قصص عاطفية وارفة الظلال في “قافلة العطش” لسناء الشعلان
بقلم
د. عبد المالك أشهبون
——————————
لم تعد القصة القصيرة من الفنون الأدبية التي تدخل في نطاق الوجبات الاستهلاكية السريعة التي يقال عنها إنها تناسب إيقاع العصر المتسارع والمضطرب والمندفع فقط، بل غدت فناً أدبيا لا يقل أهمية عن باقي الفنون الأدبية الأخرى قيمة أدبية وحظوة رمزية، وما ظهور التنويعات المختلفة في سجل القصة في الأدب العربي عامة إلا دليل قاطع على زخم وغنى هذا الفن. فمن القصة القصيرة إلى نموذج القصة الطويلة([1])، ومنها إلى القصة القصيرة جداً، وهي آخر القارات المستكشفة في عالم الإبداع في الآونة الأخيرة، وتحظى باهتمام واسع من لدن الكثير من المبدعين والدارسين على حد سواء…
سناء شعلان:
وتعتبر القاصة الواعدة سناء شعلان نموذجاً لهذا التنويع الغني الذي يمكن اعتباره قيمة جمالية مضافة في سجل القصة العربية الحافل من خلال خاصيتين اثنتين:
– الخاصية الأولى هي أنها تكتب قصصاً شكلت في مرآة السرد العربي بروقا مميزة، وإشراقات مضيئة توحي بحضور بصمات الشاعر الكبير نزار قباني، في الوقت الذي تكمل فيه رحلة الكتابة الإبداعية بعزم وثبات من منظور كاتبات عربيات مشهورات، عبرن عن واقع المرأة العربية، بكثير من الجرأة والجسارة والشاعرية (غادة السمان، ونوال السعداوي، وأحلام مستغانم وغيرهن).
– الخاصية الثانية هي حرصها على الوحدة الموضوعية، ليصبح موضوع الحب هو سدة البناء القصصي ولحمته، والخيط الناظم الذي تنتظم فيه مجموعتها الثانية: “قافلة العطش“(2006) من البداية حتى النهاية.
فقد أصبحت القصة القصيرة، من منظورها، “ترجمان أشواق” مغدور بها، مقموعة، ومغيبة في أكثر المناطق ظلمة وسديمية في حياة الإنسان. من هنا آثرت القاصة أن تقلِّبَ موضوع الحب – وهو الشوق العارم الذي لا يقاوم – من مختلف جوانبه، وأن تسرد لنا سيرة العديد من حالات العشق المختلفة، فمنها ما هو مستلهم من التراث العربي، ومنها ما هو مستوحى مما هو إنساني، دون أن تغفل القاصة واقع العلاقات العاطفية في الواقع العربي المعيش في مختلف تمظهراته…لذلك عادة ما يفضل في نظير هذه الكتابات القصصية استبعاد الأحكام المسبقة، والتركيز على العلاقة المفترضة بين الشخصيات والأحداث والأفكار المطروحة، وربط كل ذلك بعتبات النص (العنوان وصورة الغلاف والعبارة التوجيهية…) من جهة، وبطريقة تقديم تلك القصص وبأسلوبها في تجسيد الشخصيات والوقائع، وتلاحم بنائها القصصي من جهة أخرى…
1 ـ الوقوف على عتبات “قوافل من عطش”:
بالعودة إلى طرق وضع عنوان المجاميع القصصية لدى أغلب كتاب القصة المرموقين، نلفي أن وضع العنوان ينطلق من تصورين أساسيين مألوفين؛ فقد يضع الكاتب العنوان من خارج العناوين التي تتضمنها المجموعة القصصية، أو ينتخبه من داخل عناوين المجموعة ككل…ومن خلال القراءة المتصحفة (العابرة) والمتفحصة (المتعمقة) للمجموعة القصصية، نجد أن الكاتبة آثرت أن تنطلق من التصور الثاني في عملية وضع العنوان الرئيس (Le titre)(“قافلة العطش“)، وكما يظهر لاحقاً أن العنوان مستمد من أول العناوين الداخلية (Intertitre) في المجموعة الذي يحمل الاسم نفسه، ولا بد أن يكون لهذا الاختيار مغزى وإيحاء ودلالة، ما دام اختيار العنوان عموماً يخضع لمجموعة من الشروط المفترض تحققها بصفة عامة، وأهمها هذه الشروط: الإثارة والجذب من جهة، والاختزال والتوجيه من جهة أخرى…
وتتأسس «شاعرية» هذا العنوان (“قافلة العطش“)، في نظرنا، على صيغة جمالية واستعارية تخلخل أفق انتظار القارئ التقليدي، وتستحثه عـلى استحضار فضاء المجاز (الشعر) في تناسق هارموني مع فضاء النثر(القصة)، وذلك في اتجاه خلق خصوصية ما لعنوان المجموعة، تنهض على فعل الانزياح عن نثرية العنوان المألوفة في أفق تحقيق شعرية خاصة به.
على هذا المنوال، تغدو كتابة العنوان ممارسة إبداعية، جوهرها العدول وخرق المألوف والمغامرة في الدلالة، وإيجاد علاقات وجودية مغايرة بين الأشياء، حيث تتولد عن هذه الانزياحات، على مستوى صياغة العنوان، دلالات جديدة عذراء، تنفتح على أكثر من قراءة.
فما تحيل عليه لفظة “القافلة“، بصفة عامة، هو عالم الصحراء، وبالأخص قوافل الجمال والمسافرين الرحل، والتحدي الوجودي الذي يواجهه هؤلاء، ما دامت الجمال مجبولة على تحمل العطش والصبر، في حين تظل طاقة الرحل، وحدود تحملهم للعطش محدودتين جدا، بالنظر إلى طبيعة كل من الزمن (الجو الحار) والمكان (الصحراء)…
وإن كانت الدلالة المباشرة التي يحملها العنوان – في ظاهره – لا تخرج عما سبقت الإشارة إليه أعلاه؛ فإنه بعد قراءتنا المتفحصة للقصة الأولى خاصة، ولقصص المجموعة عامة، سيكون لزاما علينا – كقراء – إعادة النظر في دلالة العنوان جملة وتفصيلا فيما بعد.
وهكذا يتحصل لدى القارئ اقتناع تام بأن القافلة – في هذا السياق المخصوص بالذات – توحي بمواكب العشاق والمحبين، أما العطش فيرمز إلى ماء آخر يشفي ظمأ وغليل هؤلاء العطشى: إنه ماء الحب، بمفهومه الأشمل. فهو الذي يعيد للناس حيويتهم وعشقهم للحياة، مثلما يعيد الماء إلى الأرض خضرتها ونضارتها ورونقها وبهاءها، فالقاسم المشترك بين ماء العطشى، وماء المحبين هو حاجة الطرفين الملحة إلى الارتواء، في زمن التصحر العاطفي والجفاف الوجداني…
انطلاقا مما سبق، نؤكد أن مفهوم «العَنْوَنَة» في هذه المجموعة القصصية مضلل وملتبس، ويدخل العنوان الرئيس في دائرة العناوين المخاتلة؛ لأنه يلعب – في علاقته بباقي عناوين المجموعة – دور الدمية الروسية الملغز، حيث يبدو عنوان القصة واضحا كما هو على غلاف المجموعة القصصية، وبعد الشروع في قراءة القصص، الواحدة تلو الأخرى، نكتشف مجموعة عناوين داخلية أخرى لا تقل إشكالية؛ عناوين حافلة بالألغاز التي تدخل القارئ في دائرة التشويق، بحثا عن دلالة كل عنوان، من خلال قراءة كل قصة على حدة…
أما صورة الغلاف Page de couverture)) فهي دالة على موضوع العنوان بطريقتين؛ فبالنظر إلى أن العنوان المركب من اسمين هما: “قافلة” و”العطش”؛ فإن حضور ما يشير إلى هذين المركبين الاسميين في ظاهر جملة العنوان بارز وواضح (وهو الدلالة غير المرغوب فيها)، وذلك من خلال صورة الجملين وكذا فضاء الصحراء، إلى جانب هيمنة اللون الأحمر المشتعل الذي يؤطر صورة الغلاف ككل…كما لا نعدم ما يشير إلى المعنى الخفي والرمزي (وهو الدلالة المرغوب فيها بقوة) مما يحمله هذا العنوان، من رموز تحيل على طبيعة العطش الذي سوف يصبح موضوع المجموعة القصصية، ويتعلق الأمر بعطش الحب، وما يوحي إلى ذلك هو أيقونة القلب المرسومة على الرمال. أما صورة العين، فهي كما نعلم مصدر الدموع، والدموع عادة ما تخرج من مآقي العيون إن حبا وفرحا أو حزنا وكمدا. من هنا يغدو الحب والماء توأمين شقيقين في هذه المجموعة القصصية من بدايتها إلى نهايتها، حيث يتم ترسيخ موضوع العطش بمفهومه الاستعاري من خلال طبيعة النص التوجيهي الذاتي (أي من إبداع الكاتبة نفسها) باعتباره جسر عبور من دلالات العنوان، ومعاني صورة الغلاف إلى عالم المجموعة القصصية الفسيح. تقول القاصة في هذا النص التوجيهي: «فكم هم عطشى…أولئك الذين لا يعرفون أنهم عطشى!»
“قافلة العطش“، إذاً، مجموعة قصصية قصيرة، برسم دموع حارة تذرف، دموع تأخذ شكل كلمات تخرج من مآقي العيون الباكية، وتجري مجراها المنساب لتسلك طريقها بين الأصابع، لتركب بعد ذلك في قصص قصيرة، لكنها محملة بأسئلة كبيرة حول طبيعة التكلس الروحي المتفشي في عالمنا العربي، وهي أسئلة إشكالية طالما مررنا عليها مرور الكرام لتفاديها، أو توقفنا عندها من وجهة نظر بطولية (الذكورة والفحولة)، لنكتشف بعد ذلك أنها بطولة جوفاء، لا علاقة لها بالواقع المعيش في مختلف مكوناته…
ونحن نستكشف مواطن الخلق والإبداع في هذه المجموعة القصصية، لاحظنا – بكل بساطة – أن القاصة عبرت بأسلوبها القصصي المتميز عن موضوع قديم قدم الإنسان ألا وهو موضوع الحب، وقصص العشاق، ومع ذلك لا يسعنا إلا أن نسجل أيضاً أن القاصة جاءت ببعض المعاني المبتكرة الطريفة، غير المكرورة، فأين هي يا ترى ملامح هذه المعاني المبتكرة؟
2 ـ تجليات سيرة وصورة العشاق:
يبدو أن تمثل سناء شعلان لموضوع الحب أعمق مما كان عليه زمن العشاق (العذريين، الرومانسيين،…)، حيث كانت نظرتهم إلى المرأة مبنية على وارف خيالهم المجنح، وهو الخيال الذي يسبح بشخصياتهم في دنيا الهيام والعشق حتى الهلاك والموت. ورغم أن تلك النظرة تنم عن نبل الخيال وروعته، إلا أنه ليس فيها نبل الواقع وروعته، ولا قساوته ووحشيته.
هكذا لم تعد صورة المرأة في تجربة سناء شعلان القصصية مجرد كائن ملائكي نوراني، ولا حتى كائن حسي تابع للرجل بالضرورة، بل جاءت قصصها طافحة بالعديد من النساء اللواتي تعددت صورهن، وتنوعت مواقفهن. فالمرأة، أولا وقبل كل شيء، كائن إنساني، وعضو في المجتمع، ولهذا تستحق كل ما للرجل من حقوق، وينطبق عليها ما ينطبق على الرجل من مقاييس الخير والشر، الكمال والنقص…
فمع سناء شعلان، غدا موضوع الحب منصهرا في بوتقة الواقعية السحرية التي تعمد إلى تشبيك الواقع مع الخيال، وتحيين الأسطورة مع المعاصرة، وتوليف المعقول باللامعقول…كل هذه المفارقات التي يتم الجمع بينها في نسيج النص القصصي عُمْدَتُه: التنويع على موضوع الحب الوارف الظلال، باعتباره العنصر المرقق للنفوس، وصانع المعجزات، ومصدر الداء والدواء…
إنه فعل الحب الخارق الذي يجعل القاعدة استثناء، ويدفع الأسيرة الحسناء، في أولى قصص المجموعة، إلى أن تفضل حالة الأسر – في ضيافة الشاب الأسمر الذي عشقته حتى الثمالة – على أن تعود إلى مضارب قبيلتها، وهي آمنة مطمئنة…فقد كانت على وشك أن تعتلي هودجها، بقبضته القوية، منعها من إكمال صعودها، وقال بمزيد من الانكسار: «من ستختارين؟» نظرت في عينيه: «أنا عطشى…عطشى كما لم أكن في حياتي». اقترب البدوي الأسمر منها، كاد أن يسمع صهيلها الأنثوي، وقال:« عطشى إلى ماذا؟ »
قالت بصوت متهدج: « عطشى إليك…» ([2]).
فقد كانت الصورة التي أريد لها أن تسود هي أن تقاليد القبيلة وطقوسها وعاداتها ما كانت لتجيز للمرأة أن تختار غير هذا الوضع، حتى وإن كان رتيباً ومملاً وبارداً، وإذا أضفنا إلى ذلك أن نظرة هؤلاء البدو إلى المرأة على أنها حيَّة ليس لها غير الجحر، وإلا فالقبر؛ فإن انتفاضة الفتاة على تقاليد القبيلة أحدثت في نفوس الرجال رجاً عميقا؛ وهو الفعل الانقلابي الذي لم يستسغه رجال القبيلة الذين أبدوا لحظتها حنيناً مكتوما إلى طقس جاهلي مأثور عند العرب ألا وهو: وأد البنات.
وحسب تصور القاصة، فالعطش إلى الحب أورث الصحراء طقساً قاسياً من طقوسها الدامية، أورثها طقس وأد البنات، البعض قال إنهم يئدون بناتهم خوفا من العار، البعض الآخر قال إنهم يفعلون ذلك خوفا من الفقر، «لكن الرمال كانت تعرف أنها مجبرة على ابتلاع الضحايا الناعمة خوفا من أن ترتوي يوماً، كان مسموحاً لقوافل أن تعطش وتعطش، ولها أن تموت إن أرادت، لكن الويل لمن يرتوي في سِفْر العطش الأكبر»([3]).
ولأن الحياة العاطفية السعيدة في المدينة لا تصنعها، أو توجهها متطلبات المؤسسات الاجتماعية؛ ولأن جذوة الحب في الإنسان – ذكرا كان أو أنثى – لا يمكن أن تطفئها مواثيق الزواج المفروضة بحسب العادات والتقاليد، فقد كانت هناك دائما نظرة إنسانية مغايرة لكل أنواع الكبت والقمع والحرمان…ذلك هو شأن الزوجة التي لم يكن يخطر ببالها أن فتح النافذة المطلة على حديقة الجيران سيغير مسار حياتها رأسا على عقب. بدءا من إحساسها بجسدها، واعتزازها بأنوثتها، إلى غير ذلك من المواقف الطارئة التي تتعلق بصورة الزوج الذي تتقاسم معه بيت الزوجية، والذي تصف نفسها في كنفه على أنها :«أسيرة لشيء اسمه زوج…» ([4])، وصورة فتى الأحلام الذي ظهر فجأة، وما تستدعيه مثل هذه الصور من مشاعر الحرمان والوحشة مع الزوج، أو من روح الفتنة والإغراء مع فتى أحلامها…
كانت النافذة وسيلتها الوحيدة لتذكر أنوثتها المنسية، وهي ذاتها نافذة المطبخ التي ظلت شبه مقفلة لمدة طويلة….وما أن فتحت الزوجة هذه النافذة الصغيرة حتى انفتحت معها طاقة كبيرة جبارة في دواخلها، وباتت نقطة ضوء مشعة على أنوثتها المطمورة: «إنها نافذة عاشقة، والنوافذ تعشق الانتظار»…
هكذا تولدت لدى المرأة رغبة الانتظار، وأشواق اللقاء، وهي التي لم تكن قد خبرت من قبل معنى لذة الانتظار، «ولم يكن انتظارها يطول للشاب الأسمر ذي الهدبين السرمديين، والقامة الممتدة بسخاء، إذ سرعان ما يطل ليفي بنذره اليومي بين يديها، كان من الواضح أنه يصغرها بعقد من الزمن، ويكبرها بعقود من الحيوية والسعادة والأمنيات والطيش»([5]). لكن الأمور لا تجري كما يشتهيه العشاق دائماً، فقد ملَّ الفتى الأسمر من الانتظار، وهجر الحديقة، واختفى، وقيل إنه تزوج على مضض، وسافر للعمل في دولة عربية ما، بقيت تشم أريجه، الذي تحمله الريح من النافذة، كانت تسمع كلماته التي لم يقلها، تستمتع بمخاصرته لها في رقصة لم تحدث، وتخجل من قبله الحارة التي لم تذقها»([6]).
وتعود بنا القاصة القهقرى إلى العصر اليوناني لتمتح منه ما يعطي لقصصها أصالة لا بد منها في تنويع قصص العشق الإنساني… في هذه القصة، نواجه الآلهة في المجتمع اليوناني يحبون، كما نواجه أيضا أنصاف الآلهة يموتون عشقا مثلما تعشق الكائنات الحية.
فالحب من هذا المنطلق، لا يفرق بين أوضاع الناس، فالكل أمام سلطان الحب سواسي، لا فرق بين غني وفقير ولا بين حاكم ومحكوم، من هنا التأكيد على قيمة الحب لدى كل من الرعية والآلهة سواء بسواء. فهاهي الفتاة تحتج بشدة على كبير الآلهة (زيوس) الذي لم يهبها حباً واحداً فقط، وكتبت رسالتها إلى كبير الآلهة تتساءل معه تساؤلا وجوديا عميقا: « لماذا هي مسجونة في هذا الجسد الأنثوي البغيض؟ وتتمنى أن تتحرر لحظة حب واحدة، لتستطرد قائلة: أهذا كثير على إله السماء؟ إنها صرخة حرى على الإمعان في خنق هذه الغريزة الحيوية، ولتفادي وجع القلب وكثرة الشكاوى يصدر زيوس مرسوماً يؤكد فيه على أنه لم يعد بعد الآن معنياً بمشاكل العشاق والمحبين….ما دام زيوس نفسه لم يجد دواء لذاته من هذا الداء اللعين…
ومن قصص المحبين والعشاق في اليونان ترحل بنا القاصة إلى قصص العشق في أفريقيا مع قصة كاهنة مقدسة اسمها تيتا…حيث يغرم بها الطبيب الأوربي الذي رحل إلى أفريقيا في إطار بعثة للصليب الأحمر.. كان اللقاء بين الطبيب والكاهنة الساحرة، وعنه تولد حب خفي، سيظهر هذا الحب بقوة في مهرجان الحب(غيروال)، أو عيد الأجساد وهو حفل سنوي «حيث يتزين الشباب ويعرضون أنفسهم للفتيات؛ ليخترن أجملهم جسداً…ففي هذه الليلة يباح لكل فتاة أن تهرب مع من تعشق، حتى ولو كانت متزوجة، فهي تستطيع أن تهجر زوجها في هذه الليلة، وان تهرب مع رجل تعبد جماله»([7]).
في تلك الأعياد يتحرر الفرد نسبيا من سلطة الجماعة رغم وجوده في قلبها. وككل الأعياد التي تقام هنا وهناك، والتي تعود إلى منطقة منسية من التاريخ أو من الوعي البشري؛ فإن كل إنسان لا بد وأن يشارك في هذا الدفق الجماعي الاحتفالي، ومن غير المجدي أن يقصي الطبيب نفسه من هذا الجو الاحتفالي الطريف.
من هنا كان على الطبيب أن يمتزج مع هذه الحشود البشرية المبهمة، وأن يلتزم طقوسهم وعاداتهم…في ظل هذه الأجواء الاحتفالية، يتجرأ الطبيب على خطف حبيبته، تمشيا مع ما تقتضيه الطقوس والأعراف في نظير هذه المناسبات الاستثنائية، ليهربا معاً…لقد كان مجنونا ومسحورا بها، وخمن أنه لن يشفى من حبها أبداً، كما كانت مجنونة به إلى درجة لم تنفع معه أدويته (بصفته طبيباً)، ولم ينفع سحرها في تجاوز هذا المرض اللذيذ الذي استوطن أوصالها، وسكن في تجاويف الفؤاد والروح (باعتبارها كاهنة)….
ومن فضاء أفريقيا المليء بالحكايات العجيبة والجذابة، تروي لنا القاصة حكاية الصحفية التي انتدبتها مجلة غربية مشهورة للقيام بتحقيق صحفي حول حياة الطوارق بالنيجر…أما الصحفية فكانت واقعة في مشكل عويص مع زوجها الفظ القاسي الذي لا يرغب في طلاقها منه…
تصل الصحفية إلى مضارب القبيلة المقصودة (البداوة والنقاء)، لتجد هناك عادات وتقاليد مخالفة لما ألفتها في العاصمة (المدنية المتوحشة). فالزوجة وفق هذه العادات، تطلق الزوج في حفل بهيج حينما تخمد شعلة الحب بينهما…كما أن المرأة هي التي تطلب الرجل وتخطب ودَّه، وأنها أيضا هي التي تحتفي بمتطلبات الروح أيما احتفاء…وهناك تقع الصحفية في حب رجل من كبار أعيان القبيلة، وتتزوجه بعد أن تجرأت على طلب يده، في حين ذكرت صحف المدينة أن زوجها طلقها بعد أن ضاعت في الصحراء…
ومن المعروف أن نظير هذه الأعياد يتم فيها تعليق العادات والأعراف الراسخة مؤقتا، وذلك ما يساعد على انبعاثها وتجددها من خلال تصورها في أشكال جديدة، حيث يؤسس الكرنفال عادة «قاعدة للانتهاك ويؤدي بالناس إلى التحرر من الغرائز المكبوتة وهي ليست دائما غرائز جنسية. إنه انفتاح لزمن آخر في زمن الناس والمجتمعات الرصينة والمنافقة. إنه عيد نموذجي للجماعة يتحرك فيه الناس بعيدا عن التوترات والضغوط متعددة المصادر والأشكال»([8]).
وتقترب بنا القاصة أكثر من واقع العلاقات الاجتماعية في زمن هيمنة الإنترنيت. وتروي لنا قصة المعلمة التي اطلعت صدفة على تفاصيل علاقة حب طويلة على الإنترنيت لإحدى طالباتها مع رجل مجهول الهوية، يطلب مقابلة فتاته التي يتصورها امرأة ناضجة…وهنا ستتحمل المعلمة مسؤولية تصحيح الموقف، حيث ستذهب إلى محطة القطار لتنتظر هذا القادم المجهول، وحالما ينزل الرجل بالمواصفات المتفق عليها تكون المفاجأة هي أن المعلمة تخبر الرجل المنتظر بأنها كذبت عليه، وأن اسمها الحقيقي منى لا دلال، ويصارحا الرجل من جهته بأن اسمه رشاد لا علي.
ومن جديد تتعالى ضحكاتهما لتوحي لنا الكاتبة أن قصة حب جديدة بدأت تتخلق من جراء هذا اللقاء غير المنتظر، وأن هذين الشخصين انتقلا من طور العلاقة الافتراضية عبر الشبكة العنكبوتية إلى طور العلاقة الواقعية الحية التي يلتقي فيها الطرفان، وهما من لحم ودم وأحاسيس…ومن صلب هذه اللحظة (الواقعية) الحميمية، وبناء على دفء اللحظات السابقة (الافتراضية) يبدأ انجذاب جنسي متبادل بين منى ورشاد، لتنفتح أطوار أحداث جديدة، في سياق ما بات يعرف راهنا بنموذج «القصة المتراخية»…
وتستمر حلقات سير العشاق الواحدة تلو الأخرى، لنتوقف مع قصة الفنان الذي عشق امرأة مجنونة. وتنطلق هذه القصة من فكرة أساسية مفادها: أن الجسد البشري العاري في ذاته موضوع يجذب العين، ويمتعها أن تراه من جهة، وأن تبصره مجسدا في اللوحات الفنية من جهة أخرى. ومعلوم أن هنا فرقا كبيرا بين النظرة الشبقية الضيقة الأفق للمتلصص المحروم، ورؤية الفنان للجسد العاري، وهي الرؤية ذاتها التي تعتبر الجسد العاري ليس موضوعا للفن، فحسب ولكنه شكل فني من أشكال التعبير كذلك (بيكاسو/هنري مور/ رينوار….)…وهذا شأن المهندس المعماري البارع في فن الرسم الذي تستهويه صورة الفتاة المجنونة في الحي «بملابسها القذرة الممزقة، بأطرافها المتسخة، بأظافرها القذرة، بشعرها الأشقر المتطاير بفوضى مسحت أي أثر لتمشيط حدث في الزمن الغابر، بدموعها التي تذرفها وهي تستجدي المارة، بحالات الجنون التي تنتابها، فتجعلها تتعرى من ملابسها، وتنصب نفسها إلهة مجنونة ترقص عارية في سبيل الحوريات، والصغار يتصايحون والرجال يحوقلون، وبعض النساء تتبرع لسترها بملابسها من جديد»([9]).
فقد تحولت المرأة من مجرد موديل أعجب به الرسام لتغدو في النهاية زوجة رائعة، تعيش في كنف زوجها الرسام، وعيبها الوحيد هو أنها تتعرى عندما تغضب، وتشرع في البكاء….
ومن صورة فينوس كما تصورها الرسام في مجنونته، تحط القاصة الرحال عند أقدم مهنة محرمة على وجه الأرض وهي ممارسة الدعارة، وتحكي لنا حكاية المرأة التي أحبت ووهبت أغلى ما لديها لحبيبها الذي تخلى عنها بعد أن قضى منها وطره….
في البداية احترفت المرأة مهنة الدعارة بحثا عن صورة الرجل الذي أحبته وهجرها…وكل مرة كانت تتمنى أن تلتقي به، وكل لقاء مع رجل آخر تتصوره هو، وحينما تنام معه تستفيق بعد ذلك على صدمة مؤلمة وهي تجد في الفراش رجلا آخر…وظلت يومياتها على هذه الحال إلى أن فقدت الأمل في العثور على صورة الحب الأول…وفي الليلة الأخيرة كانت مستكينة وشهوانية ومتفاعلة مع من كانت معه، لكن بدون أن تبحث في جسده عن صورة ذلك الرجل الذي أحبته وغدر بها…
لقد ضاعت وضاع منها الطريق في النهاية، ولم يبق من ذكراه سوى حرقة ألم إنساني منطوي علي مناحة حزينة وغامضة، تؤديها المرأة منذ أقدم العصور في هذه المهنة السالبة لكرامتها والتي تقلب المقدس مدنسا!
وإذا كانت صورة الحبيب في القصة السابقة دون مستوى انتظار الحبيبة، مما أسقط الحبيبة في فخ الرذيلة، فإن قصة الطبيب (وهو في العقد الثالث من عمره) مع المرأة التي تعمل معه في الوحدة الصحية (وهي في ريعان شبابها) تختلف عن سابقتها. وكثيراً ما يقال «إن الرجل حين يتألم يكره، بعكس المرأة التي حين تتألم تزداد عاطفةً و حباً»، حيث تنشب علاقة غرامية حادة بين الطرفين، لكن الطبيب (رأفة بها، وخوفا من الفشل) يخبرها بأن العلاقة غير متكافئة، لسبب فارق السن بينهما…
هكذا تتزوج المرأة بغير الطبيب، ويظل حبيبها حاضراً بقوة في كنف حياتها الزوجية الجديدة…مما أدى إلى وقوع الطلاق بعد زواج دام أكثر من تسع سنوات. وسرعان ما أدركت أن رغبتها في نسيانه كانت أقوى محرض لتذكّره. بعد الطلاق عادت الحبيبة إلى حضن حبيبها الطبيب الذي أصر على عدم تكرار ما سبق، وأن يربط مصيره بمصيرها إلى الأبد…
ولا تنسى القاصة علاقة المرأة المحبة في حال فقدها لزوجها، وهنا تسرد علينا قصة المرأة التي فقدت زوجها وعاشت على أمل عودته، وكانت حواراتها مع البئر حول استعادة زوجها دون جدوى…وفي الأخير سترمي بالكيس الذي يضم بعض رفات زوجها، أملا في أن تعود إليه الروح، لكنها تقتنع في الأخير أن جسداً عاشقا يكفيها حيث حلت روحه في جسدها، حينها فاض جسدها سعادة بالروح الجديدة، وامتزج الروحان وكانت مساحة الفرح كبيرة…
ويبدو أن الرؤية التي تحكمت في إنتاج هذه المجموعة القصصية هي خلق صور مميزة لعشاق آمنوا بالحب حتى النهاية…إننا أمام ترميز للعلاقات العاطفية بمختلف تجلياتها، وهو ترميز يقي القاصة عن أية شبهة للابتذال أو السخافة كما نرى هذه الأيام…مما فتح هذه المجموعة على لعبة المرايا المتعددة، فجعل الشخصيات مرايا لبعضها البعض، وتجلى ذلك في النقط التالية: الارتباط بالمحبوب إلى حد الهوس والضعف، الحب من طرف واحد، ظهور الشخصيات المحبوبة في المجموعة القصصية على شكل ألغاز بالنسبة للشخصيات المحبة، تتماهى الشخصيات كذلك لتقدم لنا صورة عن الحب، وهي اقتناع الشخصيات بأن الحب قضاء وقدر لا فكاك منهما.
ومن هذا المنطلق، تغدو شخصيات القصص متفردة في الصبابة، كما في الكآبة، وهو تفرد في العناء يقترب من طريقة الشعراء الرومانسيين في كثير من الأحيان. أما الدرس المستخلص من سيرة هؤلاء العشاق والمحبين هو أن الحب يعلم المحب أن يعشق ما يمقته الناس، ويدعوه إلى مصافاة من يضاغنونه؛ لأن الحب ليس بميزة في المحب، بل في المحبوب بالدرجة الأولى.
بقي علينا أن نؤكد أن سر انطواء وعذاب وحرقة هاته الشخصيات، وفرارهم من صحبة الناس لم يكن غطرسة، ولكنه حزن عميق قديم من تلك الأحزان العميقة القديمة التي تستقر في النفس وتكمن مدى الحياة، ويحملها صاحبها معه وكأنه يحمل صليبه على طريق العذاب. وهو صليب لا يحمله المرء على كتفه كما كان يفعل القدماء؛ لأنه صليب باطني يحمله الإنسان في داخله كما يحمل هيكله العظمي.
في الأخير لا بد من التنبيه إلى أن لكل مبدع موضوعة واحدة رئيسة يشتغل عليها في أعماله، وأن أعماله تأتي تنويعاً على هذه الموضوعة. فقد رفعت القاصة شعارا مركزيا في هذه المجموعة القصصية من بدايتها إلى نهايتها، وهو شعار مفاده: «أنا أحب فأنا موجود/ة»، هذا الكوجيطو قد يثير حفيظة غيرنا من القراء/النقاد بحجة أنه «ليس بالحب وحده يحيا الإنسان».
ونحسب أن التقدير الصحيح لصنيع سناء شعلان ينبغي أن يتجه إلى عناصر الصنعة الفنية في مجموعتها القصصية هاته؛ فبلغة قصصية نثرية شفافة ورشيقة وشاعرية، وبأسلوب مفارق وساخر ومخاتل استطاعت القاصة أن تبلغ أفكارها وتصوراتها ورؤيتها للواقع. كل ذلك وغيره رفعها بجدارة إلى أن تتبوأ مكانة مميزة إلى جانب كاتبات أخريات أبدعن أيما إبداع في هذا المجال، إلا أننا ومع ذلك لا بد أن نهمس في أذن مبدعتنا الرقيقة سناء شعلان أن تتجه إلى الكتابة عن«الحب وأشياء أخرى» لكي تكتمل صورة الحب، بعد أن تنزله من ملكوت السماء إلى جحيم الأرض كما هو في الواقع العربي المعيش… وهي صورة الحب التي تنم عن نبل الخيال وروعته، وفيها كذلك من قساوة الواقع الشيء الكثير، وذلك هو الرهان الفني المؤمل من قاصة واعدة مثل سناء شعلان…
………………………. *****………………………..
الهوامش:
[1]ـ تراجع في هذا الصدد المجموعة القصصية الأولى لسناء شعلان: “الكابوس“، حيث تعنون إحدى قصصها بالعنوان التالي: “قصة طويلة“، دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة، 2006، ط:1، ص:99.
[2] ـ سناء شعلان: “قافلة العطش”(مجموعة قصصية)، مؤسسة الوراق للنشر والتوزيع، الأردن، ط: 1، 2006، ص:12.
[3] ـ المرجع نفسه، ص:14.
[4] ـ المرجع نفسه ، ص:17.
[5] ـ المرجع نفسه ، ص:16.
[6] ـ المرجع نفسه ، ص:18.
[7] ـ المرجع نفسه ، ص:42.
[8] ـ شاكر عبد الحميد: “أنثربولوجيا الجسد والحداثة”، مجلة :”إبداع”(مصر)، العدد التاسع، سبتمبر 1997، ص:88.
[9] ـ سناء شعلان: “قافلة العطش”، مرجع سابق، ص:32.
المصادر والمراجع:
[1] ـ سناء الشعلان: “قافلة العطش“(مجموعة قصصية)، مؤسسة الوراق للنشر والتوزيع، الأردن، ط: 1، 2006.
[1] ـ شاكر عبد الحميد: “أنثربولوجيا الجسد والحداثة“، مجلة :”إبداع”(مصر)، العدد التاسع، سبتمبر 1997.