفي
الشهيد محمد البوعزيزي.”[17]
علت الهتافات في ظل الخوف وإطلاق النار والقصف.
“قناصة يعتلون سطوح المباني ويطلقون نيرانهم على شاب يطالب بالحرية، ليس له من سلاح سوى غضب فاضت به الصدور.”[18]
يُعدُّ الإعلامُ الركن الرابع للديمقراطية لكنه ليس حرا في العالم العربي، فالحكومة تسيطر عليها. ويُستخدَم الإعلامُ لتحقيق مصالح الحكومة وتنفيذ أجنداتها، ولا يجرؤ الإعلام على أن ينتقد الحكومة في حين أن مساءلة الحكومة ونقد سياساتها الخاطئة يعد من الواجبات والمهام الرئيسة للإعلام. يصف الكاتب سيف المري وضع الإعلام في العالم العربي في العبارة التالية: “لأننا في زمن الإعلام المفتوح فإن هذه الأنظمة فشلت في إعادة إنتاج نفسها وبالغت في الهاجس الأمني على سلامتها الشخصية، واستمرت في أسلوبها القديم القائم على أجهزة المخابرات ولم تشعر بأن الزمن قد تغير، ولهذا فقد فوجئت، بل صعقت، بما حدث، وكانت النتيجة ما رأيناه ونراه يوميا على الفضائيات الإخبارية.”[19]
الإعلام المحلي في تونس أصبح المتحدث الرسمي باسم الحكومة. القنوات الإخبارية لم ينشر إلا ما رضي به الحكام، والصحف والجرائد ساندت موقف النظام في كتاباتها. ولكن وجدت هناك عديد من القنوات الإخبارية مثل الجزيرة وبي بي سي والصحف والجرائد التي تجرأت على نشر الأحداث كما هيعبرت عن موقف عامة الناس والثوار.[20] تناولت الرواية هذه القضية. وتحدثت عن دور الإعلام الأجنبي الحر في الربيع العربي. أبلغت تلك القنوات الإخبارية والصحف والجرائد وغيرها من وسائل الإعلام أحداث الثورة إلى العالم. بثت القنوات الإخبارية مباشرة ما يجري في الشوارع والميادين من التظاهرات والمسيرات والاحتجاجات. عقدت المناظرة والمناقشة في القنوات حول شتى المواضيع التي تتعلق بالربيع العربي. نشرت الصحف اليومية أخبار الثورة كل يوم فأصبحت هذه الأخبار مصدرا للاطلاع على أخبار الربيع العربي.
يقول البطل في الرواية: “فتحت قناة الجزيرة، فإذا الخبر يتصدر نشراتها على مدار الساعة … في حين كانت قناة تونس 7، وليس لنا ست قبلها لتحوز تلك المرتبة، ماضية في جدل عقيم ومنوعات تافهة. ثم صارت متابعة الجزيرة شغلي الشاغل منذ رجوعي من العمل حتى ساعة متأخرة من الليل.”[21]
تتحدث الرواية عن رقابة الحكومة على الصحف المحلية وإجبارها على نشر موقفها. كما يشير إليه النص التالي:
“صارت الصحف أبواق دعاية، وافتتاحياتها مباراة في موضوع إنشاء يحدد عشية صدورها، بل إن صور سيادته هي الأخرى كانت مرقمة، لا ينشر منها في الصفحة الأولى إلا ما يسمح لنا بنشره في اليوم المضبوط. كانت المكالمات تنزل على رؤساء التحرير في شكل أوامر تأتي مباشرة من القصر، تلزمهم بالمواضيع الواجب التباري فيها على هدي سياسة الرئيس الرشيدة، وسياسة الحكام العرب رشيدة وجوبا … وويل لمن عصى، أو فاه بكلام لا ينسجم مع الخط العام الذي رُسم للإعلام في تونس.”[22]
وناقشت الرواية دور التواصل الاجتماعي في الربيع العربي. عندما رفع الناس أصواتهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك، تويتر، يوتيوب وغيرها من مواقع التواصل الاجتماعي حاولت الحكومة إسكاتهم وفرضت القيود على الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعيمع ذلك كلما سنحت للنشطاء فرصة استخدامها انتهزوها للتعبير عن غضبهم ضد الحكومة.
لقد أتاح الربيع العربي فرصة ذهبية للمثقفين للتعبير عن مواقفهم وتجاربهم وأفكارهم تجاه هذه القضية العظيمة. إن رواية “ورقات من دفتر الخوف”صورت ما رآه رجل مثقف تونسي في المنفى من أحداث الثورة التونسية عبر الإعلام الأجنبي ووسائل التواصل الاجتماعي وما أحس به تجاه الحوادث، وما انفعل بها. هكذا صورت الرواية أحداث الربيع العربي في تونس، نقل أدق تفاصيلها، وكأن الكاتب ينقلها من خضم الأحداث، كما يقوم به مراسل محنك لإحدى القنوات الفضائية، ولكن برؤية قصصية فنية كما هو المطلوب من الروائي، فالروائي لا يسعه أن يكون مجرد ناقلا للأحداث، بل سابراً أغوارها معبراً عن رؤى فكرية وفنية.
الخاتمة:
إنّ رواية “ورقات من دفتر الخوف”عبارة عن حكاية الكاتب لتجاربه الشخصية عن أحداث الربيع العربية التي عايشها وانفعل بها عن طريق الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي. إنها رواية وثائقية وثقت أحداث الربيع العربي في تونس التي انطلقت منها شرارة الربيع العربي في مطلع عام 2011م، ويمكننا أيضا أن نعتبر هذهالروايةرواية واقعية تاريخية من ناحية تسجيلها لأحداث الربيع العربي في تونس. ولكن يجب علينا أن نأخذ في الاعتبار أن القصة أو الرواية لا تصور الأحداث كما حدثت، فهي عمل أساسه الخيال، ولكنه يستمد قصته وحبكته من الأحداث ويلبسها لباساً خياليا.
لقد صورت الرواية الأوضاع الاجتماعية والسياسية الفاسدة التي أدت إلى انطلاقة الثورة: من تفشي الفساد، والبطالة، والظلم والاستبداد، وخنق الحريات، كما صورت المشاركة الشعبية في هذه الاحتجاجات والتظاهرات ضد النظام الحاكم الفاسد والغضب الشعبي الجمهوري على النظام الفاسد المتعفن، ومدى إحباط الشباب من الوضع القائم. وبالتالي تعطينا الرواية صورة واقعية دقيقة لما جرى في تونس من أحداث على الساحة الشعبية منذ نهاية عام 2010م ومروراً بعام 2011م إلى نهاية الثورة.وهنا تتجلى أهمية الأدب الذي يعكس كل ما يدور في المجتمع من تحولات وما يعتمل فيه من تطورات. رواية”ورقات من دفتر الخوف” تصور لنا الخوف المسيطر على الشعب العربي من النظام الاستبدادي القمعي في لحظة من تحرره من ذاك الخوف في ثورة شعبية فجرت بركان ما في صدور الشعب من غيظ وغضب، وإحباط، وحنق واستياء، وسخط.
مراجع البحث:
- العيادي، أبو بكر، (2013). ورقات من دفتر الخوف، لندن، مومنت كتب.
- المري،سيف، (2013) أجراس الحروف،دبي،دارالصدى للصحافة والنشروالتوزيع،مجلة دبيا لثقافية.
- زين،حسن محمد، (2013). الربيع العربي آخرعمليات الشرق الأوسط الكبير،بيروت،دارالقلم الجديد.
- الجبوري،مصلح خضر، (2014). جذورالاستبداد والربيع العربي،عمان،الأكاديميون للنشروالتوزيع.
- الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية،(2013). الربيع العربي ثورات الخلاص من الاستبداد، بيروت،شرق الكتاب.
- بشارة،عزمي، (2012). الثورةالتونسية المجيدة،الدوحة،المركزالعربي للأبحاث ودراسة السياسات.
- 1 يونيو 2011م،ارتكاب قوات الأمن السورية جرائم ضد الإنسانية في درعا،تقريرهيومن رايتس ووتش.
- مارس- أبريل 2013م،Observations on the Air War in Syria،مجلةالقوةالجويةوالفضائية. (Air & Space Power Journal)
الهوامش:
[1]1 يونيو 2011م، ارتكاب قوات الأمن السورية جرائم ضد الإنسانية في درعا،تقرير هيومن رايتس ووتش.
[2]مارس- أبريل 2013م، Observations on the Air War in Syria، مجلة القوة الجوية والفضائية. (Air & Space Power Journal)
[3]العيادي، أبو بكر، (2013). ورقات من دفتر الخوف، لندن، مومنت كتب، ص: 3
[4] المصدر السابق، ص: 5
[5] المصدر السابق، ص: 7
[6] المصدر السابق، ص: 63
[7] المصدر السابق، ص: 11
[8] المصدر السابق، ص: 34
[9] المصدر السابق، ص: 8
[10] المصدر السابق، ص: 16
[11] المصدر السابق، ص: 8
[12] المصدر السابق، ص: 9
[13] المصدر السابق، ص: 57
[14] المصدر السابق، ص: 12
[15] المصدر السابق، ص: 75
[16] المصدر السابق، ص: 39
[17] المصدر السابق، ص: 19
[18] المصدر السابق، ص: 9
[19] المري، سيف، (2013) أجراس الحروف، دبي، دار الصدى للصحافة والنشر والتوزيع، مجلة دبي الثقافية، ص: 188
[20] زين، حسن محمد، (2013). الربيع العربي آخر عمليات الشرق الأوسط الكبير، بيروت، دار القلمالجديد، ص: 201-202
[21]العيادي، أبو بكر، (2013). ورقات من دفتر الخوف، ص: 9
[22] المصدر السابق، ص: 47