قصة: الكفن

Vol. No. 2, Issue No.1 - January-March 2022, ISSN: 2582-9254

0
1168
قصة: الكفن

قصة لـ: بريم تشاند *

ترجمة وتلخيص: د. قمر شعبان 

أستاذ مساعد، قسم اللغة العربية، كلية الآداب، جامعة بنارس الهندوسية، فارانسي، الهند.

q.shaban82@gmail.com 

——————————

كان الأب وابنه جالسين بالقرب من جمرات نار تكاد تنطفئ على باب الكوخ، وكَنَّتُه “بدهيا” تئن لمخاضها وتصرخ، وتطلق زفائر تبلغ منها قلوبهما الحناجر، وكانت الليلة جد قارسة، يسودها صمت رهيب، وتُخَيِّم القريةَ كلَّها دياجيرُ الحلكة.

كيسو (الأب): “يبدو أنها ستموت، لقد أمضت النهار بأكمله متململة، اذهب إليها وتحقق من حالها”

مادهو (ابنه) مكفهرّاً: “إذا كانت تموت فلتمت في أسرع ما يمكن، ماذا أتحقق منه”؟

كيسو: “أنت شقي جداً، لا تجوز لك هذه الغلظة إلى امرأة تمتعت من فضلها بلذة الحياة طوال السنة”.

مادهو: “لا أستطيع أن أراها متململة متأوهة”.

كانت هذه أسرة خصاف سيئة السمعة في القرية، إن عمل كيسو يوما استراح ثلاثة أيام، وكان مادهو كسولا جدا يعمل ساعة ويدّخن النارجيلة ساعة أخرى، فلا أحد يوظفه، وإذا وجدت في بيته حفنة من الحبوب استغنى عن العمل. وإذا احتاج إلى غَداءٍ أو عَشاءٍ صعد شجرة وقطع الحطب، وباعه في السوق، ثم يتيهان هنا وهناك عبثاً ما دامت الأقوات موجودة في المنزل. وإذا كان في حاجة إلى ما يتبلَّغان به، طفقا يبحثان عن عمل ما. وكانت فرص العمل متوفرة في القرية. فإنها قرية الفلاحين.

لا علاقة لهما بما يجري حولهما من مرور الدهر، يتصبران على الشتم والأذى. يقطفان الحبوب أو البطاطا من حقول الآخرين أم يقلعان قصب السكر ويمتصانه الليلة. لقد أمضى كيسو ستين حولا من ربيع عمره على هذا النمط من العيش الزهيد. واقتفى ابنه مادهو أثر أبيه في كل شيء، بل زاد الابن على الأب. وفي هذه اللحظة الحرجة أيضا هما منغمسان إلى شيِّ البطاطا التي سرقاها من حقول الآخرين. وزوجة كيسو ماتت منذ عهد قديم. وتزوج ابنه مادهو العام الماضي فقط. ومذ دخلت زوجته هذا المنزل أسست فيه المدنية. تحترف الحِرَفَ، وتكسب بعرق الجبين ما تقتات به هي نفسها، وتملأ به جهنم هذين اللعينين قليلي الحياء. وبمجيئها هذا المنزل زاد كلاهما كسلاً وتراخياً. والآن، هذه هي المرأة نفسها، التي تتململ للمخاض تململ السليم منذ الصباح. أما قليلا الحياء هذان، فهما في انتظار أن تموت في أسرع ما يمكن ليأخذا قسطا من راحة النوم.

كيسو مقشرا البطاطا المشوي: “اذهب وتأكد من حالها، ربما عَلِقَ الجنين”

ولم يكن مادهو أن يذهب إليها خوف أن يأكل أبوه كل ما تبقى من البطاطا.

“يُهيبني منظرُها”

“لِمَ تهاب؟ أنا هنا موجود”

“فلِمَ لاتذهب أنت”

“عندما ماتت زوجتي كنت بجوارها منذ ثلاثة أيام، ولم أفارقها لثانية، ربما هي ستخجل مني، لم أر وجهها حتى الآن قط، فكيف أرى جسمها الآن، وإن رأتني أمامها ربما سوف لاتحرك الأرجل والأيادي استحياءً”

“ترى، ماذا سنفعل إن أنجبت مولوداً؟ لا يوجد في المنزل شيء من الزنجبيل والسكر الأحمر والزيت”

” بإذن الرب، سوف يتوفر كل شيء بعد الإنجاب، فالذين لايؤتون شيئا الآن سوف يغدقون أموالاً من قريب إن أنجبت. كان لي تسعة أولاد، ولم يكن في البيت شيء، ولكن سرعان ما امتلأ البيت من المال هكذا.”

جلس كلاهما يتناولان البطاطا الحارة، منذ أمس لم يأكلا شيئا، فعيل صبرهما، ولم ينتظرا أن تبرد البطاطا، لقد احترق لساناهما مرة بعد أخرى. لم يُحِسَّا بسخونة البطاطا المشوية المقشَّرة من فوقها، ولكن عندما مضغاها مضغة واحدة لم يكن بد من سخونتها المفرطة إلا أن يبتلعا ها مباشرة، ويتركاها تبرد في أعماق البطون، على الرغم من أن أعينهما تذرف بالدموع لاحتراق اللسان.

بعدما فرغا من ابتلاع البطاطا، شربا الماء، وغرقا في النوم أمام الجمرات الملتهبة مفترشين على الإزار كأنهما فحلان ميتان سقطا على الأرض. وزوجته لاتزال تئن ألماً.

وفي الصباح، وجد مادهو أن زوجته لفظت أنفاسها الأخيرة. وصارت جثة هامدة. وهي شاخصة أبصارها، وتَطِنُّ فوقها الذباب. وقد تلطخ جسمها كله بالطين والتراب. ومات الجنين أيضا.

هرع مادهو إلى أبيه، وأخذا يصرخان وينوحان على الميت. أسرع إليهما الجيران يقدمون التعازي على وفاة الحامل.

كان عليهما الآن القيام بالتجهيز، وشراء الكفن، وتشييع الجنازة. ولكن لم يكن لديهما مما يشتري به الكفن.

ذهب الأب وابنه إلى الإقطاعيين مع دموع التماسيح، كانوا يكرهون رؤيتهما. وقد ضربوهما مرات، على السرقة، وعلى ترك العمل. سألوا:

“ما بك يا كيسو؟ لِمَ تبكي؟ لانراك. يبدو أنك لاتريد البقاء في القرية”.

كيسو مطاطأً رأسه نحو الأرض بعين تفيض دمعة: “سيدي فجعتُ برزيئة. لقد ماتت كَنَّتي البارحةَ، ولايوجد من يحضِّر لنا حتى خبز واحد، لقد هلكنا سيدي، وتحطم المنزل. أنا عبدك. ولايوجد من يعطينا من مال نجهز به الجنازة غيرك. لقد نفد ما كان لدينا من مال في العيادة والأدوية. ولايتسنى تجهيز الجنازة إلا من كرمك وفضلك.

كان الإقطاعي هذا سمحا كريما، فكر أولا أن يطرده، ويقول له اذهب ودع الجثة تتعفن في بيتك. إذا ما احتجتُ إليه لايجيب. وعندما احتاج إليَّ الآن يلين ويخضع ويداهن. ياقليل الحياء! يا أيها الشرير الأوباش! ولكن لم يكن هذا وقت الزعل والانتقام. فعلى الرغم من أنفه رمى إليه روبيتين. ولكنه لم ينبس ببنت شفة تعزية على الجنازة. ولم يلتفت إليه، كأنه خفف الثقل عن رأسه.”

عندما أعطاه إقطاعي القرية روبيتين، بدأ يتبرع له تجار القرية وأثرياؤها الآخرون: بعض بفلسين، والآخرون بأربعة فلوس، حتى صارت لديه في ساعة أو سويعة خمس روبيات. ثم أعطى البعض حبوبا، والبعض الآخر الحطب والخشب. واتجه كيسو وابنه عند الظهيرة إلى السوق لشراء الكفن.

كيسو (بعدما وصل إلى السوق): لقد حصلنا على ما يكفي لإحراق الجثة من الحطب والوقود، ما رأيك يا مادهو؟”

مادهو: “نعم، يكفي الوقود، والآن في حاجة إلى الكفن ولا غير.”

“إذن، سنشتري كفناً من نوع رخيص.”

“صحيح، سوف يجن الليل عند التجهيز، ومن يرى الكفن في الظلام الحالك.”

“ما أسوأ هذه التقاليدَ! من لم يكن لها حتى لباس خلِق في حياتها، يكتسي كفناً جديداً بعد وفاتها”.

“ثم الكفن يحترق مع الجثة”

“ياحبذا لوكانت لدينا هذه الروبيات الخمس لاشترينا لها الدواء”!

جعلا يتسكعان هنا وهناك في السوق، حتى غربت الشمس، إذا بهما أمام خمارة. دخلاها كأنهما على عهد بذلك. ظلا واقفين برهة، ثم أخذ كيسو زجاجة خمر، وحلاوى، وشرعا في الشرب في صالون الخمارة، وبعدما شربا أكوابا تلو أكواب، غلبتهما السكر والإغماء.

كيسو: “ماذا في الكفن؟ غير أنه سيحترق مع الجثة، ولن يرافقها إلى الفردوس”.

مادهو رافعا رأسه إلى السماء، لعله يناجي الملائكة، ويبرِّئ نفسه من ذلك: “ولكن كيف نواجه الناس يوم القيامة؟ ألا يسألون: أين الكفن؟

قهقه كيسو: “سوف نقول لهم: لقد ضيعنا الروبيات! لاندري أين سقطت؟!

قهقه مادهو أيضا، وتفوّه على هذه السعادة المفاجئة في هزيمة القدَر:

“طوبى لهذه المسكينة! ماتت، فملأتنا شِبَعاً ورِيّا”

شربا نصف الزجاجة، ثم طلب كيسو الأخباز المقلية، واللحوم المشوية، والإدام، والأكباد المفلفلة اللذيذة، والأسماك المقلية، وكان الدكان قدَّام الخمارة.  وذلك كله بروبية ونصف. ولم يتبق لديهما الآن غير فلوس معدودة.

وجلسا يتناولان في أبهة، كأن أسداً يتمتع بصيده، فتفلسف كيسو: تطيب أرواحنا! ألا تسعد بثوابه الميتة؟”

مادهو بكل تقدير وحب: بكل تأكيد! يا رب، أنت العليم الخبير، أدخلها الجنة، ندعو لها من أعماق قلوبنا. فالطعام الذي تمتعنا به اليوم لم نجد هذه المتعة طوال حياتنا.

وبعد هنيهة، فكر مادهو في شيء:

“ألا نذهب إلى هناك يوما ما؟”

فماذا نجيب؟ إن سألتنا زوجتي عن الكفن”.

كيسو: كيف تدري أنها لاتكفن؟ لستُ أبله! ولم أعش ستين حولا من حياتي سدىً! سوف تكفن بكل تأكيد. ويكون كفنها أفضل مما أردنا شراءه”.

ولكن مادهو لم يقتنع بذلك، فسأل ثانيةً:

“من سوف يشتري لها الكفن؟ ولقد أنفقتَ أنتَ الروبيات بأكملها.

كيسو وهو زعلان: “لقد قلتُ لك إنها ستكفن، وكفى”!

ثم انغمس الأب وابنه إلى الاستمتاع بكؤوس الخمر من جديد، وبعدما شبع كل منهما، أعطى مادهو ماتبقى من الأخباز المقلية متسولا يختلس النظر إليهما منذ طويل، وذاقا مرح الخمر للمرة الأولى.

كيسو للمتسوِّل: خذ هذا، وتمتع به كيفما شئت، وادع الرب للميتة، سوف تثاب هي بكل تأكيد. وادع لها من أعماق قلبك، فإنه من كسب عرق جبينها”

رفع مادهو رأسه إلى السماء قائلا: ” سوف تدخل زوجتي الفردوس الأعلى، وتكون مَلِكة الجنة!

وقف كيسو طرَباً: “نعم، سوف تدخل الفردوس، فإنها لم تؤذِ أحداً، ولم تظلم أحداً، وقد حققت أغلى أمنياتنا عند الموت، ألا تدخل هي الفردوس؟ هل يدخل الفردوسَ هؤلاء السمناء الذين ينهبون أموال الفقراء المستضعفين نهباً، ويغوصون نهر الغانج تكفيراً للسيئات، ويقدمون النذر والقرابين إلى الأصنام”.

مادهو: لقد تحملت زوجتي المسكينة أنواع العذاب في حياتها، وماتت أيضاً تحت وطأة الآلام والأوجاع”. واغرورقت عينا مادهو بالدموع.

كيسو: لِمَ تبكي يا بُنيَّ؟ طب خاطرك! أنها نجت من آلام الأرض، كانت سعيدة ومحظوظة أنها لبَّت نداء الرب. ثم وقفا يغنيان:

   وينك يا بعد روحي غبت وقلبي خفقان

آه بس آه لو تدري بغيابك ما كنت فرحان

وكان كل الموجودين في الخمارة يشاهدونهما، ولكنهما ظلا، دونما اكتراث بالحضور يغنيان ويرقصان، فركضا، ووثبا، وقفزا، وتمايلا، وأخيرا سقطا مغشيين على الأرض.

……………….. *****……………….

* كاتب وروائي وقاص هندي كبير، كتب باللغة الهندية واللغة الأردية.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here