وضع النقط على .. في … نقط
دراسة نقدية للناقد يوسف عبود جويعد
قاص وناقد عراقي
—————————
تقدم لنا القاصة وفاء عبد الرزاق في مجموعتها القصصية (نقط) عالما سرديا خلقته لها لتخرج هذا الجنس من سماته وصفاته وشكله ومضمونه وإطاره الذي اعتدنا عليه إلى حيث الابتكار والإبداع والتجديد والتجريب فنكتشف الرؤيا الجديدة لعالم فن صناعة القصة منذ التوطئة التي أشارت إليها القاصة كمدخل يساعد المتلقي لسبر أغوار النصوص السردية:
(السم والرصاص..)
اسمان يحملان الماضي والحاضر، وحتى المستقبل، هل يمكنني قتل من فتح الباب خلسة وأشعل نار الأوراق؟ هل حين ألمس النقط لأضعها على الحروف أقرأ رسالة بعث بين صمت الأقنعة)؟
وهكذا تتضح لنا ملامح الاشتغال السردي، ومدى علاقة وارتباط النقط في المبنى السردي وأهميته، فأحياناً تكون تلك النقط علامة من علامات التحليل للنص السردي التي استطاعت أن توظف فيه هذه النقاط في مسار الأحداث ليساهم في تشكيل النص ويكون جزء مهم منه، فنجد تلك النقط إجابة لمحتوى النص السردي في وضع النقاط على الحروف كحالة من حالات الانفراج لواقع الحدث المنقول الذي يمثل إدانة واضحة لانعدامه من القيم الانسانية، وفي رؤية ثانية نجد النقط تمثل سر جمال الحياة، وخلوها من النقط يجعلها قاحلة بائسة قاسية، فالرصاصة بدون نقاط، والمسدس بدون نقاط، وفي رؤية اخرى نجد النقطة علامة من العلامات النقص (ناقصة) وهذا يشير إلى رؤية المجتمع ونظرته للمرأة كونها ناقصة عقل ودين، وهو من الطبيعي مفهوم خاطئ ومتخلف وهكذا فإن النقط دخل المبنى السردي كجزء يشير إلى دلالات رمزية مهمة تساهم في شد الأحداث وتقويمها وتوضيحها وتطورت رؤيتها نحو وضوح جمال النص، ثم انتقلت القاصة إلى معالجة ثانية وظفت ضمن السياق الفني للمبنى السردي، وهو أنها جعلت من الأحداث والشخوص لتلك النصوص عالما يخصها وحدها وعليها أن تقدمه كيفما شاء لها ذلك، لذا فأنها دخلت غرفة يلفّها الصمت والسكون لا تسمع فيها سوى أنفاس أبطالها، ولا ترى سواهم، واختارت لكل نص كرسي، وحرف، ونقط وهي عملية سردية مضافة لواقع الحدث المستقطع من أوجاع الحياة وأنها جعلت هذا الكرسي بثلاث أرجل، كرسي أعرج وبهذا تشير للحالات التي اختارتها والتي تشبه الكرسي كونها عرجاء(أكتب كما أشتهي عرض الوجوه… لذا جمعتهم على كرسي بثلاث أرجل … أنه الزمن الأعرج .. طاولة كبيرة تتوسط غرفة جلوس تسع اثني عشر شخصاً، هي مثلهم بثلاثة، المكان غارق بالصمت، وحدي أستمع إليهم، وأجنّد مخيلتي لاستخراج الأحاديث من صدورهم.. هم جلسوا كل على طريقته..) ولم تكتفي القاصة بالأحداث المستقطعة والمنتقاة من قاع الحياة، وإنما استطاعت أن تضعهم على طاولة السرد، وتجلسهم على الكرسي الأعرج لتستخرج من كل واحد حكايته حسب ما يراه هو، ومن ثم حسب ما تراه القاصة كانعكاس نفسي مر وحزين، ثم أدخلت النقط والحروف بنقط وبدون نقط في فضاء السرد كثيمة مهمة ومكملة وهي جزء ملتصق بالمسار السردي، وجعلت جميع عناوين النصوص بدون نقاط، وهي تشير بذلك الى عدم فائدة النقط في حياة لا نملك فيها الإرادة في التغيير وفي كل كرسي أعرج تضع فيه القاصة نصها السردي لأحداث سردية عرجاء، مستخدمة فيه حرف (الراء) في اشارة منها الى تلك الحياة القاحلة القاسية المؤلمة، التي تخلو من نقطة ضوء، نقطة أمل، نقطة عبر نافذة تطل فيها إلى متنفس الحياة مستخدمة لغة تعبيرية قريبة من اللغة النثرية، وعميقة المعاني وتداعيات حرة تطلقها بطلة القصة وهي تقوم بمهمة سرد الحدث في قصة (الراء والمسدس…) تقدم لنا حرف الراء كمسار لمبنى السرد، للحياة التي هي بلا نقاط تشبه حرف الراء، زوجة تعيش مع رجل بخيل إلى الحد الذي فيه لا يستحم، خوفاً من الصابونة أن تصل إلى النصف، ووجبات الطعام الفقيرة باذنجان شوي، وأحياناً خضار وخبز، وعندما تدخل جارتهم بالتفاح يغتاظ كونه يضطر أن يملأ الماعون بفاكهة ليعيده، ولها خمسة أطفال، وهي تصفه بالنتن القذر وله خواء الثور وترقع قمصان أبناءها(غموسنا اليومي كالعادة، صنف واحد تنقصه كل مقومات الطهو.. جود الثلاجة بلا جود كصاحبه، اكتفينا بوجبة باذنجان مشوي مراراً، ومراراً بخضار وخبز.. أهبل، وخبيث، اجتمعا في بخيل وسخ..) وهكذا فأن شخصية الزوج البخيل القذر، كانت سبب في تدهور حياة هذه المرأة التي تحملت وزر سلوكه الأعرج.
ونلاحظ أن القاصة عند نهاية النص تضع لمسات سردية ساحرة تؤلف فيها الحالة وتعكس تداعياتها (روضتك لتصير صاحبي الأوحد وتبقى وحدك.. جرب يوماً أن تبقى وحدك.. وحدك بلا نقطة.. ربما ستدرك أن الراء بلا نقطة ) وعلى الكرسي الثاني الأعرج، تقدم لنا القاصة نصاً آخر أعرج، وتستخدم فيه حرف (الغين) ذات النقطة الواحدة، الذي يخرج كأنه غصة في البلعوم او غرغرة توجع الصدر، في طرح جريء وغريب لم يشهد له العالم السردي مثيل، اقتنصت القاصة حالة تحمل الغرائبية في الطرح، والجرأة المتناهية في قصة ( حرّ طاوع حرّه ) فهي تضع أمامنا ومن خلال الكرسي الأعرج الثاني حكاية عرجاء، يكون حرف (الغين) فيها سيد النص، والقاسم المشترك لمسيرة الحركة السردية حيث نعيش حكاية صبي منذ طفولته، ووفاة أبيه، وبلوغه سن الثالثة عشر من عمره وزواج أمه مرة ثانية، إلا أن ملامح زوج أمه تتسم بالهمجية والقسوة والجبروت والطغيان، وهو يعامل أمه بكل عنف ويطوي الحزام ويضربها حتى تنزف دماً، حتى باتت لا تطيقه على فراش الزوجية، إلا أنه كان يأخذها عنوة، والصبي يرصد حياة أمه القاسية والضرب المبرح الذي تتعرض له ولم ينتهي الأمر إلى هذا الحد بل أن همجية هذا الزوج وصلت إلى حد مضاجعة الصبي من مؤخرته وكان الصبي يتحمل هذا التصرف المنحرف تضحية منه لتخفيف آلام أمه التي لا تعرف هذا السر(عمري ثلاثة عشر عاماً، وصرخة أمي لم تنم في اذني، كانت أذني تصرخ وجسدي الطري يصرخ لكن الصوت أخرس ستموت أمي كمداً لو عرفت بأني نزفت مثلها، هي من الثدي وأنا من مؤخرتي، ومن تلك الليلة لم يضربها ولم يقترب منها وأن رفضته ولم يلح عليها[1]. وفي هذا النص المسترسل برحلة ألم لا تبرح الذاكرة وتظل عالقة فيها الذي ينتهي بموت الأم، وقد خالج الصبي شعورين هما حزنه على أمه، والثاني فرحه لأنه أحس أن أمه ارتاحت من رحلة الألم وهو وجد له طريقاً للخلاص.
وتظل النقطة غصة مخنوقة، في كرسي أعرج مجنون ثالث ومع حرف ( النون) الذي هو إشارة إلى النظرة المتخلفة بكون المرأة ناقصة، نعيش حالة من التداعيات العميقة إلى حد الألم والاختناق حزناً مع فتاة وحيدة بين إخوة ذكور، وهي تقوم بمهمة سرد هذا النص بلغة روحية تخرج من أعماق الألم، لتقدم لنا حكايتها التي بدأت بتهميشها وعدم رضا أبيها بولادتها، كونه يريد إكمال عدد الذكور عنده، وإرغامها على الزواج من رجل كبرها بعشرين عاماً، أن الإحساس الذي ينتابنا ونحن نسير مع حركة سرد هذا النص يصل بنا إلى حد الاختناق رغبة بالبكاء، إلا أننا لا نستطيع أن نطلق صرختنا وتبقى الرغبة في البكاء مخنوقة في أعماقنا ( لم لا أهرب، سأهرب كثيرون ساروا في قوافل الرمال، كثيرون أطفأت أحداقهم الحدائق وقت برد دون غطاء، كثيرون ارتموا بين الأرجل الدافئة، كثيرون مازالوا تبحث عنهم الشرفات الفارغة . كثيرون مثلي، كثيرون وحدهم، كثيرون خانتهم نقطة البدء، كثيرون نحن…[2]) وفي الكرسي الأعرج الخامس، نكون مع قصة (الممحو) التي تتناول حالة الضياع والفقدان ثم الطريق إلى التسول (تكاثرت حولي ناس لا أعرفهم، وجوههم مثل وجوه أسرتي لكنها تختلف عنهم بوساختها، قذارة أظافرهم وملابسهم الممزقة لا تشبه أسرتي، أنقذني منهم رجل ضخم وامسك بيدي متسائلا…!
لم أعرف ماذا قال لكنه واصل السير خلف الكلب ممسكاً بيدي[3]. ) في الكرسي الأعرج السادس، نكون مع نص سردي أعرج مجنون يحيطنا بحالة الذهول ولانبهار، ويحيل حواسنا إلى كتلة من الألم، ونحن نعيش حالة الضياع والتيتم والالم، وما خلفته الحروب والانفجارات والموت والأشلاء المبعثرة على هذا الشعب المبتلى، والفقير الذي يدفع ثمن فقره بؤس وشقاء، في قصة (لص) في هذا المبنى السردي الزاخر بحكايا محتدمة متوترة متصاعدة، وهي تصل حد الذروة في بناءها منذ بدايتها حيث نعيش حالة يتيم فقد أكثر من نصف عائلته في انفجار، أحالهم إلى أشلاء مبعثرة، ولم تبق له سوى أمه وأخته الفقيرة، التي تنتظره وهو يفتش في مزابل المدينة عن القناني المعدنية الفارغة، وهم يسكنون بيت من الصفيح والإملاق يأكل أحشاءهم، لا شيء في أجسادهم سوى نتوءات عظام بارزة، وعندما يعثر على لعبة في المزبلة ليقدمها لأخته هدية تفرح بها يمسكه الشرطي متهماً إياه بأنه فرد من أعضاء العصابة التي خطفت الطفلة التي كانت تلك اللعبة معها، ويستطيع الانفلات منهم والهرب إلى الصحراء حيث التيه والضياع ( سأنتصر عليك وانقّي جياع المزابل من العرج، أصنع لهم أرجلاً من لحم ودم وليست صناعية فالأرجل الصناعية للمبتورين الأثرياء،، ولنا السماء الماطرة بالأرجل..[4])
حفلت المجموعة القصصية (نقد) للقاصة وفاء عبد الرزاق بأثني عشر كرسياً أعرج تتمحور بين ثناياها النقط لتشكل الثيمة التي تلتصق بمسار السرد، التي هي أحداث مستقطعة من صميم الحياة التي خلفتها لنا كوارث الحروب، ونيران الرصاص، تروي لنا حكايا من قاع هذا الواقع بمعالجات فنية جديدة يظهر فيها الجهد الفني والخبرة المكتسبة والتمكن في إدارة دفة الأحداث وتوظيفها، حيث إن القاصة استطاعت في هذه المجموعة أن توظف الأحداث لتكون طيعة مرنة كما شاءت لها أن تكون في تناول مبهر…!
……………… ***** ……………….
الهوامش:
[1] . وفاء عبد الرزاق، نقط (مجموعة قصصية)، دار كلمة، مصر، ص: 18
[2]. المصدر السابق، ص: 29
[3] . المصدر السابق، ص: 42
[4] . المصدر السابق، ص: 49