قصة “في القدس لا تشرق الشمس” للدكتورة سناء الشعلان
بقلم
د. شوكت درويش
الجامعة الأردنية، الأردن.
————————————-
قال تعالى: “لا يقاتلونكم جميعاً إلاّ في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون، كمثل الذين من قبلهم قريباً ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم “صدق الله العظيم} الحشر59: 14-15 {عالج د. سناء الشعلان في قصتها بناء جدار الفصل العنصري الذي تقيمه إسرائيل على أراضي الصفة الغربية المحتلة؛ لتتحصّن به من رجال المقاومة؛ علّها تنعم بالأمن، وأنّى لها ذلك؟
ما أحلى أن يعيش الإنسان هانئاً في أرض وطنه يستمتع بدفء شمسها، ويتفيّأ ظلال أشجارها، ويأكل من خيرات أرضها “فتشمله الشّمس-الحريّة والطمأنينة وراحة البال-كما تشمل باقي البشر- الأحرار، الذين لهم أرضهم وخيراتها- دون الخوف من رصاصة غادرة- من عدو وطنه المحتل- أو هراوة ظالمة-من رجل أمن مزعوم، ودون حصار- من عدو غاشم لايعرف، ولا يعترف بحقوق الإنسان؛ صاحب الأرض- أو حظر تجوّل- قيود وسجون-حسب مزاج المحتل- أو عيون غرباء- يتفرجون من علٍ على مأساة شعب فلسطين”.(1)
كان يبحث عن الحريّة، ويتمنّى على الله أن يحقّق له ولهم النصر “إجلالاً لطفولته لمسروقة، وأمنياته المؤجلة”(2) في عيش كريم-فوق أرض فلسطين” وبالتحديد حوله في مدينة القدس”(3) سحر المكان، وارتباطاته التاريخية والدينية والثقافية في نفسه، والعزم على ” البحث عن أمنية ضائعة تسمّى الشّمس- الحرية له وللقدس- أجال نظرة عجلى في المكان”(4) الذي ” يسكن العدو-اليهودي- والحصار- المفروض من يهود- والموت الأسود- الذي يداهمهم به العدو- والظلّ- المرعب المخيف، الذي جعل المكان(القدس) “(5) بينما المحتلّ الصهيوني يستمتع بالقدس(المكان) خاصة، وفلسطين عامة” على مرأى من الإنسانية، وقال في نفسه: في القدس لا تشرق الشمس” (6)
بعد هذه التوطئة الشائقة، كان لا بدّ وأن تشتعل المقاومة، وهنا تبرز المقاومة، مقاومة أطفال الحجارة اللاهثين كرّاً وفرّاً “كان الجنود-جنود الاحتلال الصهيوني- يطاردون بعض صبية حيّه، عرفهم جميعاً، كانوا نوارس صغيرة-أطفال- تطاردها الوحوش-جنود الاحتلال الصهيوني المدججين بمختلف أنواع الأسلحة والواقيات.
ولم يخف المقاومون الصّغار الأبطال من بطش العدو، بل كانوا يهتفون، وهو يهتف معهم: الله أكبر، خيبر، خيبر يا يهود، جيش محمد سوف يعود. وهنا لفتة ذكية للقاصة باستغلال الهتاف لإبراز العلو الكبير المرة الأولى، وكيف قضى عليهم العلو الكبير المرة الثانية. وشارك أحمد أطفال حيّه في المقاومة بإمكانياتهم البسيطة البدائية، وهم يخافون الحجارة، ويذكرون قصة طالوت وجالوت، وانتصار طالوت بحجر سيدنا داوود عليه السلام” وأخذ يرشقهم ببعض الحجارة، وولّى مع الصبية نحو البعيد، اختبأ في إحدى الأزقة مع صديق له من الصّف الخامس اسمه أحمد-كثير الحمد لله- وهو يكبره بعام- جيل المقاومة المتّصل- لكنّه يعرفه جيداً، كان يصلي معه الفجر- يقول رسول -الله صلى الله عليه وسلّم- ” من صلّى البردين(8) دخل الجنّة”(9)، ومن يصلي الفجر دلالة على عدم التثاقل والنشاط، وهذا ربط ذكي بين صلاة الفجر والمقاومة، فكلاهما بحاجة إلى يقظة ونشاط- في المسجد الأقصى- يقول رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم:” لا تشدّ الرّحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى”.(10).
واختيار المسجد الأقصى دون مساجد القدس الأخرى لارتباط ديني بالمكان، ووحدة العالم الإسلامي، وما على المسلمين فعله تجاه المسجد الأقصى. وكان يصلي ورفيقه أحمد الفجر بحضرة المعلم رفيق- له من اسمه نصيب- فهو لين الجانب” ولكن كان ذلك في الماضي-استمرارية المقاومة- قبل أن يرحل معلمهم الطيب دون عودة، وقبل أن يعلو جدار الفصل، فيغلق الدروب دون المسجد”(12)
الجدار الذي شطر المدينة شطرين، نما أسرع من نمو (محيي الدين)، وظلّ محيي الدين يبحث عن الحرية المنتظرة الموعودة، على الرغم من وجود الجدار الذي يظنه المحتلون حامياً لهم، يبحث عن الشمس= الحرية ” إكراماً لمعلمه رفيق الذي علّمه الصلاة، وهو ما يزال في الصف الأوّل-استعداداً وتهيئة لمقبل الأيام-يومها قال له ولزملائه في الصّف، ودفء الإيمان يعلو قسماته السمراء: يا أبنائي الشمس عادلة تغمر الجميع بنورها- الحريّة للجميع، ولا يحجبها ظلم، محتل أو غاصب”.(13)
والتحق معلمه رفيق بركب الشهداء”يومها شقّ جموع المشيعين، وحدّق في جسد معلمه المسجّى بطمأنينة”طمأنينة الشهيد الذي لاقى ربّه مؤمناً صادقاً” يسكن القرآن صوته، تفرّس في لحيته الرقيقة”(14) وعاهده على المضي في دروب المقاومة، وظلّ يتنقّل- وهو ابن عشر سنوات- وأترابه من زقاق لزقاق، ومن زاوية لأخرى مطاردين العدو الصهيوني المحتل الغاشم في ملاحقات ومطاردات أقرب إلى الخيال، وما سلاحهم سوى حجارة، وكلما سقط منهم شهيد عاهدوه على الاستمرار والصمود” ويالعجب!! رأى شمساً منيرة- شمس المقاومة، تمتدّ في أرجاء الوطن العربي- لتكتسح البريق الآثم لآليات وسلاح العدو الذي يشهر في وجوه الأطفال والنساء والشيوخ والعزّل-فالرجال يقارعون العدو سلاحاً بسلاح، وعمليات استشهادية، وعبوات ناسفة- رأى بريقاً – من الأمل بقرب النّصر- يمتدّ ليضيء المقدسات، ليمحو الجدار، وليضع حدّاً لانتظار الأمهات الفلسطينيات إشفاقاً على آهاتهن- اللواتي يلدن أبناءهن وسط المعارك والنيران والحصار، يلدنهم للموت، ليعودوا إلى الحياة مرة أخرى- رأى شمساً تمتدّ كما طائر الفينيق الذي يولد في النّار، ولا يحترق، بل يتجدّد ويتجدّد”.(15)
والشهيد فضله كبير، قال الله تعالى:” ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألاّ خوف عليهم ولا هم يحزنون، يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأنّ الله لا يضيع أجر المؤمنين” صدق الله العظيم} آل عمران3: 169-171 { .وعن النبي- صلّى الله عليه وسلّم- :”ما من أحد يدخل الجنّة يحبّ أن يرجع إلى الدنيا ، وأنّ له ما على الأرض من شيء غير الشهيد، فإنّه يتمنّى أن يرجع، فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة”(16)
كم كانت لديه شهية قوية لأن يقتل أحدهم- المحتلين- الذين كانوا ينظرون إليه ولرفاقه” بلا رحمة، رآه يقترب منه ومن الأصدقاء، كان جسداً اعزل أمام دبابة مدرّعة، أطلق قدميه للريح المسممة بالغاز المسيل للدموع، ودلف سريعاً إلى الحارة القديمة، كانت دوح الإسلام، وعمر بن الخطاب- الخليفة العادل فاتح القدس- وصلاح الدين- محرّر القدس من الغزاة الصليبيين، والوليد بن عبد الملك-باني قبة الصخرة المشرفة- وسليمان القانوني- باني سورها- تسكنها”.(17)
وتبرز القاصّة أعمال الصهاينة المحتلين من مثل تغيير أسماء الأماكن والشوارع، علّها بذلك تنزع من ذاكرة الشعب الفلسطيني الارتباط بالأرض وبالمكان، وأنّى لهم ذلك، فهذا طفل الحجارة الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره تلتصق ذاكرته بالمكان “ذكرى الأصالة تفترعها، ولكن الشوارع المسمّاة بالعبرية والوجوه الغريبة التي كانت تطالعه من واجهات المحلات- التي استولى عليها العدو، وطرد أصحابها الأصليين- ذكّرته بلا رحمة بذلك الاحتلال الذي تفشّى حتى في أسماء الشوارع، واغتصب المحلات القديمة التي تنتشر على طول السوق القديم المرصوف بالحجارة القديمة”.(18)
هذه القيمة المكانية وصفاتها من مميزات العمارة الإسلامية، وتنتشر في معظم العواصم العربية من المغرب العربي في فاس، إلى قرطبة وغرناطة وإشبيلية إلى القاهرة ودمشق…إلخ. فهل يمكن لعدو غاصب أن يستلب من الذاكرة سحر المكان وجمالياته؟
والذاكرة الحيّة تربط المكان بالمقاومة المتصلة، ولذلك تذكّر عمّه صانع التحف الخشبية، الذي قطعت رجلاه من تعذيب الصهاينة له، وكيف أقسم على صناعة الأقدام الخشبية من أشجار الزيتون الرّومية المتجدّدة في حياتنا ” وأقسم على أنّه سيستخدمها ليذهب سيراً للصلاة في المسجد الأقصى بعد تحريره- التصميم والإرادة- ولكنّه مات قبل أن يبرّ بقسمه الدامي”. (19). وتذكّر (محيي الدين) لهذا الحدث الدّامي، يعني حمله لأمانة تحرير الأرض مهما طال الزّمن.
وحدث آخر يعيش في ذاكرته، ألا وهو سكنى المستوطنين الطابق العلوي من بيته، واحتلالهم لغرفته وغرفة أخيه نور الدين، وما كانوا يسببون من أذى، ولاسيما عندما ألقوا مادة حارقة على ساحة دارهم، فأصابت رقبة ابنة أخته الصغيرة.
حدث آخر جعله يصرّ على المقاومة، فاحتلال الصهاينة الغزاة للحارة القديمة، مما حدا به إلى أن يخرج بعيداً من بيته باحثاً عن الشّمس(الحرية)، وكان الجدار الفاصل قبالته، توقّف قبالته، توقّف للحظات شاخصاً فيه، وكان العدو يقترب منه، وهو مصمّم على مقاومته مع ثلة من أصدقائه الذين كانوا يردفونه بالحجارة، سلاحه الوحيد “مآذن الأقصى تدعوه بآذانها العذب إلى الاقتراب، وبدا له أنّ الجدار الفاصل أحقر من أن يوقفه، وبات العدو بكلّ جبروته وآلاته وموته أضعف من أن يسحق رغبة طفولته بالاقتراب من الجدار”.(20)
خطى خطوات متتابعة صوب الجدار، ركل أحد أبوابه الحديدية، سارعت طلقات العدو إلى جسده” رأى يديّ معلمه(رفيق) تمتدان إليه لتقوداه إلى طريق النّور-طريق الجنّة والخلود والجزاء- الشّمس تسطع في دنيا رفيق…أخيراً آن له أن يتمطّى قبالة عين الشّمس، سمع دبيب زغاريد أمّه يتمطّى في البعيد… والجدار لن يمنع الشمس التي لم تشرق بعد في القدس… وأسلم عينيه للنّور- إلالهي- وغاب”.(21) وهو مطمئن أنّه يسلم راية المقاومة لمن بعده، وأنّ اليهود يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنيين مصداقاً لقوله تعالى:” هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأوّل الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنّهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرّعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار “.صدق الله العظيم }الحشر:2:59 {
……………….. ***** ……………….
الهوامش:
- سناء الشعلان؛ مقامات الاحتراق، مجموعة قصصية؛ نادي الجسرة الثقافي والاجتماعي- الدوحة-قطر-ط1، 2006، ص44.
- نفسه، ص44.
- نفسه، ص44.
- نفسه، ص44.
- نفسه، ص44.
- نفسه، ص45.
- نفسه، ص45.
- البردين تثنية برد، وهي الصبح والعصر، لوقوعهما وقت برد الهواء وطيبه، وحثّ عليهما لأنهما وقت اجتماع الحفظة، ولأنّ الصبح وقت التثاقل والكسل من النّوم، والعصر وقت انهماك النّاس في طلب المعيشة، فمن جاهد نفسه ودنياه، وحافظ عليهما كان على غيرهما احفظ، ودخل الجنّة بغير عذاب، لحديث مسلم وإبي داوود:لن يلج النّار أحد صلّى قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها.
- الشيخ منصور علي ناصف من علماء الأزهر الشريف؛ التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول-صلى الله عليه وسلّم-هدية مجانية من جريدة صوت الأزهر، الجزء الأول، ص 128. والحديث للشيخين.
- لأنّه قبلة الأنبياء والأمم السالفة.
- التّاج، مرجع سابق، ص224، رواه الخمسة.
- مقامات الاحتراق، مرجع سابق، ص45.
- نفسه، ص46.
- نفسه، ص46.
- نفسه، ص47.
- التّاج؛ مرجع سابق، الجزء الرابع، ص333.
- مقامات الاحتراق، مرجع سابق، ص47.
- نفسه، ص47.
- نفسه، ص48.
- نفسه، ص 48-49.
- نفسه، ص49.