سيكولوجيا الإبداع وأبعادها التأويلية- (كونفينيس) لسليم بتقة أنموذجاً

Vol. No. 2, Issue No.1 - January-March 2022, ISSN: 2582-9254

0
705
سيكولوجيا الإبداع وأبعادها التأويلية- (كونفينيس) لسليم بتقة أنموذجاً

بقلم: شهيرة زرناجي

جامعة محمد خيضر- بسكرة (الجزائر).

chahira.zernadji@univ-biskra.dz

—————————————-

ملخص البحث:

إن الكتابة القصصية عالم لا متناه من الإبداع، سطور كثيفة من المعاني، حروف ثابتة من الدلالات، معان تصويرية شاملة، تتفجّر إبداعا، تمهّد للفكرة وما بعدها، خاصة عندما يتقن الكاتب سرديتها، ويطوف بين كل الأجناس الأدبية، كأنّما يؤكد قدرته على فن القول بكل اللغات والثقافات، وبكل الدلالات، والقوالب والأشكال، ليعبر الإنتاج الأدبي عنده عن سيكولوجيا إبداعية خاصة، تنقل القارئ من مجرد البحث عن الدلالة إلى إنتاج الدلالة. وهنا يتحدد الهدف الذي جاءت من أجله هذه الدراسة، وهو فهم سيكولوجيا المبدع من خلال نصوصه، وفتح باب التأويل بالوقوف على استحضار التاريخ البشري بكل ما يحمله من أساطير وأغان تراثية، وأشعار عربية.

كلمات مفتاحية: سيكولوجيا؛ إبداع كتابة؛ تأويل؛ دلالة.

  1. مقدمة:

القصة القصيرة كما نعلم فن يقوم على اختزال العالم في لحظة، بل وتكثيفها، وبنائها على نحو بارق وموح، ومتوهج بوهج التجربة، وعلى هذه الصورة أبدع كاتبنا سليم بتقة مجموعته كونفينيس التي أردنا من خلال دراستها فهم سيكولوجيا المبدع. أو بالأحرى قراءة سطوره التي لم يكتبها، ولم يفصح عنها، لنفهم أو نحاول فهم هذه الذهنية الذكورية، ونستشف من خلالها لعبة الإبداع لدى هذا الكاتب الجزائري الذي خاض عالم الكتابة من خلال اختياره لهذا الفن الأدبي، فهل كان الكاتب موفقا في اختياره، وهل كانت له دوافع نفسية لكتابته الإبداعية؟ وللإجابة عن هذه الإشكالية تتبعنا المنهج الوصفي التحليلي، فضلا عن المنهج التأويلي الذي يقودنا إلى فهم ما وراء السطور، وذلك باعتماد خطة منهجية تبتدئ من تحديد المصطلح والمفهوم لتتضح أداه الدراسة، وينكشف منهجها، ثم طرح لأهم دوافع الإبداع عند المبدعين، ومنتهاها بحث في سيكولوجيا الإبداع عند الكاتب المختار.

  1. مفهوم التأويل:

التأويلية أو الهيرمينوطيقا مصطلح قديم بدأ استخدامه في دوائر الدراسات اللاهوتية، وهي مجموعة القواعد والمعايير التي يجب أن يتبعها المفسر لفهم النص الديني[1]. ثم أصبح كما يوضّح أغلب المفكرين في هذا الحقل، فعلا معرفيا ونقديا، يفتح أفاقا  للتفكير في الخطابات الدينية، والفلسفية، والأدبية مقوّضا بذلك الأسس المؤدية للقراءات المتحجّرة للنصوص السردية، التي تسلّم بالمعنى الأحادي، والقراءة المطلقة، يقول عبد الرحمان التمارة في مؤلفه (نقد النقد بين التصور المنهجي والإنجاز النّصي): “يكتسب العمل النقدي أهميته إذن من الاستعانة بحقول ابستمولوجية شتّى، تمنح الخطاب النّقدي قوة استكشافية للأعمال السّردية، ليصبح النّقد مُقترنا بمجالات معرفية ليست بالضرورة نقدية، فيصير الاجتهاد النّقدي مدخلا هاما للمساهمة في دينامية تطورية يُنتجها تراكم الخطابات النقدية”[2]. وبهذا يكون التأويل آلية منهجية تمكن من قراءة النص الروائي وتحليل مرجعيته النصية لأجل اقتراح دلالات على العالم المسرود في الرواية، وليس البحث عنها داخله بوصفها دلالات ثابتة[3].

إن التأويل قراءة لسيكولوجيا المفكر أو المبدع، بحث في الخطاب بملء فراغاته وبياضاته ليصير الغامض جليا، والمعقد بسيطا، ويصير المحذوف مذكورا، في عمل إنتاجي لدلالات سكت عنها صاحبها، وأفضى بها القارئ.

  1. دوافع الإبداع وسيكولوجيا الكتابة:

من المهم جدا معرفة دوافع الإبداع، فسيكولوجيا الكتابة في الواقع النّفسي، والوعي الأيديولوجي كامنة في ذهنية متّقدة بالأحاسيس تُلًح على صاحبها راهنية تقمص حالة من المشاعر، والانطلاق في صنع نصٍ ينبض بالتناقضات، بالميولات، بالإبداعات، لخرق نسيج اللغة في كلمات تنأى عن الحقيقة إلى المتخيّل، من الثابت إلى المتحول، من الغائب إلى الحاضر، لمتلقٍ يجيد الغوص هو الآخر في هذه الذات المبدعة من خلال سطورها، وفراغاتها لقول ما لم يذكر، وبوح ما لم يستطع المبدع إليه سبيلاً.

وربما كانت سيكولوجيا الكتابة عند الرجل أدق وأرق، والاستعداد الفطري كامن منذ ذاك الجرح في بقايا النسيان، لأحاسيس قد تكون مهدّمة، وفعل الكتابة يبنيها من جديد، فهي تراكمات ومكبوتات، أو شوق للبوح، والرّجل في بوحه طويل باعه، كثير إنتاجه، تنصهر كلماته في قوالب الإبداع لتشي للقارئ أنها بنات أفكاره، وحياته هو، وسنين عمره.

  1. قراءة تأويلية في سيكولوجيا الكتابة الإبداعية:

سيكون نموذجنا في هذه الدراسة لكشف سيكولوجيا الكتابة ودلالاتها التأويلية المجموعة القصصية (كونفينيس) لسليم بتقة، هذا الكاتب الذي مجّد ولا يزال صورة الرجل المثقف، والمتحرر من كل القيود، في سمائه يبزغ نجم الرقي في الفكرة، ووجه الالتزام بالقلم الحر، مُقوضا كل البناءات السّردية الهشَة، والاختلالات الفكرية المضللة، لقد جمع في نصوصه حنينه للعدالة الاجتماعية، للثورة على الظلم والسياسات القمعية، لأخطائنا الفلسفية، لبوحنا المتأزم، لأسرارنا المذهبية، وطقوسنا الاستعلائية، عبّر وبصدق عن ازدواجية أحكامنا، عن قراراتنا المتسرعة، وخيباتنا المتكررة، عن صورتنا أمام الآخر، عن قلقنا الوجودي، ووضعنا الهامشي الفوضوي.

والسؤال المطروح ما الذي أراده المبدع من مجموعته المكوّنة من اثني عشرة (12) عنوانا، تتنوع بين: المعربة (كاوس، الأنديميون، كوالا، بسوكوديا)، والعامية الدارجة: (بوكشاش، يقوللها الممرضة)، والفصيحة: (الرصيف الحافي، الوجهة الأخيرة، أحجار الذاكرة، صاحب الجلالة الغيلم، وراء أبواب موصدة، السبت يأتي يوم الخميس).

هل كان ذاك القنوط، وذاك الألم النفسي الذي سببه الوباء، وراء اختيار هذه العناوين؟ فسرعة الأيام وتسارعها يشي بلون من التوتر، والخلل في بنية التاريخ، ونفسية الناس وخاصة المبدعين منهم … تدور هذه المجموعة في زمن أزمة وجودية، أراد الكاتب فيها رصد عدد الإصابات والموتى، وتحليل ذلك الذعر الذي أذهل الناس جميعا، وهي مجموعة تربطها خيوط واحدة  لفكرة مفادها توتر وقلق عن مصير العالم إثر هذه الجائحة، فاللجوء إلى تقديس ألفاظ دون غيرها، وشحن دلالاتها بمعاني التعظيم ، كانت السّمة البارزة في بعض هذه القصص، وكل المجموعة ما هي إلا حجر لذاكرة  سترسخ في عقولنا  كما رسخت وباءات مماثلة قضت على أعداد  بشرية هائلة في سنوات خلت.

1.4. القصة الأولى: كاوس أو الفوضى:

يؤرخ لهذه اللحظة فيقول: “اهتز داخلي نغم ربيعي دافئ أزال عنه سكون السنوات الماضية، كانت دفعا لحياتي، وبديلا لصمتي الطويل”[4]، هذا الفقد الذي أشعره بغربة نفسية صارخة، جعله في بحث مستميت عن نقاط الرسو، بحث متواصل عن الأنا، عن الهوية.

أراد سليم بتقة لما كتب عن الموت في مجموعته هاته أن يعبر بكل صدق، فرحيل من كانوا سندا يعني لونا من الغربة والالتصاق بذلك الماضي، وهذا ما نستشفه في كامل مجموعته القصصية التي كانت منبرا للإفصاح والبوح، والصدق مع الأنا ومع الآخر.

يواصل كاتبنا صدقه عن نفسه أولا لنراه الصادق في قوله عن الآخرين، فها هو في موضع آخر يقول إنه بقي يبحث عنها منذ زمن، فهي الزمن كله؛ الماضي منه والآتي، هي بديل بحثه ومحور يقينه.

نفهم من قوله إنها لم تكن المرأة بل كانت الدنيا، بدليل (الزمن الاتي )، فالمرأة التي تحدث عنها في عداد الموتى، فكيف لها أن تكون زمنا آتيا؟، ويؤكد المبدع هذه الفكرة في الجملة التالية والتي اختصر فيها الحزن الذي يختلج قلب رجل في وداع كل من يحب في هذه الحياة، ليست المرأة فقط ، والتي قد يكون التفكير فيها في سن معينة (شيئا ثانويا، ربما نبكي أعمارنا، شبابنا تفريطنا، تقصيرنا، وهموم أخرى قد تتملكنا: “يلتصق الألم بشدة الروح.. إنها أسوء لحظة لقلبي الحزين. تمزّق الستائر تدعو إلى البكاء…  توقد شموع الأحزان”[5].

ومن المقاطع التي تستوجب فهما وتأويلا وسفرا إلى أعماق بطل هذه القصّة، (قصة العندليب)، فما علاقتها بموت الزوجة؟ يقول: “أقسمت ألا تتزوج”[6]، هنا نطرح السؤال عن هوية هذا العندليب الذي ترفض الزواج من أجله؟ ولماذا تبقي خبر خطوبتها سرا؟ وكيف تأخذه في صندوق عرسها؟ … وماهي هذه الهدايا؟ إذن هي قصة مشفّرة للبطل. لماذا اختار كاتبنا بالضبط شخصية “رشيد” بطلا لقصته؟ كان أستاذا لمادة التربية البدنية؟ لماذا هذه المادة دون سواها؟ أسئلة عديدة يطرحها كل من يقرأ القصة، ويجيب عنها كل قارئ بمنظوره في زمن تعَدَّد فيه قراء النص، حتى لكأنه ليس النص ذاته. لأن القراءة في النقد الحديث لم تعد قراءة نقلب فيها النظر بين السطور، إنها قراءة حية، فاعلة منتجة[7].

2.4. القصة الثانية: السبت يبدأ يوم الخميس:

هي حالة أخرى من يوميات كورونا… حالة تشابه الأيام والليالي والشهور، رتيبة هي المشاعر والكلمات والحروف.. سريعة هي دقات هذا الزمن المخيف…، في القصة ذكر لأخبار عديدة، حدثت في أشهر متقاربة ولم تحدث في جلسة واحدة، ولعل تأويل ذلك هو تسارع الزمن والشعور بأن كل تلك الأحداث جرت في زمن واحد، وهذا تقريبا ما كان يعنيه عنوان قصتنا (السبت يبدأ يوم الخميس)، عنوان يثير الشك والريبة في نفس القارئ، ويبعث على الحيرة و الاستفهام، لكن استكناه شخصية الكاتب، ونفسيته سيمحو كل ذلك القلق، ليعرف هذا القارئ أن العنوان لغم صغير يفجر سليم بتقة من خلاله مكبوتات ذات متألمة على أيام يشبه بعضها بعضا في الحسرة والخوف، والقلق والتذمر، والانهيار.

يتحدث الكاتب في هذه القصة عن بطل كان جالسا على الأريكة يقلب القنوات (بالريموت كونترول) على حد تعبيره، كما يتحدث عن الذين أتوا من فرنسا ومعهم المرض (فطيمة أخت إسماعيل ابن نسيب الشخصية الرئيسية)، وعن تدافع النّاس لشراء السّميد، وعن صوت الأذان الذي يرفع كل صلاة، وخلو المساجد من المصلين. وعن صورة المدينة أيام الحجر [8].

تتحدث القصة عن صورة البخل في المقاهي والتي تعدّت قصص البخل عند الجاحظ، وبخلاء أرباغون في قصص موليير. وتذكر مقولة حفيظ دراجي: حطّها في الـڨـــول يا رياض” واستبدالها بمقولة: حطّها في الجيب يا رياض”[9]، هذا التناص الثقافي الشعبي الذي يقضي على رتابة الأسلوب واللغة، ويفضي إلى علاقة ترابطية بين الكاتب وعالمه، وبين النص وسياقه، حتى يستحيل النص فسيفساء من نصوص أخرى، أدمجت فيه بتقنيات مختلفة[10]، إنه التناص الذي يستثير القارئ بأشهر مقوله عشقها الشباب بعد هدف اللاعب الجزائري رياض محرز في كان 2019، حيث أراد الكاتب من خلالها أن يضع نصه في قالب فكاهي رغبة منه في الخروج عن رتابة السّرد، وسواد بعض زواياه بفعل الجائحة، وما تركته من ظلال نفسية ووجوديه قاتمة على التفكير الجمعي، الذي سيبقى راسخا في الأذهان، وكيف أن فيروسا لا يرُى أتى على البشرية جمعاء، أغلقها وأبقى الجميع داخل أربع جدران برغم كل مباهج الدنيا، وألزم فريقا آخر  العناية المركّزة ليتنفس أوكسجينا اصطناعيا، نقدا وعدا، في حين ردمت فئات أخرى وما أكثرها تحت الثّرى ردما، بطريقة تدمي القلب، هي زاوية مضيئة أراد الكاتب فتحها أمام كل هذا الشؤم والقنوط الذي صبغ هذه المجموعة.

ناهيك عن بعض الأمثال الشّعبية، والأغاني التراثية وبعض الأشعار العربية قديمها وحديثها مثل ما نجده في هذه القصة من أبيات للراحل محمود درويش، مثل[11]:

أريد رائحة القهوة

ولا أريد غير رائحة القهوة

ولا أريد من الأيام كلها غير رائحة القهوة.

لأن ارتشاف القهوة عادة ما يصاحب ذلك الصمت الصباحي الباكر المتأني الذي تقف فيه وحدك مع تختاره بكسل وعزلة في سلام مبتكر مع النفس والأشياء، لهذا قال كاتبنا[12]:

وحيدا أصنع القهوة

ويختم المبدع قصته هذه بمقوله الروائي “جاك لندن” في رواية الطاعون القرمزي: عن إمكانية فقدنا للنعيم الذي كنا نعيشه، والقصد هنا النعيم الذي لم نعرف قيمته، حتّى جاء هذا الوباء، فكشف لنا جبروتنا، ظلمنا، قسوتنا، جحودنا، تكبرنا، وكثرة جرائمنا، فهل نعود لضمائرنا، وتعود لنا ضمائرنا بعد كورونا[13].

3.4. القصة الثالثة (وراء أبواب موصدة): العنوان شبه جملة، المبتدأ محذوف تقديره (نحن) أو(الكل)، فأصل التعبير: الكل وراء أبواب موصدة، ونستشف في هذه القصة وانطلاقا من عنوانها نفسا متعبة، تختبئ خلف الأبواب، بل إنها في التركيب ملغاة كليا، فلم يعد لها وجود إلا في البنية العميقة، إنها النفس التي اشتاقت إلى الحياة الطبيعية، لكن الوباء فرض عليها أن تبقى حبيسة الجدران ترصد أخبار الجائحة وتتابعها أولا بأول.

زمن أحداث القصة كان  الأسبوع الثاني من الجائحة، الإصابات ارتفعت وعبارات الشؤم توالت، إذ يقول: “لا شيء يبعث على الأمل”[14]، “الأخبار الكئيبة وصور الدفن الاستثنائية لموتى لقوا حتفهم بسبب كورونا، ولا يستطيع أهاليهم إلقاء النظرة الأخيرة عليهم وتوديعهم، صورة الحزن في كل مكان”[15]، نستطيع القول جملة إن هذه القصة بالذّات تحمل الكثير من القراءات، والتأويلات، فخلف كل أبوابنا الموصدة حياة ما، حياة لا يعلمها إلا الخالق…، حياة تختلف فيها الأشكال والألوان، والمزاجات، تختلف كذلك العقليات والثقافات، بين حياة هادئة وأخرى فوضوية، أو لنقل حياة يغطيها السّلام وراحة البال، وأخرى يكسرها الحزن والشّقاء، الكل يركن إلى حَجره إلى حبسه الذي أجبر عليه.

في القصة أيضا يذكر الكاتب مقطعا لمحمد راشدي يتحدث فيه عن اللذة التي تتركها القهوة في نفسية الكاتب، ورائحتها التي تحرّك فيه حنينا ما إلى الماضي ربما، أو إلى ذكريات هامة علقت في خبراته، ومجموعة أشيائه المقدّسة التي يحملها معه عبر رحلة الحياة يقول: القهوة دارت الروائح”[16].

كما يذكر عيون الأدب العالمي من هيجو، إلى راسين، إلى فولتير… وغيرهم هروبا من الأزمة إلى عالم المتخيل، عالم القصة والرواية، وخاصة الغربية منها، فالكاتب مولع بالآداب الأجنبية، إنه سفر إلى تلك البلاد، بدون تكلفة، وقراءة تجارب وآثار هؤلاء في حياتهم، والتعرف على فلسفتهم، في حل إشكالات الإنسان “إنها طريقة للهروب وأنا، في أمس الحاجة إلى ذلك”[17].

وفي القصة يقدم المبدع نصائح لاستغلال وقت الحجر وحديث عن الوضعية في المهجر، وهي أصعب بكثير مما هي عليه في الجزائر، إنها قصة واقعية إلى أبعد حد، فيها من الشخوص والأحداث ما يقربها إلى القصة الإخبارية، وقد نجح الكاتب في تصوير الواقع وتثبيته في الذاكرة الجماعية.

4.4. القصة الرابعة: الأنديميون

أو الخوف من الشيخوخة، العجز، المرض، الموت، الخوف من الفقد الحرمان، الضياع.. أن نرغب بكل عنف في الشباب في الجمال، حتى من وجهة نظر ذكورية، فقد اعتدنا في سيكولوجيا المرأة عامة أنها تنأى عن التجاعيد، تحب الجمال، الأناقة، العطور، الفخامة، الرقي، المال، الرشاقة، أما أن يكون ذلك من سيكولوجيا ذكورية فهذا ما كشفه لنا سليم بتقة في كونفينيس، هو الخوف من الموت، الرغبة الجامحة في نيل التقدير، والوصول إلى الألقاب الكبيرة، وفرض الاحترام، وغيرها  كثير من أبجديات نفسية المرأة والرجل، إذ تتقاطعان معا في حب الجمال والشباب والخلود، إنها حال سيكولوجية ينشدها الجنسين: الذكر والأنثى بأحجام مختلفة وكيفيات مختلفة.

يتحدث الكاتب في هذه القصة عن الفوضى التي أنتجها الوباء، والفوضى الفكرية، ويتحدث عن العودة إلى الطبيعة، وحب الترتيب، و”الكنس” لفظة تكررت في هذه القصة بالذات عديد المرّات كثنائية ضدية للفوضى الخلاّقة التي أنتجتها أيام الكورونا، كما يتحدث عن فكرة ترتيب الشّقة، وترتيب المكان، لدفع الأرق ، ثم ينتقل الحديث إلى الجارة الدبة يصفها ويصف حياتها منذ وفاة زوجها وبيعها لبيت العائلة، و عيشها وحيدة في شقة، ورفضها الاحتكاك بأبنائها إلا مرة في الشهر، يأتي ابنها الأكبر ليستلم راتب منحة التقاعد بالعملة الصعبة، وهي تردد أغنية” بقار حدة” المرثية الحزينة لزوجها.

تميزت القصة بطاقة هائلة للكاتب للتعابير المجازية أولها قوله: تسقط عن كتفي فكرة ترتيب الشقة، وقوله: إنها تزيح النعاس الثقيل عن الماضي الجميل[18]، وقوله: تختفي الذكريات وراء ضباب الساعات[19]؛ إنها لغة الأديب الرصين الذي يقضي باللغة على المجازية على رتابة اللغة العادية ومن ثمة على رتابة الحياة وروتينها القاتل، خاصة عندما يكون هذا الروتين محكوما بوباء ككوفيد 19.

5.4. القصة الخامسة: كوالا  

والكوالا نوع من الثدييات، وهو من الحيوانات العاشبة، ومتسلق أشجار ماهر، تطيب له الإقامة على الأشجار، وهو حيوان هادئ، ينام على شجرته بمعدل 19 تسعة عشرة ساعة في اليوم[20]، ولكن ما دلالته هنا؟

 ربما يمتاز الكوالا بما تميزت به الشخصية الرئيسية من خمول، وسكون، ووحدة عاشها العالم ويعيشها على وقع مستجدات الجائحة مع بداية الأسبوع الثالث.

أكثر ما يثير في هذه القصة استحضار الموروث الشعبي والثقافي من خلال تلك الإشارة إلى أغنية الشاب حسني: راني مرة هنا ومرة لهيه[21]، إنها حالة التذبذب الواسع، والقلق اللامحدود الذي يعيشها المبدع وهو يكتب مجموعته القصصية، فمكانه غير ثابت، ولا واضح، هو مرة هنا ومرة هناك، لأن الموت والفوضى، والإغلاق التام ورثوه الشتات والتوتر.

تميزت القصة أيضا بوصف نفاق الفيسبوكيين أو رواد المواقع التواصلية، فهو من قبيل رصد للحقبة المعاشة وتأريخها، فذكر كلمة “موسوسين ” كان نعتا صريحا ودقيقا لفئة معينة وما أكثرها، لها صفات منفرة لدى كاتبنا [22]واستعمال العامية كان أبلغ وأكثر دلالة.

6.4. القصة السادسة: صاحب الجلالة الغيلم

والغيلم هو ذكر السلحفاة، يدل في قراءة تأويلية على بطء عمال البريد والمواصلات في أداء مهامهم، بل إنهم غير أمناء البتة فالحوار الذي دار بين الأستاذ الثانوي، والذي يمثل شخصية الكاتب الحقيقة، وبين موظف البريد والمواصلات، في مشادات كلامية مهينة جعلت المؤسسة بأكملها تثير الاشمئزاز والرغبة في الانتحار.

 في هذه القصة نستشف سوء معاملة عامل البريد والمواصلات للأستاذ المثقف، بل واحتقارهم له، فالأستاذ إنما يعبر عن مجموعة من القيم الإنسانية، هو من  تتلمذت على يديه آلاف الأسماء والألقاب، عاملهم سواسية، تعب في تحضير دروسه، تحمّل الكثير، ليكون عادلا في تقييمه، عادلا في أحكامه، ناصحا، متفهما صابرا على غلاء المعيشة وأجر لا يتناسب مع ما يبذله في سبيل زرع القيم، قبل العلم والمبادئ، وقبل الأجر أيضا، لكنه في الأخير يتحمّل سوء ظن الشامتين وسوء تقدير غير العارفين ،هي إذا أزمة هذا العصر الذي ساوى بين المثقف وغيره، ولعل هذا الأخير أكثر نفوذا وحصانة لمال يمتلكه مهما كان مصدره، أو ربما أكثر تقديرا لما يملك من مؤسسات، وسيارات، وما محل هذا الأستاذ المثقف، والمتخلق في مجتمع اختلت عنده الموازين؟ وهل نستطيع القول بأن الكاتب وحده من يشعر بهذه الأزمة؟ أم أنها تنسحب على كل المثقفين في هذه الولاية وغيرها، أم أن هذا الشعور نسبي، ربما لا يشعره آخرون مطلقا، وربما يتفاوت من مثقف لآخر، هي إذا مسألة جد حسّاسة طرحها الأستاذ والدكتور والكاتب سليم بتقة، كما صوّر الكاتب استهتار الخارقين لقوانين الحجر هؤلاء الذين محا الجهل عقولهم: ” كنسته رياح الجهل من يومياتهم[23]، ومقارنتهم بثقافة الحجر عند الإيطاليين.

في هذه القصّة سرد حقيقي لواقع المدينة واستخدامه جملة من الألفاظ المتداولة يوميا، كنساء العمارة، سيارات الشرطة، شراء الخبز، استلام المرتب الشهري … لم يكتف الكاتب في هذه القصّة بذكر أعداد الموتى فحسب، بل قرّب لنا الواقع أكثر، فذكرهم فردا فردا، بأسمائهم وألقابهم وكنياتهم، هم أفراد حقيقيون، من روح وجسد، لنشعر عظم المأساة التي يؤرخ لها كاتبنا وأستاذنا بتقة سليم، فالحاج لخضر، وصميدة الإسكافي، وموسى الميغري كانوا فعلا ضحايا كورونا.

إنها النفس المبدعة عندما تتألم وتتوجع، فالكاتب مختلف عن غيره، في طريقة التعبير، تدفعه سيكولوجيا الكتابة إلى إنتاجٍ يصور فيه الواقع، ويحاكي فيه الحقيقة، فيكتب بمرارة عما أرقه، وعما آلمه.

يعود الكاتب في هذه القصة إلى الزوجة المثالية “ايمان” التي توفيت إثر مرض خطير، ولهذا التكرار دلالته التأويلية، فذكرها تعبير عن حاجة ماسّة في الوعي واللاوعي لذات متفهمة، لذات تستمع لنا، لذات تعيد لنا ذاك الشباب، والجمال، لذات تهدينا عودا نعزف عليه أنغام السّعادة المفقودة، في زمن الصّفاء، وزمن الوباء.

7.4. القصة السابعة أحجار الذاكرة:

هي قصة صديق الطفولة “ميلود”، قصته مع الضرب … في برد الشتاء بقشابية تعنون الحاجة والفاقة، ورغم كل هذا ظلم البشر وقسوتهم وجبروتهم، في شخص الحوذي سائق العربة، وذاك المدير وليس كلهم، وأولئك الأساتذة وليس جميعهم، هؤلاء انهالوا ضربا على صغير لا يملك في عقله إلا بضع أبجديات الحياة، في اللعب والترويح عن النفس من كبت الفاقة والفقر، وضحك الأقران والصّداقات إلى الأذقان في سن البراءة، ربما براءتهم تشفع لهم، فأين هو مليود فينا عندما كبرنا، وهل لانزال نركض وراء الدنيا وهي قُدما تشق طريقها ونحن خلفها.. تركلنا تارة وتقذفنا أخرى مثل “ميلود،” هل تعلّم الدرس، وتعلّمناه نحن أيضا، ليبقى محفورا في ذاكرته وذاكرتنا، أين هو بيننا؟ هل نسي ماضيه، وماضينا، في كل شخص فينا جرحه الذي لا ينام.

وقبل الولوج للقصة التالية، تستوقفنا كلمات تاهت منا، وظّفها الكاتب بعاميتها، رغم وجود ما يقابلها في لغتنا الفصيحة، تأكيد آخر على قدرة الكاتب في السّفر عبر التاريخ وسرده بمنتهى الدّفة والكفاءة، وهذا بالطبع ينسحب على كل أعماله الإبداعية، عامة وهذه المجموعة خاصة، فاستخدامه للتراث بكل أنواعه، وألوانه من أمثال شعبية، وحكم، وأغاني تراثية، وأساطير غربية… كان له الأثر الكبير في تقريب قصصه للواقع، والثقافة بمنتهى الوضوح، من هذه المفردات العامية التي تدل وبصدق عن المرحلة التي كان فيها الكاتب تلميذا بالابتدائية برفقة زملائه “: الكاليش، الشاكمة أو الشكيمة، شحوط ياعمي شحوط، قشابية، كان يتعنكش في الكاليش سيدي” .

8.4. القصة الثامنة الوجهة الأخيرة:

يتساءل الكاتب من خلال هذا العنوان: عما سيترك ورائه؟ أو ما فائدة الحياة؟ فللعنوان رمزية كبيرة، تأويلها: القبر، فهو الوجهة الأخيرة لكل إنسان، عالم وجاهل، عاص ومؤمن، صغير أم كبير، غني أم فقير…، يواصل الكاتب سرد يوميات الكورونا، بذكر التواريخ، والسّاعات على وجه الدّقة، ويعيدنا إلى شخصية فطيمة أخت سليمان التي أصيبت بكورونا عقب وصولها إلى أرض الوطن من فرنسا، ووفاتها المفاجئة بسبب الوباء.

 يقول الكاتب في هذا الشأن وكأنه يُعزي نفسه، فالرّاحلة رحلت بدون رجعة، والدّور آت على كل واحد منّا طال الزمن أو قصر، بسبب الوباء أو من دونه، “تساق فطيمة وحيدة إلى المدفن…، ستغيب الدّموع التي تسيل من العيون، وستفقد كلمات العزاء معناها، في الجنبات، القبر سيكون مفتوحا في انتظار الجسد الذي سيزحف ببطء صوب تلك الفتحة التي لا تمل الابتلاع…، رحمك الله يا فطيمة وأسكنك فسيح جناته”[24] .

ولأنها الحياة لا تزال فينا، ها هو يفسّر لنا فلسفته في الحياة التي ترادف البحث عن السّعادة، فيقول: أحاول أن أصل إليها … كطفل يجري وراء كرته يكاد يلتقطها … غير أنها تهرب منه إلى شارع آخر[25].

ونحن إذ نسعى لفهم هذه النصوص إنما نعيد معايشة العمليات الذهنية لمؤلف النص، لأننا ننطلق من تعبير ثابت ومُكتمل[26] .

9.4. القصة التاسعة بسوكوديا:

هي قصة تذكرنا بقصص شارل ديكنز، في روايته البيت الكئيب، والتي يتحدّث فيها عن شخصية بطلها، السيّد كروك الذي يقوم بتكديس ملفات لن يقرأها أبدا، هي أيضا من العناوين المبهمة للعامة، وتعني الأدمة التي تأكل الأوراق القديمة … لماذا لم يكتبها باللغة العربية؟ لماذا يلجأ كاتبنا إلى إحداث صدمة فينا، أم هي خلاصة علمه وثقافته، تميز يحاول الاستئثار به، في كل سطوره، وعباراته، منذ قصصه الأولى، هو خط واضح، ودقيق وثابت، نحو التفرد والتميز…، ومن خلال قراءتنا الأولى للقصة تتضح لنا شخصية “دحمان” المدرس، الذي يوصف بقلة النّظام، وما يترتب عنه من فوضى على جميع الأصعدة، وأثر ذلك على نفسية الشّخص ذاته، وآراء من حوله، وكم هو صعب لقب أستاذ من جهة، ولقب مهمل أو غير متزن، من جهة ثانية، إذا الكاتب يطرح فكرة عميقة، فكرة لصيقة بعلم النفس، وعلم الاجتماع فكرة تحاول كشف حقيقة النّفس البشرية وصراعها الخالد لطلب الكمال، ونيل رضى الناس، فتأويل وجود مكتبة تحوي كتبا قديمة، أو جديدة مع عدم الاطلاع عليها، أدى إلى ظهور تلكم البسوكوديا، وهذا ينسحب على العديد من الأفكار التي نحملها ولا نطبقها، المال الذي نكتنزه ولا نعلم في أي وجهة نصرفه، المبادئ التي نعرفها وننصح بها وكم نجيد دور النّاصح، لكننا لا نطبق ما ننصح به، والكتب التي لا نقرأها هي المثال الذي أراد كاتبنا وضع خط أحمر عليه، ربما نفسر ذلك بأن العلم، وكثرة الاطلاع هو الحل الأفضل لحياة راقية، فلو اتخذ بطل هذه القصة هذا الأمر بعين الاعتبار لما وصلت حالته لهذا الدرك من: الجلبة والضجيج، له خمسة أرقام هاتفية، مكتبه متناثرة ،كتبه ودفاتره ….شعره مبعثر، ينقر دائما أصابعه على مكتبه دليل توتر وقلق، كثير الكلام ،متذمر دائما ،شديد النرفزة ،سريع تقلب المزاج، يجبر الجميع على حبه من تلاميذ وإداريين ومفتشين وزملاء وأهل حيه[27]، يعاني شتاتا كبيرا، وعدم تنظيم، فهو مثال للفوضى واللانظام.

إنها نفسية الكاتب وسيكولوجيته المبدعة التي ساقته إلى صنع هذا البطل الفوضوي مقابل ذلك الأستاذ الحقيقي، الأستاذ المثقف فعلا، لأن الحياة اليوم وخاصة في ظل الجائحة لا تعدو أن تكون رقعة شطرنج يلعبها اثنان لا يعرفان من قوانينها إلا أسماء البيادق.

10.4. القصة العاشرة بوكشاش:

هو الوزغة حيوان صغير من السّحالي، وهي حيوانات ليلية تنطلق لصيد الحشرات عند هبوط الظلام، لها أصابع تساعدها على الالتصاق على كل السطوح حتى الملساء جدا[28]،  أراد الكاتب من خلال هذا العنوان لفت الأنظار، وكان له ذلك، فالقارئ يبحث من خلال العنوان، ومن ورائه المضمون في سبب هذا الاختيار، وسبب ذكره بالعامية “بوكشاش”..

هل لهذا الكائن صلة من بعيد، أو من قريب بهذا الانتهازي “كمال حباب” الذي كان صديق الدراسة للكاتب، هذا الأخير الذي أراد أن يكون كاتبا مشهورا، لكنه فشل، أو أنه لم يصبر، أو أن أسلحته وأدواته لم تكتمل…

حدث وأن  انتهز فرصة وجود رواية في حقيبة دبلوماسية، داخل سيارة الأجرة التي يعمل عليها، تركت سهواً، وبدل أن يوصل الأمانة إلى أهلها، استغلها، لأن الحرب الأزلية مع النفس الأمارة بالسّوء حالت دون ذلك، وهكذا وصل إلى مبتغاه من مال وشهرة،  على حساب آلام و مجهودات غيره، وجاءه النّجاح بسرعة البرق، لكن بطعم مُر لم يدم، فالكاتب الحقيقي ظهر فجأة، وترك له اللعنة، وعقاب الضمير، وعتابا قويا يجلده  في اليوم ألف مرة: “خلت وجهي وقد تحول إلى قطعة جلد قاتمة، في يد اسكافي يدق بها المسامير، ومات الرجل ودفن معه السر”[29].

إذا هي قصة عن الإنسان الذي يتسلق جدران الفرص، ينتهزها انتهازا، ويستغلها استغلالا، ويقبض على فريسته دون رحمة، ومن دون سابق إنذار، حاملا آثار الجريمة على أقدامه، كما يحمل البوكشاش سمومه على أطرافه الأربعة، ليتحول كل شي إلى دنس، فيتعكر صفو حياته، وينقلب رأسا على عقب، هؤلاء هم انتهازيو هذا الزمن، وبطل القصة يشبههم جدا، بل هو واحد منهم، أشبه البوكشاش بلسانه الطويل الذي يتلقف من بعيد فريسته، والذي يقتات ليلا، وفي الظلام، فالنور بانكشافه وسطوعه لا يناسب المتسلقين.

هكذا أراد سليم بتقة لقصته هذه أن تعبر عن دواخله، لكنها وهي تفعل ذلك قد تغدر به، لأنه سيفاجأ يوما ما حين يرى مجموعته القصصية تحيا حياتها القصة على حد تعبير نيتشه، فتنساه تماما، وتسمو فوق الأفكار التي كان قد ضمنها إياها[30]، لأن قارئا آخر بسيكولوجيا مختلفة قد تبناه.

11.4.  القصة الحادية عشر: الرّصيف الحافي

هو سوق الجمعة وهي مرزاقة في سعيها الحثيث للعمل المضني لأجل مقابل زهيد، لا يمثل المجهود المبذول، باختصار هي تركض “وراء الخبزة، أرملة تبيع الأعشاب ويا له من مصدر رزق ضئيل، لمن تعيل عائلة بأكملها، وتسكن منزل كراء، وصفها الكاتب بدقة شديدة شكلا ومضمونا: “فكل المساحيق وأيام ما قبل الحجر كانت تظهر ها بشكل مختلف، أم هي البطالة وهمومها ؟”[31]، لقد ألغت أنوثتها منذ أن تطلقت، رغم أنها لا تزال في ريعان الشباب…،لم يبق  منها شيء…، لكن سيفرجها من لا يغفل ولا ينام “[32].

 عندما بلغنا في قراءتنا للرصيف الحافي، كان سؤالنا الأول ما دلالته التأويلية؟ لكن مضمون القصة كفى ووفى عن معنى العنوان ودلالته، فحين نفقد الزوج أو المعيل أو الشريك أو السند أو الأنيس أو الصديق أو النصف الثاني مهما كانت صفاته، ورغم ما قد تملكه المرأة بعد الشريك من المال والجمال، والألقاب والمراتب والصيت والمكانة، رغم كل شيء … ستظل المرأة بلا سند  بلا ظهر، بلا أساس من دون زوج يدعمها، أو بتعبير الجزائري (يسترها)، فكل الأساس رجل، وكل الأسماء سند، سند  على قسوة  الزمن، وعلى كيد المحن، وجود الرجل يعني الكثير، بل إن وجوده هو كل شي في حياة المرأة، وذلك نابع من ثقافة شعبية عربية بصفة عامة، وجزائرية بصفة خاصة.

ويتأكد من تحليلنا للنص ما بين التفسير والفهم من صراع واضح وصريح[33]، فهما طرفان يتجاذبان الخطاب، يمنحانه المرونة والقوة، ويمنحانه الوضوح والغموض، لأن القارئ لم يعد لعبة بيد الكاتب، بل صار مبدعا آخر له ما يقول.

12.4. القصة الأخيرة: يقولو لها الممرضة

العنوان مقدمة لأغنية من التراث الجزائري العصي عن النسيان، أغنية أداها رابح درياسة واستحضرها كاتبنا مع بقية ما استحضره من أساطير، وتراث شعبي، وحضاري، في كامل هذه المجموعة كما سبقت الإشارة إلى ذلك، في هذا الاستحضار يمكن تأويل  سيكولوجية مبدعنا التي تقدس وتعظم ما قام به هؤلاء الممرضون والأطباء إبان هذه الجائحة وما قبلها، كما عظم قبله رابح درياسة الممرضة، التي شغفته حبا وعشقا، لقد صوّر سليم بتقة وبكل التفاصيل أعمالهم الروتينية واليومية منذ بدء الدّوام  إلى نهايته، كما صوّر حالتهم النفسية، والمعاناة التي يحملونها معهم إلى بيوتهم. فلم يكن دورهم مجرد “الحقن والهباء الجوي وفحص الأكسجين [34]“، بل إن دورهم تعدّى ذلك إلى كونهم السند الإنساني لأولئك المرضى الذي ينتظرون موتهم الحتمي.

  1. خاتمة:

خلاصة القول: إن مجموعة كونفنيس لسليم بتقة حملت العديد من المعاني والقيم الإنسانية في شخوصها وأحداثها، عبرت بحق عن نفس تحترق لواقع مرير، فكانت سيكولوجيا الإبداع، مرتبطة أشد الارتباط بتجربة إنسانية واسعة، ظللتها الجائحة بظلالها، فكانت القراءة التأويلية للنصوص السردية عند كاتبنا، هي المنهج القويم الذي أضاء لنا هذه النصوص القابلة للانفجار الدلالي، والمكثفة بالمعاني والغايات المبطنة.

……………….. *****……………….

الهوامش:

[1] –  حامد أبو زيد، نصر (2006)، إشكالية القراءة وآليات التأويل، المركز الثقافي العربي، المغرب، لبنان، ط1، ص13.

[2] – التمارة، عبد الرحمن (2017) نقد النقد بين التصور المنهجي والإنجاز النصي، دار كنوز للمعرفة، ط1، ص 77.

[3] –  م ن/ ص 8.

[4] – بتقة، سليم (2020)، كونفنيس، دار امل للطباعة والنشر والتوزيع، المدينة الجديدة، تيزي وزو، دط، ص17.

[5] –  م ن/ ص 18.

[6] –  م ن/ص 18.

[7] – حرب، علي (1995) نقد النص، المركز الثقافي العــربي، الدار البيضاء، بيروت، ط2، ص21.

[8] – بتقة، كونفينيس، ص 27.

[9] –  م ن/صفحة 28.

[10] – الصباغ، رمضان (1998)، في نقد الشعر العربي المعاصر، دار الوفاء الإسكندرية، ط1، ص 338.

[11] – درويش، محمود (1997)، ذاكرة النسيان، منشورات دار الثقافة، ودار الناشر، رام الله، ص9.

[12] – م ن/ص11.

[13] –  بتقة، كونفينيس، ص 30.

[14] –  م ن/ص 33.

[15] –  م ن/ص 39.

[16] –  م ن/ص 34.

[17]  – م ن/ص 35.

[18] –  م ن/ص 43.

[19] –  م ن/ص 49.

[20] –  أطلس الحيوانات، (2007)، ترجمة فادية كهنوش، دار بيع للنش، سوريا، ط1، ص12.

[21] –  بتقة، كونفينيس، ص 55.

[22]  م ن/ص 59.

[23] –  م ن/ص ن.

[24]  – م ن/ص80.

[25]  – م ن/ص 81.

[26]  –  غادامير، هانز جورج (2006)، فلسفة التأويل الأصول، المبادئ، الاهداف، ترجمة محمد شوقي الزين، المركز الثقافي العربي، ط2، ص 65.

[27] –  بتقة، كونفينيس، ص 86.

[28] –  أطلس الحيوانات، ص 190، 191.

[29]  –  بتقة، كونفينيس، ص 102.

[30] –  نيتشه، فريديريك (1998)، إنسان مفرط في إنسانيته، ترجمة محمد الناجي،  إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، ص 208.

[31] –  بتقة، كونفينيس، ص108.

[32] – م ن/ص 111.

[33]  –  مصطفى، عادل (2007)، فهم الفهم، مدخل الى الهرمنيوطيقا، دار رؤية ، القاهرة، ط1، ص97.

[34] –  بتقة، كونفينيس، ص 118.

قائمة المراجع:

  1. أطلس الحيوانات (2007)، ترجمة فادية كهنوش، دار بيع للنش، سوريا، ط1.
  2. بتقة، سليم (2020)، كونفنيس، دار أمل للطباعة والنشر والتوزيع، المدينة الجديدة، تيزي وزو، دط.
  3. الصباغ، رمضان (1998)، في نقد الشعر العربي المعاصر، دار الوفاء الإسكندرية، ط1.
  4. مصطفى، عادل (2007)، فهم الفهم، مدخل إلى الهرمنيوطيقا، دار رؤية، القاهرة، ط1.
  5. التمارة، عبد الرحمن (2017) نقد النقد بين التصور المنهجي والإنجاز النصي، دار كنوز للمعرفة، ط1.
  6. نيتشه، فريديريك (1998)، إنسان مفرط في إنسانيته، ترجمة محمد الناجي، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء.
  7. درويش، محمود (1997)، ذاكرة النسيان، منشورات دار الثقافة، ودار الناشر، رام الله.
  8. حامد أبو زيد، نصر (2006)، إشكالية القراءة وآليات التأويل، المركز الثقافي العربي، المغرب، لبنان، ط1.
  9. غادامير، هانز جورج (2006)، فلسفة التأويل الأصول، المبادئ، الأهداف، ترجمة محمد شوقي الزين، المركز الثقافي العربي، ط2.
  10. حرب، علي (1995) نقد النص، المركز الثقافي العــربي، الدار البيضاء، بيروت، ط2.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here