مزامير الألم في رواية (رقصة الجديلة في النهر) للروائية وفاء عبد الرزاق

Vol. No. 2, Issue No.4 - October-December 2022, ISSN: 2582-9254

0
163

مزامير الألم في رواية (رقصة الجديلة في النهر) للروائية وفاء عبد الرزاق

د. قيس العطواني

كلية التربية -الجامعة المستنصرية / العراق

—————————

الألم هذا الكيان المدهش يُعدّ أكثر ما يسحق الجسد الإنساني بهالات التوتر والاضطراب، وهو كذلك عندما يكون أحد عناصر الإبداع الأدبي المهمّة التي تنعكس على القارئ إمتاعا ودهشة لاسيما في الأعمال السردية. إنّ تجارب الألم حينما توظّف في فنّ الرواية، فإنّها يجب أن تخلق أعماقا تتناغم مع متطلبات إمتاع القارئ لما تشكّله من منطلقات لسرد الأحداث وتناميها في متون الرواية.

تبدأ رواية (رقصة الجديلة في النهر) بعزف بكائية الأرواح في الحياة من خلال أوّل شخصيتين تظهران في رحابها، وهما (عازف الناي) الموصوف بأنّه معتوه لمن لا يدرك دواخله النفسية، وشخصية الطفل (الأخرس) رثّ الثياب الذي يرفض أن يغيّر ثوبه المثقّب المليء بآلام الفقد ومجامر الحزن.

عازف الناي هو (حامد) الذي هربت به عائلته من جنوب العراق المملوء بالأنين إلى هذه القرية في شماليّه، وكلّ وظيفته في هذه الدنيا، وأساس وجوده أن يعزف كلّ يوم لحبيبته المفقودة (شيرين)، ولأبيه الشهيد صاحب الروح الإنسانية الذي أعدمه النظام الديكتاتوري، وحكاية (حامد) مع معشوقته ابنة القرية التي في لحظة خصام كبير معه قررت ترك القرية، والانضمام إلى صفوف البيشمركة للمشاركة في الدفاع عن أرضها ضد رياح داعش الشريرة، من دون موافقته، ولا موافقة أهلها..

لقد جُنّ جنون عازف الناي لفراقها، وهو لا يستطيع البوح بما يعانيه خشية أن يعلم أهل القرية أنه كان معشوقها. إذ إنّهما تعاهدا على الحبّ حتى الموت، واتفقا على ألّا يعرف أحد سرّهما حتى يحين ما يتمنّيانه لعشقهما الكبير لكنّما يفضحه عزف نايه الذي ينسج تراتيل العذاب وأنغام الألم الصارخ بوجه الظلم الأبدي.

عازف الناي النقيّة روحه الذي يعاني من آلام الفقد يعقد آصرة مع براءة طفل أبكم معقود لسانه لكنّ روحه تضجّ بآلام الحرمان، والحزن، وبآيات الصدق والطهر والبراءة.. إنّ شخصية هذا الطفل كتلة من ألم متوهج لفقدانه أمّه وأخته الصغرى (الطفل الأخرس لا يشبه أحداً في القرية، قادم من مكان مجهول.. حاول الأهالي مراراً تعويضه بثوب جميل جديد، وإجباره على نزع الممزّق… لكنّه يرفض كليّا، ربما يرى الثوب حارسه الوحيد من الضياع.)

وتأتي روح (ريحانة) الفتاة التي حملت السلاح لمقاتلة داعش، فقتلت الكثير منهم قبل أن يأسروها، ويذبحوها أمام الكاميرات غيضا منها.. ريحانة تظهر قبل البزوغ بصورة شابّة بملابس بيض كأنوار شمس مشرقة، كالملاك تحلّ بالبركة على القرية الحزينة المليئة بالأوجاع حاملة معها السنابل المعطاء رمز الخير لتضع كلّ سنبلة أو أكثر على عتبة بيوتات هذه القرية.

وتترآى الآلام في الرواية. إذ ينبجس الألم هذه المرّة في السيدة (زينة) التي تغرق في أتّون آهات العذاب عندما تتذكّر ولديها الّذين فقدتهما في مدينة سنجار عندما هجمت شياطين داعش الإرهابية.

وتبرز شخصية (آزاد). إذ نرى وضعه الدائم في حالة قهر، لا يعبأ لأيّ حديث عن خرافة، وما زالت حياته البائسة بين حلوها ومرّها، وبين عزلته بعد فقده ولدين وبنت له التحقوا مع قوات (البيشمركة) لمقاتلة (داعش)، فهو يعيش في وجوم وقد فارق محيّاه الابتسام إلا عندما يسمع بسفك دم المجرمين الدواعش لترتاح ولو قليلا آهات قلبه المعّذب..

ثم تنبري شخصية (خلّات) الرجل الذي (يئنّ ليلاً ونهاراً على فقد ابنته المتطوّعة للدفاع عن أرضها، والتي لم يسمع عنها أيّ خبر منذ أن تركته رغما عنه.) ثمّ تأتي شخصية (كوفان)، وزوجها (هافال) اللذان يعيشان العذاب لفقد ابنتهما (شيلان) التي اختطفتها عصابات داعش الإجرامية، ومثلها (سليمى) التي وصلت إلى منزل على الحدود السورية العراقية، بعد اختطافها من داعش (مع المئات من النساء والأطفال، وكبار السن قد فقدت أسرتها ولا تعلم عنهم شيئا، فعانت هول الخوف من الاغتصاب قبل أن تستطيع الهرب مع إحدى المخطوفات ليتأجّج النصر في داخلها وتشعر بالحرية كأنّما قد ولدت من جديد.)

وللمتلقّي أن يتخيّل العذابات في شخصية الفتى اليافع ذي الأربعة عشر ربيعا الذي تضعه عصابات داعش في حلقة يتلى بها القران استعدادا لقطع يده (يتلوى ألما، بين الخوف وارتياب عيون الآخرين، من متفرّجين خائفين. تقدّم أحدهم وضرب يده بالسيف، لم تنقطع، لكنّه راح يدكّها دكّا حتى صارت إربا.)

ومن الشخصيات التي رافقت شعورها بالألم صورة الأمل بغدٍ يغيّر كلّ الأشياء شخصية (سميرة) إحدى المسيحيات المهاجرات في مسيرة الهروب من داعش بين الوديان، والجبال الشاهقة تناشد أمّها الباكية النادبة على فقد زوجها الذي فتك به مجرم داعشي بألا تبكي، بأنْ ترفع يديها عاليا لتصبح أغنية الجبال والسفوح، وشاهدة على جريمة العصر.

وتنثال في الرواية موجات الألم المُمضّي مع الأرملة سعاد السائرة بطفلها الرضيع العليل من سوء التغذية، والمرض مع الهاربين من أتّون داعش.. سعاد تتوهّج ألمَا بعد أن قتل إرهابيو داعش ولدها البكر وابنتها عندما كانا قادمين من المدرسة.. كما قتلوا زوجها وأمّه، واغتصبوا أخت زوجها ثم قتلوها.. لكنّ سعاد التي نجت مع طفلها الرضيع بعد أن تمكّنت من الاختباء من الشياطين وقعت في أتّون ثانٍ من الألم. إذ (مات الرضيع ليترك الشابة المنكوبة في حالة من الجنون، لا تنام، ولا تأكل، راغبة بالانتحار البطيء.) فأيّ جريمة تندى لها السماء، وأي صرخة وعويل يضارع آلام سعاد المفجوعة.

وجسّدت الرواية عاشقا وعاشقة فرّا من رجم أسرتيهما إلى فيء الشجرة المباركة شجرة البراءة والصدق والحبّ ليختفيا تحتها، ويتبادلا المشاعر لكنّ العيون الراصدة وشتْ بهما لمغتالي العواطف النقية (فربطوهما على الشجرة، ورموهما بالحجارة حتى ماتا، أمّ العاشقة بكت دماً وحسرة، ولم تستطع الوصول إلى ابنتها، أمّا العاشق فلم تأتِ أمّه خوفاً من عيون الناس، وخوفاً من العار والموت)، فعانى الاثنان ويلات العذاب، وحرقة الآلام قبل أنْ تنتقل روحهما إلى أعالي السماء صارخة بوجه الظلم في هذا الكون.

وتبرز شخصية الصبيّ الصغير (بيوار) الذي أُعدم أبوه شنقا، وهو لا يعرف لماذا أعدم، وماتت أمّه حزنا على وفاة زوجها.. بيوار هذا الطفل لم يتصوّر يوما أنّ طفولته ستنتهك، وأنّه سيسير حافي القدمين بين الصخور والجبال مع العوائل الفارّة من نيران البنادق، وتعطّش داعش لدمائهم. كان يسير مع جدّه لأبيه الذي فارق الحياة لتعبه ومرضه.. بقي هذا الطفل وحيدا يعاني ويلات الألم والوجع الصارخ لا أحد يشفق عليه غير نفسه فالكلّ مشغول بنفسه.

وتأتي شخصية تمارا الفتاة ذات الستة عشر ربيعا التي اعترضها داعشيان أثناء عودتها من المدرسة فخطفاها، واغتصباها وسط صرخات الرعب والألم لقد (جُنّ جُنون أبيها حينما رآها، نقلها إلى المستشفى لمعالجتها، لكنها من هول الصدمة أصيبت بالخرس. نزحت بمرضها مع أسرتها، وبقي صوتها محبوسا ينتظر.)

ونتفحّص تفاصيل لوحة العذاب التي احتوت (جوتيار) هذا الرجل العراقي من الإيزيديين الّذي فتك الدواعش بأفراد عائلته عندما دفنوهم أحياء، وقاموا باغتصاب النساء الإيزيديات أمام أنظار أهاليهنّ في جريمة يندى لها جبين الكون كلّه، ولنا أن نتصوّر كمّ العذابات الملقى على عاتقه الواهن، وعاتق الضحايا الأبرياء.

وتتماهى مع لوحات العذاب المرسومة بعفوية، ودقة وصدق لوحة الأمّ صاحبة الاطفال الثلاثة التي كانت خارج دارها عندما وقع الهجوم الداعشي، واحتلّوا بيتها ليخبرها الدواعش عبر الهاتف بأنْ تأتي لتتسلم رأس زوجها، وكأنّه رأس دمية وليس لإنسان يُعدّ أرفع مخلوقات الكون.

وتضطرب وتضجّ صرخات الاحتجاج والألم الإنساني عندما تهرب العراقيات الإيزيديات بأرواحهن المتلاشية (مع أطفالهن إلى حدود تركيا، مشياً على الأقدام، في درجة حرارة تصل الخمسين.) وتخيّلوا كمّ العذابات الذي مررنَ به.

ونرى محبوبة سيفان، وهو أحد الشباب الإيزيديين الذي رأى محبوبته (نوار) تساق من قبل الدواعش لتقدّم غنيمة إلى وجه داعشي ملتحٍ قذر. لقد خيّرها الدواعش بين أنْ تُغتصب باسم الإسلام أو تُذبح، وفي هذه اللحظة شعرت الفتاة أنّها تمثل أيقونة الطهر، ونقاء الإنسانية، فاختارت الذبح على أن تستجيب لرغبات مأفون مأبون من رواسب الشياطين المجرمين.

نصل إلى القول إنّ تجارب الألم حينما توظّف في فنّ الرواية، فإنّها يجب أن تخلق أعماقا تتناغم مع متطلبات إمتاع القارئ لما تشكّله من منطلقات لسرد الأحداث وتناميها في متون الرواية، وقد نجحت الروائية المبدعة وفاء عبد الرزاق في تجسيد هذه الأعماق (يرى الشاعر والروائي المغربي حسن المددي أنّه بالإمكان إمتاع القارئ بالحديث عن الألم نفسه، فالإبداع فضاء رحب يحتمل كلّ ما فيه من انزياح أو عدول، حتى لو تعلّق الأمر بالألم ذاته، فروايات فيكتور هوغو، وخاصة “البؤساء “ما تزال تمتّع القارئ رغم سوداويتها ومأساويتها.)

وإذا كان عدد من المشتغلين في نقد الحقل السردي يرى أنّ فضيلة الألم في بعض الروايات تكمن في أنّها تُشعر المتلقي بوجود الحياة والحركة فيها، وأنّها وسيلة التطهير وتأكيد لامتحان الانسان كي يجسّد قدرته على الصبر للوصول إلى معانٍ كبرى للأخر، فإن الألم في داخل شخوص رواية (رقصة الجديلة في النهر) مُفضٍ إلى الفناء والانتهاء، وإنّ الشخصيات التي عانت جحيم الآلام كانت شخصيات إيجابية ونقيّة في الواقع المعيش لا تحتاج إلى نظرية التطهير الإجباري البالية إّنما آلامهم هي صرخة الكون المحتجّ بوجه الظلم السرمدي لأجل أن تستيقظ الضمائر الهائمة والعيون النائمة.

……………….. ***** ……………….

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here