ما بين عبقري الرواية العربية الطيب صالح، والروائية وفـاء عبد الرزاق
بقلم
حسين عوفي البابلي
ناقد وشاعر كبير، الأمين العام للمنظمة العالمية للإبداع من أجل السلام ، لندن
—————————
مَن يتتبع آثار الكُتّاب العظماء، يستشف منها مدلولا ناصع الحقيقة، ألا وهو؛ أنّ الكتابة الحقيقية الواعية لأقلامٍ موهوبة مبدعة، بما تتضمنه من تأثير قوي على مختلف الثقافات وعبر كل الأمكنة والأزمان، فليس للأصل أو الموطن أهمية، وإن كان الأديب مرآة بيئته ــ مادام مضمونه يستحق الانتشار على نطاق واسع، لذلك نجد الكثيرين في وطن الكتابة وعواصم الأقلام قد عبروا حدودهم الزمكانية للوصول إلى ضفاف الإنسانية وليحفروا في ذاكرة الثقافة عميقا.
الطيّب صالح من السودان الشقيق، نال شهرةً مُستحقّة، بعد ترجمة روايته الشهيرة (الهجرة إلى الشمال)، للغة الروسية على يد(فلاديمير شاجال)، والصالح هذا عاش كمواطنيه عذاب الاحتلال وبؤس الحال، ليقرر الهجرة إلى بريطانيا.. لكنّه لم ينجح في الوصول وكما يقول: أنا في منتصف الطريق، بين الشمال والجنوب، لن استطيعَ المُضي ولن استطيعَ العودةَ)..، ويبدو أنه يعاني ما يعتمل في ذاته المتوقدة ثأرا لوطنه واهله المنكوبين، ولم يتخلص من هذا الشعور طوال حياته، مقتنعا أن لا عزاء بهجرته وحيدا وهو يعاني مشقة الطريق وضعف الحيلة، فلا مواساة ولا راحة إزاء هذا الحزن الدفين.
وها نحن أمام انموذج لصالح آخر وطيّب آخر على صورة نخلة عراقية رجيبة، ألا وهي الروائية والقاصة والشاعرة وفاء عبد الرزاق، والتي هاجرت من جنوب العراق لتحط الرحال في بريطانيا تحديدا، والتي لم يصلها صالح الطيب، فيا ترى هل قصّت جدائلها على ضفاف القرنة لتلبس برنيطة المودموزيل؟ أم إنها متمسكة ومتشبثة بعراقيتها التي أفصحت عنها رواياتها العديدة والمثيرة للإعجاب والجدل، منها رواية (رقصة الجديلة والنهر)…
اعتقد جازما أنها وفي كل رواياتها وقصصها وأشعارها، كانت وستظل عراقيةً حتى النخاع، فالمكان والزمان لم يشكلا حائلا أمام العظماء المخلصين لوطنهم وقضيتهم.
هذه الرواية (رقصة الجديلة والنهر) ترجمت لعدة لغات، وكتب عنها العديد من المقالات الادبية والنقدية، وانا من الذين كتب عنها.
إن اللافت للنظر، هو الكم الهائل من الجامعات العالمية والعربية التي تداولت اعمالها السردية (رواية ــ قصة) والشعرية، بحيث يربو العدد على سبع وأربعين جامعة، وأطروحات منجزة (دكتوراة ــ ماجستير) تصل إلى ثماني وتسعين شهادة دكتوراة وماستر، وكذلك قيد المناقشة هنالك مائة وسبع وثلاثين اطروحة.
وهنا أوجه سؤالاً للمعنيين بالإبداع والمبدعين، ألا تستحق هذه الأديبة أن تُنصف، أسوةً بالكاتبة (جوان رولينج) مؤلفة سلسلة (هاري بوتر) والروائية (ماري آن ايفانس) صاحبة رواية (منتصف مارس) الشهيرة، والكاتبة الإفريقية (توني موريسون) صاحبة رواية (المحبوبــــــــة)، والتي نالت جائزة نوبل عام ١٩٩٣م..؟
أم نعيد للأذهان الجملة التي صدمت الروائي الخالد (نجيب محفوظ)، حين رفض رئيس تحرير المجلة الجديدة، سلامة موسى عام ١٩٢٩م، نشر جميع قصصه قائلاً: أنت موهوب، لكنّك لم تصل بعد…
مقتبسات..
في رواية(رقصة الجديلة والنهر) نجد الكاتبة وفاء عبد الرزاق تبتعد تماما عن التسجيلية التوثيقية كما يفعله مراسلو القنوات التلفازية والإذاعية والصحف والمجلات، بل مارست السرد بطريقة التأسيس الواعي المغاير، بما تملكه من مسبار ثاقب يبحث عن جواهر الحقائق، حتى لو كانت تحت القاع، لذلك تحيله حصيلتها المستشفة عن طريق المستشعرات الذهنية والخيالية والواقعية، لتأتي بسلال منطقية عارضةً إيّاها وفق هوية التعدد والاختلاف، وبنكهة التحدي الموضعي لكل دالات الغياب، فالسرد هنا يعِدُ بامتدادٍ لانهاية له في رحب حضارة الكلمة والتي لابد وأن تنتصر على ظاهرة العدم المصطنع.
أرادت الكاتبة في روايتها تلك من بوابة العنونة، أن الرقصة ما هي إلا ثورة على كل سائدٍ متسلطٍ، مثلت دوره (ريحانة) والمنزاحة لجديلة تحاول وبقوة استرجاع حضورها مهما بلغت التضحيات ورغم أنف (داعش) الدخيل، في زمنٍ عابثٍ محايثٍ ومتذبذبٍ، لتوجه له صفعةً بفرحة المثول بوحا ابداعياً ينساب على ضفاف الامتداد ـ النهر.
ريحانة، تلك الروح التي تحاور أرواح الأخريات أمثال(شيرين)، حين توزع سنابلها في الحدائق العامة وتلف رقاب من عُلِّقت رؤوسهم على أسوار حادة ومدببة في مدينة الحدباء الجريحة..، ريحانة هذه تستشف أسئلة العيون وهي تحدق في الآتي وما سيكون، وعلى يد من..
بجديلتها الشقراء ستظل راقصةً، وهي تدرك جيدا أن جديلتها لأشرف وأسمى من همجية(داعش) وزمرته، بل هي الأقرب إلى الله والسماء، كونها قيثارة مقدسة، للحن يعرف نشيد النهوض بعد سبات طويل، وسيلفظ شباب (مجزرة سبايكر) كلمتهم المفقودة، عندها، لن تكون العيون اسيرة الدمع والشجون.
أمّا في رواية تشرين، فقد جاء في إهداء الكاتبة ما يفصح عن المضمون حيث تقول:
أعتذر لقرابين الحق وامهاتهم المؤمنات بالوطن والحريّــة..
كل روح تجلّت نجمةً في السماء، واحلام الشباب تكوّرت افلاكاً…
للأطفال الذين تحوّلت لعَبهم لملائكةٍ وطيور…
لدموع الشابات اللواتي نثرن الدمع كيواقيت ولآلئ..
للثوّار المنتظرين شرف الشهادة….
ديوان (مذكرات طفل الحرب)..
هو ديوان شعر اختير ليكون موضوعا لنيل شهادة الإجازة في الأدب العربي ــ جامعة تبسة ـ الجزائر ــ٢٠٠٠م.
تُرجم للغة الفرنسية (دار لامارتان) كمشروع سنوي أدبي لفرنسا (القارات الخمس) ليمثل قارة آسيا مع من يمثل القارة من الادباء، تحت اشراف اليروفيسور(جوزيف توميسان).
حاز الديوان على جائزة (المتروبوليت نيقولاس نعمان) للفضائل الإنسانية /لبنان ــ ٢٠٠٨م
أما رواية(آن).. فهي بحد ذاتها عمق الفكر واتساعا للرؤيا، فالسرد هنا ممارسة مشاغبة للذهن من أجل إثارته بإسقاطات رمزية متداخلة مع المألوف والمتآلف، والخيالي الميتافيزيقي والمتخيل، والواقع والمتأمل، والمعتم والمضيء، باستخدام مشعل الوعي وهو يجوب دهاليز العقول والنفوس البشرية كاشفا عن التناقض والصراع المستديم نتيجة تحكم الغرائز واضعا التلقي/القارئ أمام مسؤوليات جِسام، كي يقتلع الدغل والعاقول من حديقة الذات، وإن يوقف عجلة الاهمال، مستبدلا إياها بالرعاية والمسائلة والمحاكمة لما ورثه أو صنعه بنفسه وأعطى الهيمنة للاوعي من أن يسيطر عليه.
فلسفة فكرية تستحق التأمل والحضور..
أما رواية (عشر صلوات للجسد).. فماهي إلا انطلاقات لمديات عديدة لتشكل بكينونتها رواية كونية، من خلال تحفيز الحكايات الشعبية والأساطير، ولكن بإطار مشاكس ليتمثل بارتداد جلي لما تعانيه الذات من سلطة الأنا العليا وهي تتصادم مع تصادما رهيبا مع مركز الميول والرغبات.
اخذت ديناميكية السرد روحها زمكانيةً اتسعت لأمكنة وأزمنة ضاربة بالقِدم، فتفاعلت مع بعضها البعض حداثياً منتجةً حكايا هائلة حول ما يضمه (الصندوق… السجن الازلي للنساء) والذي ارتكزت عليه عتبات الرواية..
بطلة الرواية أزاهير، أو هي هي وفاء صاحبة الرواية، كونها مثلت السارد المحايث الذي يتمظهر بطريقة درامية متنوعة وبمتوازيات خيالية/واقعية، وبذات الوقت، وزعت الكاتبة جسدها /روحها على كل امرأة عاشت واقعا لا يُطاق.
بهذه المقالة المقتضبة وودت أن يأخذ المبدعون الحقيقيون استحقاقهم وبما يليق وانجازهم، وها انا أتداول مبدعة من الطراز المبهر والحاضر في المسرح الادبي والإنساني.. ومن الله التوفيق.
……………….. ***** ……………….