التخطيط اللغوي لدى المنظمات الدولية: خلفياته ومقاصده

Vol. No. 3, Issue No.1&2 - Jan-Jun 2023, ISSN: 2582-9254

0
257

التخطيط اللغوي لدى المنظمات الدولية: خلفياته ومقاصده

بقلم: د. محمد رئيس ام  كي

باحث، متحصل على شهادة الدكتوراه من جامعة جواهر لال نهرو، نيو دلهي.

raeesmk@gmail.com

—————————

مقدمة البحث:

صارت الهيئات العابرة للخطوط الفاصلة بين المناطق اللغوية من أهم أركان النظام العالمي الحديث مع نهاية القطبية الثنائية، وتسارع وتيرة العولمة. وتحظى بالاهتمام لما لها من دور مهم في تحسين الحوكمة العالمية المتمثلة في معالجة القضايا العالمية. هي تطورت مع الحركة البشرية المتنامية وتطور السياسة الدولية وتقدم العلاقات بين الدول بشتى أنواعها ونطاق عملها المتنوع. أصبحت اللغات عنصرا مهماً في الاتصال والتواصل داخل منظوماتها. إن فكرة التخطيط اللغوي تنتمي إلى مجال اللسانيات الاجتماعية التي تهتم بدراسة علاقة اللغات بالمجتمعات والشعوب وبشكل منهجيّ. يعالج قضايا لغوية مختلفة تتعلق باللغات مثل إحياء اللغات، والتطهير اللغوي، والمعيار اللغوي، وتوليد المفردات، وصياغة المصطلحات، وتوحيدها، وفهم المعلومات بطريقة سهلة مع أنه يهتم بالمشاكل الاجتماعية والإنمائية التي ترتبط باستعمال اللغات في الأرض الواقع. إنه أيضا من أهم أركان التواصل السليم ونشر المعلومات داخل نظم المنظمات وخارجها. وسياسات التخطيط اللغوي التي تضطلع بها المنظمات والحكومات يجهز الشعوب على التكيف للتصدي للتحديات التي قد تواجه في مسيرتها ، خاصة في عصر العولمة حيث تتدفق المعلومات والأفكار والتعليمات متجاوزة الحدود. إن وجود الظواهر المستحدثة مثلها تستلزم وضع سياسات مدروسة للتخطيط اللغوي من قبل المنظمات الدولية والأجهزة التابعة لها متسقا مع أهميتها الثقافية والحضارية وامتدادها الجغرافي والتاريخي لتضمن تداول المصطلحات بشكل صحيح ونشر المعلومات المفيدة ووصولها إلى الجهات المستهدفة بلغتهم وبشكل نظامي. يستكشف البحث عن بداية ظهور المنظمات الدولية وحاجتها إلى وضع سياسات التخطيط اللغوي وبموازاة مع التخطيط الثقافي والاقتصادي.

الكلمات المفتاحية: التخطيط اللغوي،  تخطيط المصطلحات، التعددية اللغوية، المنظمات الدولية، المعلومات.

نشأة المنظمات الدولية وتطورها:

المنظمات الدولية، هي نتاج الأزمات والطوارئ في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للشعوب. وظهرت معظمها في القرون الأخيرة خاصة منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر[1] وعلى الرغم من اختلاف الأمم وفقاً لخبراتها في المفهوم والتطبيق. إن ظهور مصطلح “دولي” كان في القرن الثامن عشر صاغه عالم قانون إنجليزي في كتاب له ووردت الكلمة في مصطلح استخدمه هو (International jurisprudence) “الفقه القانوني الدولي”  ليحل محل ” قانون الأمم”[2]. يستخدم كلمة “دولي” غالبا إشارة إلى منظمة أو شركة أو لغة أو كيان يوجد في أكثر من دولة أو خارج الحدود الوطنية من أمثالها القانون الدولي الذي ينطبق على جميع الدول في إطار منظومة معينة. وكلمة المنظمة الدولية في السياسات الدولية ليست جديدة في استخدامها. وهي فكرة بطابع دولي ترجع جذورها إلى أواخر القرن التاسع عشر ولكنها لم تتلق قبولا واسعا عالميا إلا بعد الحرب العالمية الثانية. ويعدّ القاضي الاسكتلندي جيمس لوريمر (James Lorimer) أول من استخدم هذه الكلمة وذلك في هذا المصطلح سنة 1867م خلال خطاب ألقاه في الاكاديمية الملكية في إدنبرة   (The Royal Academy In Edinburgh) بعنوان “بشأن تطبيق مبدأ المساواة النسبية في المنظمة الدولي[3].

يوجد تعريفات مختلفة لكلمة المنظمة الدولية ولكن هناك صفات مشتركة فيها هي أن المنظة الدولية تضم مجموعة من الدول وتعمل من خلال اتفاقية دولية لتحقيق أهداف مشتركة. يعرف مصطلح المنظمة الدولية تقليديا حسب (The International Relations Dictionary)  كالتالي:

A formal arrangement transcending national boundaries that provides for the establishment of institutional machinery to facilitate cooperation among members in the security, economic, social, or related fields”. [4]

ويعرفها الموسوعة البريطانية أن المنظمة الدولية هي مؤسسة مع عضوية من ثلاث دول على الأقل مع خطة أنشطة في العديد من الدول، وأعضائها مرتبطة بإتفاق رسمي[5].

يرى مكورميك (McCormick)  إن المنظمة الدولية هي هيئة تعزز التعاون الطوعي والتنسيق بين أعضائها[6].

حسب مسرد مصطلحات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD Glossary): إن المنظمات الدولية هي كيانات تتكون بموجب اتفاقيات سياسية رسمية بين أعضائها وتتمتع بوضع المعاهدات الدولية، ويعترف وجودها القانون الموجود في الدول الأعضاء فيها ولم يتم التعامل معها بوضع الوحدات المؤسسية المقيمة في تلك الدول التي تقع فيها المنظمة[7].

تعتمد المنظمات الدولية على معاهدات متعددة الأطراف، على الأقل بين اثنين من الدول ذات سيادة وتهدف إلى تحقيق أغراض ومصالح مشتركة في مجالات تخصها. يرى ارتشر (Archer) أن كلمة “دولي” قد تغيرت من وضعها الأول خاصة في أواخر القرن الواحد والعشرين[8]. إنّ طابع الدولة والحكومة لكلمة “دولي” كان في تحد مستمر نظرا إلى توسع نطاق استخدامها إلى مجالات مختلفة. ولم تعد تستعمل مرادفا مع الهيئات الحكومية الدولية ليشير إلى علاقات دول مختلفة ذات سيادة. وبدأ الكلمة يشتمل أعمال شخصيات أو مجموعات في دولة مع شخصيات أو مجموعات في دول أخرى إضافة إلى علاقات رسمية بين الدول[9].

تاريخ نشوء المنظمات الدولية في شكلها الحالي يرجع إلى مؤتمر باريس للسلام 1919 (Versailles Peace Conference)[10]. كان مؤتمرا للحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى. اجتمعوا بعد نهاية الحرب في باريس لمناقشة ووضع شروط السلام للقوى المنهزمين. وشارك فيه مندوبون من أكثر من 32 دولة في العالم. ومن أهم قرارات مؤتمر باريس للسلام كانت إنشاء عصبة الأمم. أغلب المشاركين كانوا من الدول المنتصرين في الحرب ومجموعات ذات مصالح وطنية ومنظمات دولية غير حكومية. وطالبوا بتقدم الصحة العامة وأوضاع العمال وأسباب الأمن وقانون الحرب في العالم[11]. ومن أهم أجندة مندوبي الدول كان إنشاء منظمة عالمية تتعامل مع مشاكل السلام والأمن والتنمية ومسائل اقتصادية واجتماعية. وكانوا يملكون معهم خبرة تعاون وقت السلام لمدة قرن بين الدول الأوربية وخبرة تقارب مدة نصف قرن في الاتحادات الدولية العامة[12]. تحولت الكثير من المنظمات الدولية المبكرة إلى وكالات متخصصة وتقسيماتها الفرعية وأصبحت النماذج المؤسسية لعصبة الأمم، ومنظومة الأمم المتحدة.

أنشئت عصبة الأمم في سنة 1920 في مؤتمر باريس للسلام عند نهاية الحرب العالمية الأولى[13]. وكانت من نوعها الأولى، ومهمتها الرئيسة هي حفظ السلام العالمي[14]. شملت أهدافها الأساسية كما ورد في ميثاقها منع الحروب من خلال نظام الأمن الجماعي وتنظيم التسلح (Arms regulation) والحد منه إضافة إلى تسوية النزاعات العالمية عبر التفاوض والتحكيم[15]. وكانت لدى المنظمة 58 عضوا عند ذروة عملها في المدة من 1934 إلى 1935. ولم تكن المنظمة تملك قوات مسلحة خاصة بها ولكن اعتمدت بشكل كبير على القوى العالمية العظمى لتنفيذ قراراتها. أثبتت العصبة لاحقا عجزها عن منع اعتداءات دول المحور في ثلاثينيات القرن العشرين. وانسحبت ألمانيا من العصبة وتوالتها بانسحاب إيطاليا ويابان واسبانيا وغيرها.  إن بداية الحرب العالمية الثانية أثبتت فشل عصبة الأمم في تأدية مهمتها الرئيسة وهي منع اندلاع الحروب في المستقبل[16]. دامت عصبة الأمم لمدة 26 سنة واستبدلتها منظمة الأمم المتحدة في نهاية الحرب العالمية الثانية. نظرا إلى وجود لغات وثقافات متنوعة في العالم، لا تستطيع أن تعمل بلغة واحدة ولا توجد هناك لغة تناسب العالم بأكمله.  كانت العصبة تستخدم الإنجليزية والفرنسية بوصفهما لغتين رسميتين لتيسير أعمالها[17].

مفهوم التخطيط اللغوي وخلفياته:

تعتبر اللغات من العناصر ذات أهمية في إطار المنظمات الدولية لدورها في تلقي المعلومات ونشرها داخل المنظمة وخارجها. تؤدّي اللغات البشرية أدوارا مهمة أيضا في الاتصال بين الإنسان والآلة (man-machine communication) وكذلك الاتصال بين آلة وأخرى (machine communication – machine)[18]. ليست اللغات مجرد وسيلة لنقل المعلومات والتواصل، فهناك علاقة مهمة بين اللغة والوعي، ولها أبعاد ثقافية، وهي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بهوية الأفراد ومن خلالها المجتمعات.

ينتمي التخطيط اللغوي إلى اللسانيات التطبيقية أساسه تقوم على احتواء المشكلات اللغوية. مجالات تطبيق التخطيط اللغوي متعددة ومتنوعة وتتجلى التطبيقات العملية له من خلال التركيز على عناصر مثل التطهير اللغوي، وإعادة بعث اللغات الميتة أو المهجورة، والإصلاح اللغوي، والمعيار اللغوي، وتحديث المعجم، الاستبدال اللساني[19].

يرتبط وصف التخطيط اللغوي من منظور تاريخي بأنشطة توحيد اللغة وتنقيتها في الأكاديمية الفرنسية (Académie française) التي تأسست عام  [20]1635. يقول د. مسعي أحمد عمار استاذ جامعة الجزائر-2 عن بداية الاهتمام بشكل أوسع في هذا المجال في مقال له “لقد بدأ الاهتمام بالتخطيط اللغوي في مطلع خمسينيات القرن المنصرم ، وعرف بهذا الملصطلح على يد العالم “اينار أوجن” عند دراسته للمشاكل اللغوية للنرويج حيث تم التركيز على دور اللغة في بناء كيان الدول المستقلة حديثا”[21]. ثم توالت الدراسات من بعده بسرعة في مختلف دول العالم حيث تحدّدت مفاهيمه ومجالاته وأساليبه وأهدافه.

يعرف الدكتور محمود السيد نائب رئيس مجمع اللغة العربية في دمشق مفهوم التخطيط اللغوي: “التخطيط اللغوي بأنه عمل منهجي ينظم مجموعة من الجهود المقصودة المصممة بصورة منسقة لإحداث تغيير في النظام اللغوي أو الاستعمال اللغوي، ويقصد إلى حل مشكلة لغوية قائمة باستقصاء البدائل لحلها، ويهدف إلى تنمية المجتمع بلغته تجسيدا للتعايش وتحقيقا لتنمية فكرية واجتماعية واقتصادية من خلال توفير أمن لغوي للغات المتعايشة مع قضايا الوطن[22]. تنامى الاهتمام بهذا المبحث في العقود الأخيرة إلى جانب تطور العلاقات بين شعوب العالم.

إن نطاق عمل المنظمات الدولية تعبر الحدود القومية والإقليمية وهي تعمل في مختلف أنحاء العالم بصرف النظر عن موقعها الجغرافي أو اللغات التي تستخدم فيها. يرى همفري ر. تونكين (Humphrey R. Tonkin) أستاذ اللغة الإنجليزية ، والرئيس الرابع لجامعة هارتفورد أنه تستتبع عمليات المنظمات الدولية الحكومية رسم سياسات لغوية رسمية متسقة خاصة من حيث استخدام اللغات في نطاق أعمالها[23]. ويشير أيضا إلى أن هذه السياسات الرسمية قد تعكس مدى تأثير الدول الأعضاء في منظمة معينة. وقوتها فيها تؤثر على القرارات التي تخص بالسياسات اللغوية الخاصة بالمنظمة كما يظهر في اللغات الرسمية للأمم المتحدة والاتحاد الأوربي[24]. وهناك أيضا عوامل رئيسة أخرى تعتبر عند تحديد اللغات الرسمية للمنظمات مثل مواردها المالية، وممارسات الموظفين، وطرق تقديم الخدمات[25].

تحظى السياسات اللغوية والتخطيط اللغوي بأهمية أيضا بسبب تأثير اللغات في تشكيل المعرفة وبنية التفكير لدى الشعوب، وهي عمليات تمهد الطريق لنشر المعلومات وتعزيز مدى استيعابيتها لدى الناس بشكل منهجي في اطار أهداف المنظمات التي ترغب في إنجازها من خلال برامج متنوعة. لا يمكن لها تحقيق أهدافها ولا يتم إدارتها داخليا بطريقة نظامية في غياب السياسات اللغوية. وتحتاج تلك المنظمات إلى لغات متنوعة في اتصالاتها الداخلية والخارجية وفي تنفيذ العمليات التي ترغب فيها المنظمة وتشمل نقل المعلومات الرسمية، أو غير الرسمية من جهة داخلية إلى جهة داخلية أو خارجية.

تواجه المنظمات الدولية غالبا القرارات المتعلقة بالسياسات اللغوية من ناحيتين، هما في رسم أنماط الاتصال داخل المنظمة أو في إدارة العلاقات مع المعنيين في الخارج[26]. حجم أهمية  التخطيط اللغوي في المنظمات تختلف بناء على حجم المنظمة نفسها ونطاق عملها. عندما تقتصر دائرة أعمال المنظمة داخل مجموعة أو دولة يتواصل أفرادها بعضهم البعض بلغة واحدة ولا تحتاج المنظمة إلا إلى لغة واحدة. وعندما تكون دائرة عمل المنظمة تعبر الحدود الإقليمية والدولية وتعمل في بلدان مختلفة عبر العالم تحتاج إلى لغات مختلفة وتنفيذ التخطيط اللغوي المتعلقة بها لتتواصل مع المعنيين بها ولحماية اللغات المهددة بالاندثار.

تخطيط المصطلحات:

يرى جوان سي ساغر (Juan C. Sager)  أن علم المصطلحات هو الدراسة والجوانب المتعلقة بجمع المصطلحات ووصفها ومعالجتها وإنتاجها فيما تخص بالمجالات المتخصصة لاستخدام لغة واحدة أو أكثر[27]. إن تخطيط المصطلحات (Terminology planning) هو جزء مهم من التخطيط اللغوي. نشأ على مدى العقود الماضية على الأصعدة الوطني والإقليمي والدولي[28]. هو عملية تقوم بتنفيذها العديد من المؤسسات أو المنظمات تلبيةً لمتطلبات الاتصال اللازمة وإدارة البيانات والمعلومات في نطاق أعمالها. يرتبط تخطيط المصطلحات غالبا بأنشطة توحيد المصطلحات (terminology standardization of) وتوليدها، ويحدث على مستويات مختلفة من المحلية إلى الدولية[29]. تخطيط المصطلحات ، بشكل عام ، هو صنع القرار الذي تقوم به الهيئات المخولة لتنفيذ أغراضها وأهداف المجالات المتخصصة بها[30]. وعلى سبيل المثال تخطيط المصطلحات العسكرية، أنه تلبي احتياجات الأفراد العسكريين في التعامل مع حياتهم العسكرية[31].

مقاصد التخطيط اللغوي لدى المنظمات الدولية:

تنبع الحاجة إلى التخطيط اللغوي لدى المنظمات الدولية من عدة نواح. قد يبدو مبدئيًا أن فكرة التخطيط اللغوي غير مستصوب، وغير مجدٍ، وفقا للمنطق العام، حيث صارت اللغات والتواصل من خلالها من الأمور المعتادة للغاية في المجتمع أو في مجالات أخرى. يشير الخبير اللغوي كارل إيرلاند جاديلي (Karl Erland Gadelii) إلى أهمية التخطيط اللغوي حيث يذكر أنه يستحيل تواصل الناس مع بعضهم كما كانو عليه. المجتمع آخذ في التطور، ويصبح من الضروري أن تتكيف اللغات المتداولة في المجتمع مع حقائق الواقع الجديد[32]. يختلف التخطيط اللغوي من منطقة إلى أخرى؛ لأنها متباينة من حيث الوضع الاجتماعي-اللغوي[33]. يقدم أنشطة مرتبة ومدروسة لإيجاد الحلول لما يفرض الواقع من التحديات والمشاكل اللغوية التي قد تعوق التواصل الفعال بين الحكومات أو المنظات مع الأطراف أو المجتمعات المعنية بها.

أصبحت المعلومات أحد المكونات الرئيسة بالنسبة إلى الهيئات الرسمية والكيانات الأخرى التي تعمل في مختلف المجالات في العصر الحديث. تقوم المعلومات الصادرة منها والواردة إليها دورا حاسما في أعمالها اليومية. تحتل إمكانات الوصول إليها مكانا محوريا في حياة الإنسان وانعدام طرق الوصول إليها قد يؤدي إلى أن يُحرم الناس من حقوقهم. ومن المقاصد المهمة للتخطيط اللغوي تجهيز تكيف اللغات المستخدمة في المجتمع مع حقائق الواقع الجديد[34]. تقدمت طرق نشر المعلومات واستلامها مع تقدم التقنية والعلم. وأصبحت ترويجها واستقبالها سهلا بعد اختراع الأجهزة المتطورة التى تخدم ترويج المعلومات واستقبالها ما وراء الحدود الإقليمية والدولية وحيث ينبغي وجود التخطيط اللغوي لضمان نقل المعلومات الصحيحة وترويجها بشكل يفهمها المعنيين بها. تذكر إدارة التواصل العالمي الخاص بالأمم المتحدة أنها تضطلع بمهمة إسماع صوت الأمم المتحدة عبر منصات متعددة، الرقمية منها والتقليدية، لحشد الدعم لأهداف المنظمة ولعملها من خلال عملياتها ومكاتبها العالمية في 60 بلداً، وتنقل المعلومات الموثوقة والموضوعية إلى الجمهور[35]. العمليات مثل نشر الأنباء، وبناء الشراكات، ومشاطرة المعرفة، وإشراك الجمهور تستوجب وضع المصطلحات الصحيحة والتسميات المعترفة بها والموحدة والتي لا تتحقق إلا من خلال التخطيط اللغوي.

حسب ستيفن موريس وهيون وسونغ شين (Stephen Morris and Hyun Song Shin) بالنسبة أن انعدام اليقين في الأمور لدى صناع القرارات يؤثر سلبا على القرار الذي يتم اتخاذه وعندما تكون لديه المعلومات الكافية في المجال المعني وكلما تزداد كمية المعلومات المختصة تزداد الفوائد منها عند صنع القرارات [36]. تهدف المنظمات الدولية أيضا من خلاله إلى تبسيط إدارتها حيث تستخدم تدابير التخطيط اللغوي في صياغة التعاميم، والإرشادات،  وسياسات المنظمة، والمنشورات الخاصة بها.

              منظمة الصحة العالمية على سبيل المثال تقول هي” ترصد الأوضاع والاتجاهات الصحية الإقليمية والعالمية، وتجمع المعلومات عن جميع الأمراض والنظم الصحية. ويُعد توافر معلومات وأدلة صحية يعول عليها ومحدثة أمراً ضرورياً لعمليات صنع القرار، وتخصيص الموارد، والرصد والتقييم الخاصة بالصحة العامة. والمنظمة هي الجهة العالمية المحافظة على المعلومات المتعلقة بالصحة، وتعمل مع البلدان على تحسين توليد الموارد المعرفية عالية الجودة وتقاسمها واستخدامها”[37] حيث قامت المنظمة بصياغة العديد من المصطلحات الخاصة بها وتعريفها وشرحها في مطبوعات مختلفة لكي تكون المعلومات المتعلقة بها في متناول فهم الجميع  ومنها مسرد مصطلحات الإطار التشغيلي للرعاية الصحية الأولية[38]. وفي ما يلي بضعة أمثلة منقولة منه:

متسلسلة الرعاية[39] Continuum of care طيف الرعاية الصحية الشخصية والسكانية  اللازمة على امتداد مختلف مراحل  الاعتلال، أو الإصابة، أو الحدث طيلة العمر، بما في ذلك تعزيز الصحة، والوقاية من الأمراض، والتشخيص، والمعالجة، والتأهيل، . والرعاية الملطفة.
الدراية الصحية[40] Health literacy إحراز مستوى معين من المعارف، والمهارات الشخصية، والثقة بما يتيح اتخاذ التدابير اللازمة لتحسين الصحة الشخصية والمجتمعية عن طريق تغيير أنماط الحياة وظروف المعيشة الشخصية.
البرامج الرأسية[41] Vertical programmes برامج صحية تركز على الناس والمجموعات السكانية ذات الاعتلالات الصحية المخصوصة (المنفردة).
ضبط البوابات[42] Gatekeeping العمليات التي تخول فيها الرعاية الأولية الوصول إلى الرعاية المتخصصة والرعاية الشفوية، والاختبارات التشخيصية، وذلك مثلا من خلال الإحالة المطلوبة.

في جميع المصطلحات المتخصصة أعلاه قامت المنظمة بصياغتها وشرحها بشكل دقيق تحمل مفادها بطريقة مفهومة للجميع.

التخطيط اللغوي للتعددية اللغوية:

التعددية اللغوية هي جزء من التخطيط اللغوي وهي طريقة من طرق الحفاظ على التنوع اللغوي والثقافي عبر تنويع اللغات المستخدمة  حسبما تقتضيه الأوضاع الثقافية والاجتماعية. إن وجود أكثر من لغة واحدة على أراضي دولة معينة أو داخل نطاق عمل المنظمات أوالشركات متعددة الجنسيات يستوجب تطوير خطط لمعالجة التعدد اللغوي وموازنة أعمالها داخل جميع المجتمعات الموجودة في نطاق عملها[43]. ونحو إنجاز التعددية اللغوية تضع خططا تدعم هذا المفهوم مثل أقسام الترجمة ومعاهد تدريب اللغات وقاعدة بيانات مصطلحات مركزية مثل (UNTERM)[44] وغيرها من الإجراءات ضمن هذه الخطط. ومن أبرز أهداف وضع سياسات التخطيط اللغوي والتعددية اللغوية في المنظمات الدولية استيعاب الناس من جميع الثقافات والبلدان في العالم حيث تتمكن المنظمات من التواصل معهم بصفة فعالة .تذكر منظمة الأمم المتحدة عن التعددية اللغوية أنها “يكتسي تعدد اللغات، بوصفه عنصرا أساسيا في الاتصال المتناسق بين الشعوب أهمية خاصة جدا بالنسبة إلى منظمة الأمم المتحدة. وهو إذ يشجع على التسامح، فإنه يكفل كذلك مشاركة فعالة ومتزايدة للجميع في ‏سير عمل المنظمة، وكذلك فعالية أكبر ونتائج أفضل ومشاركة أكبر. وينبغي الحفاظ على تعدد اللغات ‏وتشجيعه بإجراءات مختلفة داخل منظومة الأمم المتحدة، بروح الإشراك والاتصال”[45].

ترى كارين ماكوليف (Karen McAuliffe) أستاذة كلية الحقوق في برمنغهام أن تقدم العولمة بخطى سريعة في النصف الأخير من القرن العشرين أدى إلى زيادة كبيرة في إنتاج المعاهدات والاتفاقيات الدولية ، وإنشاء محاكم دولية ، فضلاً عن الاعتماد على التحكيم الدولي. التعددية اللغوية هي أساس الكثير من هذه الأعمال القانونية. العديد من المنظمات الدولية لديها لغات رسمية متعددة ، وتؤدي وظائفها من خلال أجهزة قانونية وسياسية متعددة اللغات[46].ومن الضروري أن يكون تنفيذ التعددية اللغوية داخل حكومة أو منظمة معينة متسقا مع أهمية اللغات الثقافية والحضارية وامتدادها الجغرافي والتاريخي.

أصبحت المنظمات الدولية ركنا أساسيا من أركان النظام الدولي الحديث وإنجاز اهدافها غالبا رهين بإيجاد خطط لغوية لمواجهة ظاهرة التنوع اللغوي. وهي تسعى إلى بلورة خطط مدروسة ومتساوقة في إغناء آليات تنفيذ التخطيط اللغوي بجملة من الإجراءات الداعمة لها ويمثل تلك الجهود المخططة للتأثير على سلوك الآخرين بما يتعلق بالتحصيل االمعرفي. لوحظ أنها تولي الأهمية نفسها لسياسات التخطيط اللغوي ونظمه مثل اهتمامها للقضايا الأخرى معتبرا التخطيط اللغوي عنصرا ضروريا لإحداث تغيير في ضوء رؤية مستقبلية .

المصادر والمراجع:

  • إدارة شؤون الجمعية العامة والمؤتمرات، ” International Year Of Languages Facilitating Communication Among Nations “، الأمم المتحدة ، نيويورك، 2008.
  • إدزارد، لوتز. ” Language as a medium of legal norms: Implications of the use of Arabic as a language in the United Nations system”، دنكر وهامبلو، برلين، 1998.
  • آرتشر ، سي.International organizations” “، لندن: روتليدج، 2001.
  • بنثام ج ، “An Introduction to the Principles of Morals and Legislation” ، مطبعة كلارندون ، المملكة المتحدة، 1876.
  • بوب، رينالدا. “Routledge History of International Organizations: From 1815 to the Present Day”، روتليدج. المملكة المتحدة، 2009.
  • بيتمان بـ. بوتر. “Origin of the Term International Organization”، المجلة الأمريكية للقانون الدولي ، المجلد: 39، رقم.4 (اكتوبر 1945)، الجمعية الأمريكية للقانون الدولي ، الولايات المتحدة ، 1945.
  • جاديلي ، ك.إي. ” Language planning: theory and practice; evaluation of language planning cases worldwide” ، اليونسكو، باريس، 1999.
  • دوشين، الكسندر. ” Ideologies across Nations: The Construction of Linguistic Minorities at the United Nations (Language, Power and Social Processes)”، موتون دي جروتر، نيويورك، 2008.
  • ستيفنسون ، ديفيد. “1914 – 1918: The History of the First World War “، دار بنجوين للنشر، المملكة المتحدة، 2004.
  • سيرفان ، فرناندو. ” From multilingual documents to multilingual websites: challenges for international organizations with a global mandate “، منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)، الأمم المتحدة، روما، 2011.
  • ماكورميك، جون. “The European Union: Politics and Policies”، مطبعة وستفيو، بولدر كولورادو، 1999.
  • متشومبو ، كينغو. ” Information Dissemination for Development: An Impact Stud”، منشورات سيج ، الولايات المتحدة، 2003.
  • موريس وستيفن وهيون سونغ شين. ” Social Value of Public Information”. المجلة الاقتصادية الأمريكية ، 92، ديسمبر 2002.
  • موريس، جاك.، أ. موريس، ومايكل. ” Languages in a globalising world”،  مطبعة جامعة كامبرديج، كامبرديج، 2005.

……………….. ***** ……………….

الهوامش:

[1] الموسوعة البريطانية، “International Organization”، الرابط: https://www.britannica.com/topic/international-organization، تمت الزيارة في 15 مايو 2022م.

[2] بنثام ج ، “An Introduction to the Principles of Morals and Legislation” ، مطبعة كلارندون ، المملكة المتحدة، 1876، ص. 326-328.

[3] بيتمان بـ. بوتر، “Origin of the Term International Organization”، المجلة الأمريكية للقانون الدولي ، المجلد: 39، رقم.4 (اكتوبر 1945)، الجمعية الأمريكية للقانون الدولي ، الولايات المتحدة ، 1945.

[4] جاك سي بلانو وروي أولتون. قاموس العلاقات الدولية ، الطبعة الثانية، كالامازو ، ميشيغان: إصدارات جديدة، 1979، ص.288.

[5] الموسوعة البريطانية، المنظمة الدولية، الرابط: https://www.britannica.com/topic/international-organization، تمت الزيارة في 19 مايو 2022م.

[6] ماكورميك ج. “The European Union: Politics and Policies”، مطبعة وستفيو: بولدر كولورادو، 1999،ص.10.

[7] مسرد OECD للمصطلحات الإحصائية – تعريف المنظمات الدولية، الرابط: https://stats.oecd.org/glossary/detail.asp؟، تمت الزيارة في 20 مايو 2022م

[8]   آرتشر ، سي.International organizations” “، لندن: روتليدج، 2001، ص.1.

[9] المرجع السابق، ص.15.

[10] المرجع السابق، ص.16.

[11] المرجع السابق.

[12] المرجع السابق.

[13] الموسوعة البريطانية، “League of Nations”، الرابط: https://www.britannica.com/topic/League-of-Nations.، تمت الزيارة في 23 مايو 2022م..

[14] ميثاق عصبة الأمم، الأمم المتحدة جنيف. الرابط:

https://www.ungeneva.org/en/covenant-lon

[15] الملحق: ميثاق عصبة الأمم الذي يُظهر مسودة التقرير الأولي والميثاق كما تم اعتماده أخيرًا في الجلسة العامة. (1919). وقائع أكاديمية العلوم السياسية في مدينة نيويورك ، 8 (3) ، 127- 154 الرابط: http://www.jstor.org/stable/11718.

[16] موسوعة وورلد مارك للأمم، الرابط:

https://www.encyclopedia.com/history/encyclopedias-almanacs-transcripts-and-maps/comparison-league-nations. تمت الزيارة في 23 مايو 2022م.

[17] تونكين ، همفري. ” “Language Policy and Language Practice at the International Level: Toward a Research Agenda.. (ورقة مقدمة في المؤتمر السنوي لجمعية اللغويات الدولية ، جامعة ولاية نيويورك، 12 نيسان 2008). ص. 3.

[18] وثيقة البرنامج والاجتماع، “Guidelines for terminology policies: formulating and implementing terminology policy in language communities”، اليونسكو، باريس، 2005، ص. 30.

[19] د.مسعي أحمد عمار. “دورالتخطيط اللغوي في بناءاللغات الوطنية”، مجلة الحكمة للدراسات الأدبية واللغوية، المجلد6، العدد 15، (سبتمبر 2018) ص.290-292.

[20] داركوينز ، جيه ، ونيلدي ، بي إتش. “Multilingualism and language planning”، موسوعة أنظمة دعم الحياة، اليونسكو. ناشرو EOLSS. 2005. ص.2.

[21] د.مسعي أحمد عمار. “دورالتخطيط اللغوي في بناءاللغات الوطنية”، مجلة الحكمة للدراسات الأدبية واللغوية، المجلد6، العدد 15، (سبتمبر 2018) ص.289.

[22]سوسن صيداوي. “أهمية التخطيط اللغوي ودوره في حماية اللغة العربية”، موقع مجمع اللغة العربية على الشبكة العالمية، الرابط: http://www.m-a-arabia.com/vb/showthread.php?t=28706، تاريخ التصفح:  13 مايو 2022.

[23] تونكين ، همفري. ” “Language Policy and Language Practice at the International Level: Toward a Research Agenda.. (ورقة مقدمة في المؤتمر السنوي لجمعية اللغويات الدولية ، جامعة ولاية نيويورك، 12 ابريل 2008). ص. 4.

[24] المرجع السابق.

[25] المرجع السابق.

[26] المرجع السابق، ص.3.

[27] ساغر، جي سي. ” A Practical Course in Terminology Processing”. هولندا: شركة جون بنجامين للنشر، هولندا، 1990.

[28] وثيقة البرنامج والاجتماع، “Guidelines for terminology policies: formulating and implementing terminology policy in language communities”، اليونسكو، باريس، 2005، ص.4.

[29] مركز الإعلام الدولي لشؤون المصطلحات، ” Terminology Planning”، الرابط: http://www.infoterm.info/standardization/terminology_planning.php.، تاريخ التصفح: 14 مايو 2022م.

[30] الشهاب ، محمد. “The Impact of Language Planning, Terminology Planning, and Arabicization, on Military Terminology Planning and Translation”. مجلة البحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية ، 3 ، ص 2.

[31] المرجع السابق، ص.3.

[32] جاديلي ، ك.إي. ” Language planning: theory and practice; evaluation of language planning cases worldwide” ، اليونسكو، باريس، 1999، ص. 5.

[33]  المرجع السابق، ص.8.

[34] المرجع السابق، ص.5.

[35] موقع إدارة التواصل العالمي، الأمم المتحدة، الرابط: https://www.un.org/ar/department-global-communications، تمت الزيارة في 19 مايو 2022م.

[36] موريس وستيفن وهيون سونغ شين. ” Social Value of Public Information”. المجلة الاقتصادية الأمريكية ، 92، ديسمبر 2002، ص. 1521-1534.

[37] موقع منظمة الصحة العالمية، الرابط: https://www.who.int/ar/about/what-we-do، تمت الزيارة في 19 مايو 2022م.

[38] موقع منظمة الصحة العالمية، “الإطار التشغيلي للرعاية الصحية الأولية: تحويل الرؤية إلى عمل”، الرابط: https://www.who.int/docs/default-source/documents/operational-framework-for-primary-health-care-ar.pdf، تمت الزيارة في 20 مايو 2022م.

[39] المرجع السابق.

[40]  المرجع السابق.

[41] المرجع السابق.

[42]  المرجع السابق.

[43] داركوينز ، جيه ، ونيلدي ، بي إتش. “Multilingualism and language planning”، موسوعة أنظمة دعم الحياة، اليونسكو. ناشرو EOLSS، 2005،. ص.2.

[44] قاعدة بيانات المصطلحات المتعددة اللغات للأمم المتحدة، الرابط:

 https://unterm.un.org/unterm/portal/welcome

[45] الأمم المتحدة، اللغات الرسمية، الرابط: https://www.un.org/ar/our-work/official-languages، تاريخ التصفح:  24 مايو 2022.

[46]  كارين مكوليف. ” Multilingualism in international institutions: The Court of Justice of the European Union “، جامعة برمنغهام، الرابط: https://www.birmingham.ac.uk/research/perspective/multilingualism-in-international-institutions.aspx، تمت الزيارة في 24 مايو 2022م.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here