مدينة بنارس ومساهمتها في الآداب العربية حتى القرن التاسع عشر الميلادي

Vol. No. 1, Issue No. 2 - April-June 2021, ISSN: 2582-9254

1
2081

مدينة بنارس ومساهمتها في الآداب العربية حتى القرن التاسع عشر الميلادي

 بقلم
أ. د. أشفاق أحمد
أستاذ ورئيس قسم اللغة العربية، كلّية الآداب، جامعة بنارس الهندوسية، فارانسي، الهند

————————————-

ملخص البحث:

مدينة بنارس من أقدم المدن الهندية وأعرقها وتعتبر واحداًً من أهم مراكز الديانة الهندوسية بمعابدها القديمة، وفنون الرقص والموسيقى والرسوم والنقوش والمنحوتات، وتقوم شهرتها على نهر غانغا المقدس وأغواطها التي يتوافد إليها الهندوس للاستحمام فيها، وتعتبر المدينة أيضاً مهدا لعدد من الديانات الأخرى كالبوذية والجاينية والسيخية والمسيحية، فيما وصل الإسلام إليها في القرن العاشر الميلادي، وأصبح جزءا للإمبراطورية الإسلامية بعد أن فتحها شهاب الدين الغوري عام 1194م. وسرعان ما أصبحت من كبرى المعاقل للثقافة الإسلامية، ونبغ على أرضها كبار العلماء المسلمين ولا سيما في مجال علم الحديث، وتزخر بعدد كبير من المدارس الدينية.

يسعى البحث إلى تتبع آثار علماء هذه المدينة في مختلف العلوم والفنون العربية والإسلامية وعلى رأسها علم الحديث من أجل إبراز دورها ومكانتها في خدمة الآداب العربية في الهند وهو دور مشرق ولكنه لم ينل حقه من الاهتمام من العلماء والباحثين.

 الكلمات المفتاحية: مدينة بنارس، الديانة الهندوسية، غانغا، “موكشا”، المدارس الإسلامية، الثقافة الإسلامية، علماء الإسلام.

المبحث الأول: مدينة بنارس خلفية تاريخية

تعتبر مدينة بنارس[1]  من أقدم المدن الهندية وأعرقها تاريخا وثقافة. وتعدّ أيضا من أقدس مدن الهند للهندوس، إن لم تكن أقدسها جميعا. تدل الشواهد على أنّ تاريخها بدأ في القرن الحادي عشر قبل الميلاد. بينما يعتقد بعض الهندوس أن تاريخها يعود إلى الألفية الثالثة أو الرابعة قبل الميلاد. ويقول بعض المؤرخين إنّ بنارس هي المدينة القديمة الوحيدة في الهند التي لم يتغيّر أبداً وقوعها الجغرافي منذ إنشائها قبل آلاف السنين، وظلّت عامرة طوال هذه الدهور.

نشأ في هذه المدينة العديد من الثقافات والآداب، وتطوّرت فيها الفنون الجميلة والمصنوعات اليدوية. وفي الواقع، تعتبر مركزا مهمّا جدا للرقص، والموسيقى، والرسوم، والنقوش؛ فقد عرفت بالعاصمة الثقافية والروحانية لهذه البلاد العظيمة. ولقّبها البعض أيضا بـ “مدينة المعابد والعلم”. ظلّت أهم سوق\ مركز  في المنطقة للصناعة والتجارة منذ القرون. ولا تزال هذه المدينة أكبر سوق للمقاطعات التي تقع في المناطق الشرقية لولاية أوترا براديش والمناطق الغربية لولاية بيهار. ومن أهم منتجات هذه المدينة هي الشالات، والساري، والأقمشة المطرزة بالذهب، والأواني النحاسية المصنوعة بالمطارق اليدوية، وأنواع من حلية الذهب والفضة. وتعرف هذه المدينة بالخصوص بمنسوجاتها الحريرية.

توافد ولا يزال يتوافد إلى هذه المدينة السُيّاح من أنحاء العالم لأشتات الغايات. يقضي فيها بعضهم أياما وبعضهم يمكث لأسابيع وبعضهم الآخر يقيم لشهور أو سنوات، وبينما لا يريد العديد منهم العودة إلى وطنهم أبدا؛ فيعتقد الكثير منهم أن الموت فيها يعني نيلهم “موكشا” ودخولهم في الجنّة.  تقع فارانسي على الضِفاف الغربية لنهر غنغا في صورة الهلال، الذي يعتبره الهندوس أقدس الأنهار في العالم؛ لأن مياهه، في اعتقادهم، ينقّي الإنسانَ من الخطايا والآثام.

يتوافد الهندوس إلى هذه المدينة المقدّسة من أقصى الهند وخارجها للاستحمام في نهر غنغا، ويعبدون آلهتهم من الذكور والإناث في المعابد، وعلى ضفاف نهر غنغا. وعند العودة إلى بيوتهم يأخذون معهم ماء هذا النهر لأفراد أسرتهم وأقاربهم؛ لأن فيه شفاء لكل مرض.

لم تنشأ في هذه المدينة المعتقدات والثقافة الهندوسية الوثنية فحسب بل ترعرعت فيها أيضا الثقافات البوذية- بدأ البوذا ديانته في أحد مناطقها التي تعرف بـ سارنات-، والجينية والمسيحية والسيخية- قدم كرونانك، مؤسس الديانة السيخية، إليها أوائل القرن السادس عشر (1507م). وأما الإسلام فطفق يقدم إليها المسلمون منذ القرن العاشر الميلادي. أصبحت جزءا للإمبراطورية الإسلامية بعد أن فتحها شهاب الدين الغوري عام 1194م. وسرعان ما أصبحت من كبرى المعاقل للثقافة الإسلامية.

وهي مدينة المعابد- وتحتضن ألوف المعابد الهندوسية، ومئآت المعابد البوذية والجينية والمسيحية والسيخية. كمت تضم المدينة أيضاًً المساجد في عدد كبير- وحسب إحصاءات جيمس برنسيب، بلغ عدد المساجد العامرة بالمصلّين عام 1828-29 إلى 333 مسجداً، وكان عدد المسلمين آنذاك 31248، أو ما يقارب 20% من مجموع السكّان.[2]

المبحث الثاني: الحضور الإسلامي في مدينة بنارس

ظلّت هذه المدينة حِصناً مَنيعا للإسلام والثقافة الإسلامية منذ القرون؛ فتفتخر اليوم بوجود عشرين مدرسة إسلامية عربية وأكبرها جميعا الجامعة السلفية- المعهد الديني المعروف الذي له خدمات مرموقة في شتى المجالات؛ فساهم مساهمة كبرى في نشر التعليم الإسلامي الصحيح، وحارب بكل جهد وإخلاصٍ المعتقدات الوثنية الباطلة، وعمل للقضاء على البدع والخرافات التي فشت في المجتمع وشوّهت صورة الإسلام. ومن أهم مساهمات هذه الجامعة الإسلامية نشر اللغة العربية في ربوع الهند تدريسا وتأليفا وخطابة. وقد اشتهر عدد ملحوظ من أساتذتها والمتخرّجين فيها في أنحاء العالم بآثارهم العربية القيّمة. فقد درّس فيها أمثال الشيخ صفي الرحمان المباركفوري (1943-2006م)، والشيخ مقتدى حسن ياسين الأزهري (1951-2009م)، والشيخ محمد رئيس الندوي (1937-2009م)، وعبد الحميد بن عبد الجبّار الرحماني (1940-)، مؤسّس الجامعة الإسلامية سنابل، ومركز مولانا آزاد للتوعية الإسلامية، في نيو دلهي عام 1980م.

ومن المدارس الإسلامية المعروفة في مدينة بنارس هي الجامعة الرحمانية، والجامعة الإسلامية، والجامعة الفاروقية، والجامعة الحميدية الرضوية، والمدرسة الإسلامية السعيدية، ومدرسة دار الهدى، ومدرسة مدينة العلوم، ومدرسة مظهر العلوم، ومدرسة ضياء العلوم، ومدرسة مطلع العلوم، ومدرسة جراغ علوم، والكلية الإيمانية. إنّ هذه المدارس الإسلامية وغيرها الآخر تخدم اللغة العربية منذ قرون أو عقود، وخرّجت خلال هذه المدّة المديدة الكثير من علماء الإسلام ودعاته، ورجال الفكر والأدب والثقافة.

بنارس مدينة للعلم والمعرفة أيضا؛ فتأسست على أرضها ثلاث جامعات كبرى- جامعة بنارس الهندوسية، والمهاتما غاندي كاشي وِدّيا بيت، والجامعة السنسكريتية. وتعدّ هذه المدينة من المراكز القلائل التي حافظت على اللغة السنسكريتية عبر العصور، بما فيه العهد الإسلامي والعهد الإنجليزي. وما زالت هذه المدينة من أهم المراكز للغة الهندية والأردوية أيضا. ولد فيها العَمالقة، وعاش فيها أمثال الفيلسوف الشاعر كبير داس (1398-1518م)، ورَوِي داس (1450-1520م)، مؤسس ديانة عرفت بـ “رَوِي داسية”، وبسم الله خان (1916-2006م)، وبريم تشاند (1880-1936م). وصدر بقلم أحد أبنائها تٌلسي داس (1532-1623م) “رام تشريتا ماناس”، كتاب في سيرة إله “راما” المعروف.

امتدت مدينة بنارس على خمسة كيلو مترات على الجانب الغربي لـ “غنغا” عندما زارها السياح الصيني “هوان تشانك” عام 635م وهي تمتد الآن على أكثر من 12 كيلو مترا، ويسكن فيها  أكثر من مليون نَسَمة.

انتشر الإسلام في بنارس ونواحيها بمجهودات أمثال خواجه مبارك أعظم (م 1464م)، ومولانا موسى البنارسي (م1464م)، وشيخ الإسلام وجيه الدين المعروف بـ حاجي بندكي، وخواجه مبارك المحدث الفاروقي البنارسي (م1572م)، ومولانا شاه طيب الفاروقي البنارسي (م1632م).

ظلّّت مدينة  بنارس أيضا من أهم المراكز للغة العربية وآدابها منذ قدوم المسلمين إليها قبل أكثر من أحد عشر قرنا. ولدت فيها مئآت من الشخصيات العِملاقة التي خدَمت لغة القرآن والحديث النبوي خِدمة مرموقة. بنارس أرض خَصِبة جدا للثقافة الإسلامية والآداب العربية أيضا؛ وهي الأرض التي ولد فيها أمثال الشيخ عبد الحق المحدث (م1869)، ومولانا السيد جلال الدين أحمد الجعفري الهاشمي (م1863)، وعلماء أسرته الجعفريون الأفاضل: مولانا حميد الدين أحمد (م1880)، ومولانا بشير الدين أحمد (ولد عام 1879)، ومولانا سعيد الدين أحمد (1876)، ومولانا شهيد الدين أحمد (م1918)، ومولانا مجيد الدين أحمد (م1878.

ولد فيها أيضا مولانا عبد المجيد الحريري (م1972)، ومولانا عزيز الحق كوثر الندوي (م1993)، ومولانا عبد الله طيّب (م2013)، ومولانا عبد الوحيد الرحماني (م1997)، كما عمل فيها الشيخ محمد سعيد بن سردار كهرك سينغ المحدث (م1904)، وأنجاله الستة مولانا أبو القاسم سيف (م1949)، ومولانا أبو مسعود قمر (م1972)، ومولانا أحمد سعيد (م1964)، ومولانا عبد الآخر (م1983)، ومولانا عبد الرحمان (م1935)، ومولانا عبد الله (م1943).

لا يمكن لي أن أعرج في هذا المقال على كل عالمٍ ولد في بنارس أو عاش فيها أو درّس في مدارسها الإسلامية، وساهم في تنمية اللغة العربية آدابها خلال عشرة قرون. ولذا أحاول البحث في الصفحات التالية في حياة وآثار نخبة من رجال الأدب وعلماء الإسلام ودعاته فحسب. ويتم التركيز الخاص على الشخصيات التي ساهمت في تطوير الآداب العربية.

المبحث الثالث: شخصيات إسلامية بارزة في مدينة بنارس

مولانا أمان الله الحسيني البنارسي (م 1050؟-1133ﮬ)

كان من كبار العلماء والكتّاب في بنارس. ساهم في تطوّر الآداب العربية ونشر العلوم الإسلامية تدريسا وتأليفا وخطابة. ولد الشيخ أمان الله في بنارس في  أسرة عرفت بالعلم والثقافة، واعتنت بالدين الإسلامي وشريعته؛ فكان والده الشيخ المفتي نور الله الجشتي البنارسي (م 1104ﮬ) قاضيا في عهد الامبراطور أورنكزيب عالمكير (م1707).

قرأ الشيخ أمان الله على أمثال مُلا قطب الدين السهالوي وغيره في لكنؤ. وهبه الله ذكاء حادّا وحافظة قوّية؛ فأثنى عليه أساتذته. ونظرا لإطلاعه الواسع على مختلف العلوم والفنون، عيّنه المسؤولون بحكم الإمبراطور عالمكير في منصب الصدر الصدور في لكنؤ. كان يتبادل الآراء في التشريع الإسلامي مع العالم الكبير محب الله بن عبد الشكور (م1707 ميلادي )، صاحب الكتابين المشهورين سلّم العلوم ومسلّم الثبوت. كان محب الله البيهاري قاضيا في لكنؤ في تلك الأيام. ظلّ في هذا المنصب لسنوات، ثم عاد إلى مسقط رأسه، وأخذ يدرّس فيها؛ فدرس عليه أمثال ملا نظام الدين الفرنكي محلّي (م1748 ميلادي) بن ملا قطب الدين السهالوي.

نشرت له كتب عديدة في المواضيع المختلفة بالأردوية والفارسية والعربية. ومن كتبه بالعربية: المفسّر (متن أصول الفقه)، وكتب شرحه أيضا وسمّاه محكم الأصول. كتب أيضا الحواشي على كتب معروفة. ومن الجدير بالذكر هنا أن جميع أولاده الموجودين في بنارس اليوم هم الشيعة.[3]

مولانا علي حزين الجيلاني (1103-1180 ﮬ)

يعدّ من أعظم شخصيات بنارس الإسلامية والأدبية عبر القرون. كان شاعرا فارسيا كبيرا، وعالما شيعيا شهيرا. ولد علي حزين بن الشيخ أبو طالب في أصفهان ونشأ فيها. بدأ تعليمه على يد ملا شاه محمد شيرازي، ثم درس الكتب الفارسية الدرسية ودرس العلوم الإسلامية والآداب الفارسية على كبار العلماء والأدباء  في فارس\ إيران. ودرس التوراة على العالم اليهودي “مر شعيب”، وزار الأماكن المشهورة في فارس واستفاد من كبار العلماء. وحج بيت الله الحرام عام 1144ﮬ.

غادر فارس متوجها إلى السند عام 1146 ﮬ، وصادف أن يلتقي في بهكر مع مولانا مير غلام علي آزاد البلغرامي. تنقّل مدنا هندية مختلفة وأقام في نهاية الأمر في بنارس عام 1161 ﮬ. كانت له علاقة وثيقة مع حاكم بنارس بلونت سينغ (م1186ﮬ)، والذي أهداه قطعة من الأرض حيث بنى له بيتا، ومسجدا، كما بنى مقبرة باسم “روضه فاطمان”، وبها عرفت المنطقة بالفاطمان.

عرف علي حزين في الهند بشعره الفارسي الغزير، وعاداته السامية وأخلاقه النبيلة، وتسامحه الكبير؛ فكان يحبّه المسلمون والهندوس على حدّ سواء. ويتذكّره الناس أيضا لثنائه العاطر لمدينة بنارس وما فيها من المنادر والمساجد ومنتجاتها اليدوية وآدابها وفنونها الجميلة وميراثها الثقافي المتنوع الأبعاد. كان له شغف كبير أيضا بالتأليف والترجمة؛ فألّف حوالي مئتي كتاب بين الصغير والكبير ومنها: سيرته الذاتية “تذكرة الأحوال”، و”تذكرة المعاصرين”، و”تذكرة الشعراء”، و”شرح عيون الأخبار”، و”الناسخ والمنسوخ”، و”إبطال التناسخ”، و”فضائل القرآن” وغيرها الكثير، ومعظم مقالاته وكتبه هي باللغة الفارسية.[4]

مولانا عبد الحق المحدث البنارسي (1791-1869م)

كان الشيخ عبد الحق من كبار علماء الإسلام في الهند، وممّن تعتزّ به مدينة بنارس وكل من يحب التوحيد والإسلام الخالص. كان أول من اهتم بالحديث النبوي في هذه المدينة وعاش لنشره فيها وفي سائر الهند. طلعت أشعة الإسلام على آفاق هذه المدينة في القرن الخامس الهجري وانتشر فيها وفي المناطق التي جاورتها في أسرع وقت، ولكن سرعان ما تأثرت بعض التعاليم والمعتقدات الإسلامية بالتقاليد الهندوسية المحلّية، وتلوّثت بأنواع من البدع، وتسرّبت إليه الخرافات والمعتقدات الباطلة. فتحدّى البنارسي المبتدعين، وعمل مخلصا لنشر الإسلام الذي جاء به نبيّنا محمد بن عبد الله- صلى الله عليه وسلم.

ولد في منطقة نيوتن، مديرية أنّاؤ في إقليم أوترا براديش، ولكن والده مولانا فضل الله (م1256ﮬ) استوطن بنارس وعاش فيها. قرأ عبد الحق أولا على أبيه في بنارس ثم توجّه إلى دلهي ليدرس الحديث ويتخصص فيه؛ فدرس فيها على ابني الإمام الشاه ولي الله الدهلوي (1703-1762م): الشاه عبد القادر (1754-1815م) والشاه عبد العزيز (1746-1823م)، وحفيده الشاه إسماعيل الشهيد (1779-1831م). ثم سافر إلى جزيرة العرب ودرس الحديث فيها على أمثال الإمام القاضي محمد بن علي الشوكاني (1759-1839م)، صاحب فتح القدير، والقاضي عبد الرحمان بن أحمد الحسن البهكلي (1768-1832م)، والشيخ محمد عابد بن أحمد علي السندهي (1776-1841م).[5]

كان البنارسي مِن أول من لبّى دعوة السيد أحمد الشهيد وشارك في حركته لتحرير البلاد من الإنجليز، وتطهير الدين الإسلامي من المعتقدات الوثنية. وفي أثناء الحج- الذي قام به مع السيد أحمد الشهيد ورفاقه- ألقى في المدينة المنوّرة خطبا عديدة تكلّم فيها ضد البدع والتقليد الأعمى والعقائد الباطلة فسجن لمدّة؛ وقد اتّهمه بعض معارضيه الهنود بأنه وهّابي ينشر دعوة الإمام محمد بن عبد الوهّاب النجدي (1703-1792م). وبعد سراحه من السجن وأداء أركان الحج سافر إلى صنعاء، حيث درس على الإمام الشوكاني، ومنه حصل على إجازة الحديث.

وبعد عودته إلى بنارس، تولى الشيخ عبد الحق التدريس؛ فدرَس عليه نخبة من رجال الدين أمثال الأمير صديق حسن خان القنّوجي (1832-1892م)، ومولانا القاضي محمد بن عبد العزيز مجهلي شهري (1837-1902م)، والسيد جلال الدين أحمد الجعفري البنارسي (1806-1861م) وأنجاله الأفاضل الأربعة: مولانا السيد سعيد الدين، ومولانا السيد حميد الدين أحمد، ومولانا السيد مجيد الدين، ومولانا السيد شهيد الدين.

لم تكن تنحصر جهود البنارسي في التدريس وإلقاء الخطب من أجل نشر التوحيد الخالص فحسب، بل إنه ألف أيضا كتبا ورسائل لينشر بها تعاليم الإسلام النقيّة. ومعظم مؤلفاته نشرت باللغة الأردوية ومنها: “أسانيد الشيخ محمد بن عابد السندهي”، و”رحلة الحج”، و”رحلة اليمن”، و”الدر الفريد في المنع عن التقليد” وغيرها.

سافر المحدث للحج سبع مرّات، وفي أثناء حجه النهائي توفّي هذا المجاهد الكبير في مِنى في الثامن ذي الحجة عام 1286 ﮬ، ودفن في موضع “باب مسجد خيف”.

أسّس المحدث مدرسة دينية في بنارس، هي عرفت في الهند بـ مدرسة عبد الحق المحدث البنارسي، ودرّس فيها حتى وفاته. إنّه شارك أيضا في تأسيس المدرسة العالية في مئو عام 1285 ﮬ..[6]

مولانا السيد جلال الدين أحمد الهاشمي الجعفري (1806-1863م)

كان من أعظم من ولد في هذه المدينة. ولد في منطقة جيت غنج عام 1221 ﮬ في أسرة عرفت بالعلم والثقافة. كان من آل علي بن أبي طالب رضي الله عنه. درس على والده مولانا عبد الأعلى البنارسي (م 1274 ﮬ)، ومولانا أحمد الله المحدث البنارسي الكتب الدرسية المتداولة في ذلك العصر. سافر إلى مدينة كانبور ودلهي ليتعلّم من كبار الأساتذة. وممّن درس عليهم السيد جلال الدين في مدينة دلهي كان الشاه إسماعيل الشهيد، صاحب كتاب “تقوية الإيمان” الشهير. عاد إلى بنارس وأكمل دراسته الإسلامية بإشراف مولانا عبد الحق المحدث البنارسي.

عيّن معلّما لبعض رجال الدولة في غازيبور، ثمّ درّس في مدينة بنارس، بما فيها كلّية كوئنس. كان عالما متبحّرا، ومدرّسا جليلا، ورجلا متواضعا في الحياة والسلوك، وكان أيضا شخصية ذات ممّيزات عديدة أخرى. كان فطنا، كما كانت له ذاكرة قويّة جدا. لم يكن السيد جلال الدين غافلا عن سياسة البلاد وما كان يعاني منه الهنود من الذلّة على أيدي الساسة الإنجليز؛ فشارك في الثورة الكبرى عام 1857م.

رزق من زوجته أربعة أنجال: مولانا حميد الدين أحمد، ومولانا سعيد الدين أحمد، ومولانا مجيد الدين أحمد، ومولانا شهيد الدين أحمد. وكان أنجاله كلّهم من كبار علماء الإسلام والآداب العربية في عصرهم.[7]

مولانا محمد سعيد المحدث البنارسي (1853-1904م)

ومن كبار شيوخ بنارس، الذين خدَموا الدين ونشروا اللغة العربية وعلومها، كان محمد سعيد بن سردار كهرك سينغ. وكان أكبر شخصية في الحديث والتفسير بعد المحدث عبد الحق بن فضل الله البنارسي، كما سُدّ به الفراغ الذي وجد في تلك الأيام في مجال الحديث بعد وفاة مولانا السيد جلال الدين الهاشمي البنارسي (1279ﮬ).

ولد محمد سعيد (مول سينغ) عام 1270 ﮬ في إقليم البنجاب لأسرة ثرية هندوسية تعرف في الهند بـ راجبوت. كان والده ضابطا في الحكومة الهندية. درس محمد سعيد في المدارس الحكومية في بلدته. تعلّم اللغة الفارسية في صباه. كان له ولَع بالدين؛ فبدأ يدرس الكتب الدينية منذ صغره، وأحبّ التوحيد منذ طفولته. وبعد إتمام الدراسة الرسمية عيّن موظفا في مكتب البريد في كجرانوالة، وهي مدينة قرب لاهور (حاليا في باكستان).

وفي إحدى زياراته لمدينة لاهور لقي الشيخ عبيد الله السلفي البائلي (م1310 ﮬ)، صاحب “تحفة الهند” (وهو “آننت رام” دخل في الإسلام عام 1264 ﮬ، ونشر كتابه تحفة الهند عام 1269 ﮬ). تأثر مول سينغ بالشيخ البائلي، وعلى دعوته اعتنق الإسلام عام 1874م بعد تقديم استقالته من الوظيفة، وقد سمّي بـ محمد سعيد. بذل والده جهدا كبيرا متواصلا أن يعيده إلى دينه، وفعلا أدخله في الديانة الهندوسية مرّتين، ولكنه استمر على الدين الإسلامي الحنيف.

تجدر الإشارة هنا إلى أنه لم يأخذ من ضيعة والده بعد دخوله في الإسلام شئيا تجنّبا من أكل الحرام. ولكن لم تنقطع صلته بأسرته بعد إسلامه أبدا؛ فظلّ والده يزوره في بنارس؛ فقد أحبّ ابنه كثيرا. حاول ابنه مرارا أن يُدخِله في الإسلام ولكنه رفض دعوته ومات على دينه عام 1907م في بلدته في إقليم البنجاب.

دخل في دار العلوم بديوبند عام  1293ﮬ الموافق 1875 ودرس على علمائها الكتب الدينية، وعمل فيها كذلك مدرّسا لمدّة. وولوعه الشديد بالحديث النبوي أخذه عام 1295ﮬ  إلى دلهي حيث درس على أكبر أستاذ الحديث في الهند آنذاك السيد نذير حسين الدهلوي (م1320 ﮬ)، ودرس عليه كتب الحديث والتفسير. ثم غادر دلهي متوجّها إلى جونفور، أوترا براديش، ودرس الفقه وأصوله في مدرسة “إمام بخش”. وفي عام 1297ﮬ سافر إلى آرَه في إقليم بيهار حيث درس على مولانا سعادت حسين البيهاري (م 1360 ﮬ) والشيخ عبد الله الغازيفوري وغيرهما.

درّس الشيخ محمد سعيد في “المدرسة الأحمدية” في آره لعام. ثم سافر مع أستاذه الشيخ عبد الله الغازيبوري للحج إلى الحجاز حيث درس الحديث على الشيخ عباس بن عبد الرحمان الشهابي اليمني، أحد تلامذة الإمام الشوكاني. وبعد عودته من الحجاز، اتّخذ بنارس وطنا له عام 1299 ﮬ، وأسّس فيها مدرسة دينية سمّاها “المدرسة الإسلامية” نفس العام؛ وقد عرفت بعد وفاته بـ “المدرسة السعيدية”، والتي خرّجت كبار علماء الإسلام ودعاته.

عدّ الشيخ محمد سعيد في الهند من كبار المحدثين في عصره، وإماما في أسماء الرجال. درس عليه نخبة من علماء الإسلام الذين أصبحوا فيما بعد من كبار علماء الحديث والتفسير، وأخص منهم بالذكر هنا نجله مولانا محمد أبو القاسم سيف البنارسي. كان الشيخ محمد سعيد من أحسن الناس خلقا؛ فقد أحبّ الضيوف، وساعد الناس كثيرا. خدَم الإسلام تدريسا وخطابة، كما خدَمه بمؤلفاته الكثيرة، وتحدّى المبتدعين وعارضهم معارضة شديدة. ألف أكثر من ثلاثين كتابا بين الصغير والكبير وأغلبيتها بالأردوية. ومن أكبر إسهاماته في تطوّر الآداب العربية والعلوم الإسلامية في الهند “سعيد المطابع” المعروفة.

ورغم محاولته المتواصلة رفضت زوجته الأولى أن تدخل في الإسلام؛ فتزوج في بنارس عام 1302 ﮬ من السيدة “سارة”، التي كانت من أسرة ثرية نبيلة. ورزق له من هذه الزوجة ستة بنين وست بنات، وقد عدّ أنجاله أبو القاسم سيف، وأحمد سعيد، وأبو مسعود قمر، والمقرئ عبد الله، وعبد الرحمان، وعبد الآخر من كبار علماء الحديث في الهند.[8] توفّي الشيخ محمد سعيد عام 1322 ﮬ.

ومن كبار علماء الإسلام والعربية الذين لم يتم ذكر حياتهم وآثارهم مفصلا في هذا البحث هم: مولانا أبو مسعود قمر بن المحدث محمد سعيد بن سردار كهرك سينغ (1895-1972)، وإخوته الأفاضل الأربعة: مولانا المقرئ أحمد سعيد (1891-1964)، ومولانا عبد الآخر (1905-1983)، ومولانا عبد الرحمان (1899-1935)، والمقرئ الحافظ عبد الله (1897-1943).

ويستحق الذكر أيضا مولانا حبيب الله بن محمد فضل (1886-1978)، ومولانا حيات محمد بن شاه فقير محمد (1862-1923)، ومولانا حكيم ديدار أحمد مظهري بن سردار جان محمد (1916-1997)، ومولانا عبد الحكيم بن شاه محمد (1872-1941)، ومولانا عبد القدوس نسيم بن مولانا عبد الأحد (1921-1998)، ومولانا عبد المتين بن عبد الرحمان (1898-1964)، ومولانا محمد منير خان (1873-1945))، ومولانا عبد الوحيد بن عبد الحق (1924-1989)، ومولانا علي أحمد بن محمد موسى (1924-1987)، ود\ جاويد أعظم بن عبد العظيم (1950-2011).

وبالإضافة إلى هؤلاء، ولد أوعاش في هذه المدينة أو درس في مدارسها الإسلامية والعربية العديد من علماء الإسلام وأدباء العربية وكتّابها أمثال الشيخ صفي الرحمان المباركبوري، صاحب “الرحيق المختوم”، ومقتدى حسن ياسين الأزهري، صاحب كتب كثيرة باللغتين العربية والأردوية. ويجدر بالذكر هنا أن أحد تلامذته عبد الغفّار السلفي أعدّ رسالته لدرجة الدكتوراه في حياته وآثاره العربية وقدّمه إلى قسم اللغة العربية، جامعة بنارس الهندوسية، ومنح درجة الدكتوراه في شهر مارس 2021.

الخلاصة:

اتضح مما سبق من الدراسة أن مدينة بنارس تمتاز بين أقرانها ليس فقط في كونها مركزا عريقا ومهما للديانة والحضارة الهندوسية والبوذية وغيرهما بل برزت باعتبارها معقلاً مهما للثقافة الإسلامية باحتضانها كبرى المدارس الدينية وكبار علماء الدين الذين قدموا خدمات مشرقة ومبهرة للآداب العربية، وإن خدمات علماء بنارس في مجال نشر علم الحديث جديرة بأن تكتب بماء الذهب، وتقتضي دراسات متعمقة لجهود كل واحد منهم، مدينة بنارس مدينة الثقافة الإسلامية بمقدار ما هي مركز للثقافات الأخرى كالهندوسية والبوذية والسيخية والجانينة وغيرها.

الهوامش:

 1. تعرف أيضا بـ كاشي (المضيئة)، وفارانسي (المدينة التي وقعت، في قديم الزمان، بين النهرين: “فارونا Barna or Varuna ” و”أسِي Asi”. ويسمّيها الهندوس كذلك “شيف ناغري” أو مدينة\ مقرّ إله شيفا؛ لأنّ الإله “شيفا”، أحد أعظم آلهة الهندوس، اتّخذ هذه المدينة مقرّا له.

[2] Princep, James. Benaras Illustrated. Varanasi: Vishwavidyalaya Prakashan (Reprint), 1996.

[3] النعماني، عبد السلام. تذكره مشائخ بنارس. بنارس: برنتيا ببليكيشن، 2011. صفحة 68-73

[4] القاسمي، وسيم أحمد. تذكره علماء بنارس. بنارس: الجامعة الإسلامية، 1990، ص 209-115، والفتح بوري، السيد مظهر حسن. تاريخ بنارس،ج\1. بنارس: سليماني بريس، 1916 ص 378-433، ورسالة الدكتوراه التي أعدّتها وقدّمتها الأساذة شميم أختر إلى القسم الفارسي، جامعة بنارس الهندوسية 1985

[5] الحسني، عبد الحي. نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر،ج\7. حيدرآباد: مجلس دائرة المعارف العثمانية (الطبعة الثانية)، 1991 ص 246-251. راجع أيضا القنّوجي، الأمير السيد صديق حسن خان. إتحاف النبلاء. كانبور: المطبعة النظامية، 1288ﮬ، صفحة 265

[6][6] المدني، مولانا محمد يونس.  تراجم علماء اهل حديث بنارس. فارانسي: حافظ براداران، 2016، صفحة 133-147. تذكرة مشائخ بنارس، ص. 112-113، والقاسمي، مولانا وسيم أحمد. تذكره علماء بنارس. بنارس: الجامعة الإسلامية ريوري تالاب، 1990، ص. 132-137

[7] نفس المصدر.

[8] تراجم علماء اهل حديث بنارس، صفحة 370-385، وتذكره علماء بنارس، ص 275-281

المراجع:
  1. الحسني، السيد عبد الحي. نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر (ج\7). حيدر آباد: مجلس دائرة المعارف العثمانية، 1991.
  2. الفتح بوري، السيد مظهر حسن. تاريخ بنارس. بنارس: مطبع سليماني بريس، 1916.
  3. المدني، محمد يونس. تراجم علماء أهل حديث بنارس. بنارس: حافظ برادران بنارس، 2016.
  4. مهر، غلام رسول. جماعت مجاهدين. لاهور: كتاب منزل كشميري بازار.
  5. مهر، غلام رسول. سيرة السيد أحمد الشهيد.لاهور: طبع، 1957.
  6. الندوي، محمد رئيس والآخرون. جماعت أهل حديث كي تصنيفي خدمات. بنارس: إدارة البحوث الإسلامية، 1992.
  7. المفتي، مولانا عبد السلام النعماني. تآريخ آثار بنارس. بنارس: مكتبة ندوة المعارف، 1996.
  8. المفتي، عبد السلام النعماني. تذكره مشائخ بنارس. بنارس: برنتيا ببليكيشن، 2011.
  9. الندوي، مولانا مسعود عالم. مولانا عبيد الله السندي ونظرة على أفكاره وآرائه (بالأردوية). لاهور: دار الدعوة السلفية، 1958.

1 COMMENT

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here