قصة: الدَيْن وتسديدُه
قصة لـ: رابندرنات طاغور
ترجمة: د. محمود عالم الصديقي
أستاذ مساعد بقسم اللغة العربية وآدابها، جامعة كاشمير، سرينغر، الهند
————————————-
“نيروباما” اسم طفلة وُلِدَتْ بعد خمسة أولاد ليستقبلها أبواها بكل فخر واعتزاز بهذا الاسم، ولم يكن يُسْمَعْ بمثلُ هذا الإسم الفخم الرائع في الأسرة من قبل، لأن المولود عادة ما يسمى باسم أحد الآلهة مثل: “غنيش”، “كارتيك”، و”باروتي” وغيرها، وانقضت الأيام والشهور والسنوات وشبت “نيروباما” ليبدأ التساؤل حول زواجها، فشمَّر أبوها عن ساق الجد وبحث لها عن عريس مناسب، لكن جهوده لم تكلل بالنجاح إلا بعد تجشم العناء ليجد الابنَ الوحيدَ للسيد “راي بهادر” الذي نفذت أموال إرثه غير أنه يتمتع بالشرف والكرم، فطلب السيد “راي بهادر” من أب “نيروباما” عشرة آلاف روبية وهدايا إضافية أخرى في الدوطة ، ووافقه عليها “رام سندر” بدون تأخير، معتقدا أنه لا يجوز أن يفلت عريسا مثله، غير أنه لم يستطع جمع هذا المبلغ الكبير، فرهن بعض أملاكه وباع بعضا منها، وبعد كل هذه الجهود استطاع جمع ثلاثة أو أربعة آلاف روبية فقط، ومازال عليه أن يجمع ستة أو سبعة آلاف روبية، وبينما هو يحاول جمع الأموال المتطلبة للدوطة، اقترب موعد الزواج بسرعة فائقة.
حل يوم الزواج، وبالرغم من أن أحد معارفه كان قد وعده بأن يُقْرِضه مبلغ المال المتبقي عليه بمعدل فائدة مضاعف لكنه لم يوف بوعده، فحدث منظر هائج واستشاط “راي بهادر” غضبا، وسقط “رام سندر” عند قدميه متضرعا إليه ألا يكون نذير شؤم على ابنته وألا يلغي الزواج، وأصرَّ عليه بأنه سيقوم بدفع المبلغ الكامل للدوطة بأسرع وقت ممكن، فأجابه “راي بهادر” قائلا: يلزم عليك أن تدفع المبلغ إليَّ الآن، وإلّا لا يُحْضَرْ العريسُ هنا.
بكت نساء المنزل من الكارثة المفاجئة، والعروس جالسة في صمت مرتدية ثوب الزفاف الأحمر الحريري المزين بشتى أنواع الحلي المخصص للأفراح، وجبينها مزين بملصقات الصندل، لا يمكن القول بأنها كانت تشعر في ذلك الحين بالحب أو البغض بالاحترام أو الإزدراء لأسرة زوجها المحتمل، فيما العريس ثار فجأة على أبيه، وقال بصرامة: لا تعني لي هذه المقايضة والمساومة شيء، جئت هنا للزواج وسأتزوج على كل حال، قال أبوه ملتفتا إلى الحضور وقال: انظر يا سيدي: كيف يتعامل شُبّانَ اليوم. فأجابه بعض الشيوخ الموجودين هناك قائلين: إن هذه المعاملة السيئة قد نشأت فيهم لعدم تحليهم بالأخلاق الحسنة ولعدم حصولهم على تعاليم ساسترا. جلس “راي بهادر” قانطا برؤية الثمرة المسمَّمة للتعليم الحديث في ابنه.
تم عقد الزواج في جو حزين خال من الابتهاج والسرور، وقبل أن تغادر “نيروباما” إلى منزل حماها ضمها أبوها إلى صدره، وحاول أن يحبس دموعه لكنه لم يتمالك نفسه وهمرت الدموع من عيونه، في ذلك الحين قالت “نيروباما” متسائلة: يا أبت: هل يسمح لي حماي بزيارتك؟ قال أبوها: يا حبيبتي: ولماذا لا يسمح لكِ بزيارتي؟ أنا بنفسي سآتي لزيارتك واصحبك إلى منزلنا، فلا تقلقي يا حلوتي.
كثيرًا مَا كان يتردد “رام سندر” إلى منزل صهره لرؤية ابنته، لكنه لم يتلق احتراما مناسبا له في ذلك المنزل حتى الخدم كانوا ينظرون إليه بإزدراء، وربما قابل ابنته لخمس دقائق في غرفة الزيارة الخارجية المنفصلة، وأحيانًا لم يُسْمَحْ له مقابلتها، فَشقَّ عليه تلقي الإهانة في منزل قريبه، فقرر أن يقوم بدفع المبلغ الباقي إلى قريبه بأية طريقة، لكن- لسوء الحظ – عبء الديون أثقل كاهله وأصبح دينا لا يمكنه سداده فضلا عن دفع ما تبقى من المبلغ الكبير إلى حمِ ابنته، والحقيقة أن النفقات المنزلية اليومية هي الأخرى تحدِّق إليه بصورة مروعة، وبذلك لم يتمكن من سداد الديون السابقة، فأصبح يتجنب دائنيه.
كانت نيروباما تُعَامَلُ بقسوة في كل لحظة، وهي تُغلِقُ على نفسِها الجريحة بابَ غرفتها، وتبكي – ككفارة يومية على كومة الإهانات التي توجَّهُ إلى أسرتها على مسامعها، وكان سباب حماتها أكثر قسوة وغلظة، إذا قال شخص مشيرا إليها: “ما أجمل الفتاة أو العروس، تقر العين بالنظر إليها، تتفجر عليه طاعنة فيها: الجمال في الواقع يتواجد في أسرة الانسان التي ينتمي إليها. ونحن نعرف عنها وعن أسرتها جيِّدًا.” ولم تكتف بهذه الكلمات الطاعنة الجارحة للنفس، بل قامت بإهْمالها كل الإهمال. فلم توفِّر لها طعاما ولا شرابا ولا لباسا. وإن عَبَّرَتْ جارة من جاراتها عن قلقها ترد عليها حماتُها: إنها تحصل على أكثر مما ينبغي أن تحصل عليه، وتشير إليها: “لو دفع أبوها إليها المبلغ الكامل لتلقت العناية الكاملة”. عاملها كلُّ واحد من أهل زوجها معاملة سيئة لحدِّ أنها لم تتمتع بأي حق في البيت وشؤونه وقد دخلت فيه بخدعة.
من الطبيعي أن أخبار تجشم ابنته المصائب وتكبدها الآلام وتلقيها الإزدراء والاحتقار تناهت إلى أبيها “رام سندر” فقرَّر بيع منزله، ولكن لم يُفْشِ السر لأي أحد من أبنائه بأنه على وشك جعلهم مشردين، وفكر في نفسه أنه سيؤجر البيت بعد بيعه، وبهذه الخطة يتمكن من إخفاء السر عنهم، ولا يستطيعون معرفة الوضع الحقيقي حتى بعد موته. لكنهم عرفوا بذلك واحتجوا احتجاجًا شديدا على بيع البيت، خاصة الأبناء الكبار الثلاثة المتزوجون وأصحاب أولاد، فاحتجوا بشدة وعنف إلى أن أجبروا أباهم على وقف بيعه، ثم بدأ “رام سندر” يجمع مبالغ بأخذ قروض صغيرة من بعض معارفه بمعدل فائدة مرتفع ليتمكن من دفع المبلغ الباقي، فأخذ الكثير منها التي لم تكن كافية لسد الدين وأنفقها على المستلزمات المنزلية بدلا من دفعه للدوطة.
عندما جاء الأب لزيارتها فهمت “نيروباما” كل شيء من هيئة أبيها التعيسة: من شعره الشائب ووجهه الشاحب وسلوكه المضطرب، الذي لا يوحي إلا إلى فقره وشظف عيشه، وعندما يدع الأبُ ابنتَه تخذل، لايستطيع أن يُخْفِيَ وخز ضميره يحس به ويتألم منه، وكلما نجح في الحصول على إذْن مقابلة ابنته أو التحدث إليها للحظةٍ. يتجلى من ابتسامته كم هو منكسر الفؤاد وكئيب القلب ومنشغل البال، وكانت “نيروباما” تتحرق شوقا لتزور منزل أبيها لعدة أيام لتتمكن من تسلية أبيها. وهي تشعر بالخوف من الابتعاد عنه بعد أن رأت وجهه الكئيب، وفي يوم من الأيام قالت لأبيها “رام سندر” يا أبت: خذني إلى المنزل لعدة أيام، فيجيب “رام سندر” لا حرج في ذلك. ولكن لم يكن له قوة في أخذها إلى منزله، والحقيقة أن الحقوق الطبيعية التي يتمتع بها أب على ابنته وضعها في الرهن عوضا عن الدوطة، ولا يتمتع الآن بـي حق من حقوقه على ابنته إلا أن يتضرع إلى حماها لمقابلتها أو إلقاء نظرة واحدة عليها، تضرعا يوحي إلى عجزه، وإن لم يُسْمَحْ له بمقابلتها بمناسبة ما لا يتجرأ على المطالبة به مرة ثانية، وأن تتمنَّى ابنته بذاتها في زيارة بيتها الأبوي فكيف لا يَوَد أن يأتيَ بها إلى المنزل، ولكن بأية وسيلة؟
رأى رام سندر أنه من الأفضل أن لا تُحْكَى قصة الذل التي تكبدها في جمع ثلاثة آلاف روبية المحتاج إليها لذهابه إلى منزل حمو ابنته، فخرج من البيت قاصدا منزل نسيبه، بعد أنْ لفَّ ورقاتٍ نقديةً في منديل، رابطا بإحكام في أحد جوانب ردائه، وعندما وصل منزل قريبه، دار حوار بينهما عن “راي تشارن” وحول الأخبار المحلية، فوصف بتفاصيل سرقة جريئة وقعت في منزل “هري كرشنا”، وقارن بين مؤهلات السيد “نبين مادهو” والسيد “رادهو مادهو” وأخلاقهما، وقام بمدح السيد “رادهو مادهو” وبنقد السيد”نبين مادهو”، ثم تناول أسباب انتشار مرض جديد في المدينة، وقال في النهاية واضعا النارجيلة على جانب: نعم! نعم! أنا أعرف يا أخي حتى الآن في ذمتي بعض من نقودك، وأتذكره كل يوم، وأريد أن أجيئ إليك ببعض منها، ولكن تعترض أعمالي دون ذلك، فأنا أهرِم الآن يا صديقي، في نهاية هذا التمهيد الطويل قدَّم إليه ثلاث ورقات نقدية. في الحقيقة كانت هذه الورقات النقدية الثلاث بمثابة ثلاثة أضلاع له، برؤيتها انفجر “راي تشارن” في الضحك الغليظ الساخر، وقال له: لا تستطيع هذه الورقات النقدية الثلاث أن تفيدني في شيء: ثم أضاف قائلا: لا أريد أن ألطِّخ يديَّ و أُنتنَها بدون سبب.
بعد ذلك بدت المطالبة بأخذ “نيروباما” إلى بيته خارج الإمكان، بالرغم من ذلك فإن “رام سندر” فكر فيما يقوم به من الأعمال الحسنة التي تجعل نسيبَه لطيفا معه ويرضى عنه، ولاذ بالصمت لِلَحْظات طويلة، ثم كسر صمته خائضا في قضية مصاحبة ابنته إلى منزله، ولكن “راي بهادر أجاب قائلا: ليس الآن،” ثم غادر المكان لعمله بدون تقديم أي سبب، ثم أعاد “رام سندر” ربط الورقات النقدية الثلاث بيديه المرتعشة في جانب ردائه، وغادر إلى منزله دون مقابلة ابنته. فهو لم يتجرأ أن يقابلها، ثم صمم العزم على عدم زيارة منزل “راي بهادر” بعدها حتى يدفع إليه المبلغ كاملا، ثم يدعي لنفسه حقا على ابنته.
انقضت شهور عديدة، وأرسلت “نيروباما” إلي أبيها رسولا بعد رسول دون أن تلقى جوابا ولم يأتي إليها، في النهاية يئست منه واستاءت من سلوكه المهمل، وامتنعت عن إرسال رسول آخر، من جهة أخرى أبوها “رام سندر” كان يشعر بحزن وألم شديد لعدم قدرته تحقيق أمنية زيارة ابنته لمنزله ورغبة إقامتها معه لعدة أيام، لكنه بالرغم من ذلك لم يقم بزيارتها، وظلت الأيام تنقضي في هذا الاحتراق القلبي حتى جاء شهر “آسون” (الشهر البنغالي يجئ بين شهر سبتمبر وأكتوبر) وتعهد بنفسه أنه أيا كان الحال سيأتي بابنته إلى منزله بالمناسبة المباركة لحفلة عبادة “الأم درغا”.
في اليوم الخامس والسادس من منتصف حفلة عبادة “أم درغا” رَبَطَ “رام سندر” عدة ورقات نقدية في نهاية ردائه، وهمَّ بالخروج إلى منزل حمى ابنته، أثناءها جاء إليه حفيد له ذو الِخمس سنوات، وقال له: يا جدي: هل أنت ذاهب لشراء كارَّةٍ لي؟ منذ عدة أسابيع يخفق قلبه بشدة ليركب كارة متحركة، ولم يكن هناك من وسيلة ليحقق أمله، في ذلك الحين جاءت إليه حفيدة لِسِتّ سنوات، وقالت له بعيون دامعة: “ليس عندي لباس مناسب لأرتديه بمناسبة حفلة “عبادة أم درغا”. ويعرِف عنه “رام سندر” جيدا، فأطال التفكير فيه لوقت طويل كأنه يدخِّن النارجيلة، ثم تنفس الصعداء ليتفكر في نساء منزله اللاتي سيحضرن حفلة “عبادة “درغا” في منزل “راي بهادر” كمثل متسولات يتلقين الصدقات، لابسات ماكُنَّ يمتلكنه من الملابس القديمة والحلى التافهة، لكن تفكيره في هذا الشأن لم يهده إلى أية نتيجة، غير أن تفكيره في هذه القضية قد جعل تجاعيد جبينه أكثر عمقا.
مع دوي صرخات البكاء في منزله المصاب بالفقر قد وصل “رام سندر” إلى منزل “رام بهادر”. اليوم لا يشاهَدُ تذبذبٌ في مشيته ولا أثر للنظرات المضطربة التي دائما تهاجم عليه عند اقترابه من البوّاب والخُدَمِ، وبدا اليوم كأنه يدخل في منزله الخاص، وعندما دخل قيل له إن “راي بهادر” قد خرج من المنزل لعمل ما. لذلك يجب عليه أن ينتظره قليلا من الوقت، ولا يستطيع أن يسيطر على اشتياقه لمقابلة ابنته، ولمّا رآها سالت دموع الفرح على خديه، وبكى الأب والبنت معا دون أن ينبسا بكلمة واحدة لوقت قليل، ثم قال “رام سندر” كاسرًا لِصمته: هذه المرة سآخذكِ يا ابنتي الحبيبة إلى بيتي، والآن، لا شيء يستطيع أن يصدني من أخذكِ إلى منزلي.
في هذه الأثناء اقتحم ابنُ “رام سندر” الأكبر مع ابنيه الأصغرين الغرفةَ فجأة. وقال هاتفا: يا أبت: هل قرَّرْتَ حتما أن تطردَنا إلى الشوارع، احتدم “رام سندر غضبا من سماع كلام ابنه. وقال: هل أُحكم على نفسي نار الجهنم؟ ألا تدعني أفعل ما أراه صحيحا؟ في الحقيقة أنه باع منزله، وبذل كل ما بوسعه من المجهودات لإخفاء صفقة البيع عن أبنائه، وبدا من استيائه أن أبناءه قد اطلعوا على أمره، في هذا الوقت أمسك حفيدُه بقدميه، وقال له ناظرًا إليه: ياجدي ألا تشتري لي تلك الكارة؟ وعندما لم يجد جوابا من “رام سندر” الذي انقلب الآن خائب الأمل، اندفع إلى عمتها “نيروباما” وقال لها: هل أنتِ تشتري لي كارة؟
فهمت “نيروباما” كلَّ شيء بدون صعوبة، وقالت لأبيها: يا أبت أقسم بالله: أن لا تعط حماي مزيدا من النقود لا فلسا ولا مليما واحد أو لا تراني بعدها، فقال “رام سندر” ماذا تقولين يا طفلتي: إنْ لم أدفع نقود الدوطة يكن العار عليَّ إلى الأبد، ويكون عاركِ أيضًا، فاجابته قائلة: إن تدفع إليه النقود من الدوطة يكن العار والخزي أكبر منه، واستأنفت قائلة: هل تحسب ليس لي شرف في هذا المنزل؟ وهل تعتبرني مجرد حقيبة للنقود، وإن كثرة النقود في داخلها تزيد قيمتها؟ لا! يا أبت! لا تخجلني بدفع المزيد من النقود. ومهما يكن الأمر إن زوجي لا يطمع في الدوطة ولا يطلبها منك.
وقال “رام سندر” إذن هم لن يدعوكِ تأتين لزيارتي إلى منزلي، وهذه الخطوة لا تفيدكِ بشيء، فأجابت “نيروباما” إذن! لا تحاول من فضلك أن تأخذني إلى بيتك ولا تأت إليَّ بعد الآن،” جرَّ “رام سندر” بيديه المرتعشتين رداءه مع النقود المربوطة فيه، وغطى به كتفيه، وغادر المنزل بقدم خفيفة مثل سارق، متجنبا نظرة كل فرد من أفراد مصاهرته.
لم يعد سرا مجيء “رام سندر” بالنقود، ومنعِ ابنته له من تسليم النقود إلى حماها، بعدما سمع خادم فضولي من ثغرة مفتاح الباب ونقل المعلومات إلى حماة “نيروباما”، فتجاوز حقدها ضد “نيرباما” كل الحدود وبدأت تسيئ إليها إساءة حتى تحول البيت كله لها إلى فراش شوكي، وقد سافر زوجها إلى طرف من أطراف البلاد ليتلقى التدريب للقاضي النائب، وصدها أهل زوجها عن مقابلة أبويها وأفراد أسرتها مدَّعين بأنها تفسد أو تتمرد عند لقائها بأقربائها.
الآن سقطت “نيروباما” مريضة بصورة خطيرة، ولم تتحمل حماتها أي مسؤولية في تمريضها، وبدا أنها تهمل صحتها، وفي الليالي الشتْوية في موسم الخريف تنام مكشوفة الرأس عند الباب المفتوح، ولا تلبس ثيابا صوفية، ولا تأكل بانتظام، وربما ينسى الخدم الإتيان بطعامها، فلا تقول لهم شيئا لتذكيرهم بطعامها، و تعتبرها هي نفسها كخادمة في المنزل، فهي تعيش حياة شاقة معتمدة على عطيات سيدها وسيدتها، وتتخذ هذا الموقف تجاهها، فتقول ساخرة منها: “يا لهذه الأميرة الكبيرة: لا تحب طعاما لبيتنا الفقير، أو تقول أحيانا: ” انظر إليها: مثل العود المحترق في السواد.”
لما اشتد مرضها، قالت حماتها: إنها تتظاهر بالمرض وهي ليست أبدا مريضة، وفي النهاية قالت “نيروباما” ملتمسة “يا حماتي دعيني أقابل أبي وإخوتي ولو لمرة واحدة سأكون لك شاكرة طول الحياة. فردت إليها حماتها قائلة: لم يصبك شيء أنتِ فقط تتظاهرين بالمرض كحيلة للذهاب إلى منزل أبيك، وفي المساء بدا بما ليس فيه شك من أنها تحتضر ودُعِيَ الطبيبٌ إلى البيت لأول مرة، وكانت تلك أول وآخرَ مرةٍ قام فيها الطبيب بزيارتها، وماتت “نيروباما” الكَنَّةُ الكبرى في المنزل.
تمت تأدية مراسيم الجنازة بالأبهة اللائقة بسمعة الأسرة، كان أفراد أسرة “بهادر” مشهورين في المقاطعة بإبداء سخائهم في تعميد الآلهة في مناسبات أخرى كالحفلة الفاخرة لــ”عبادة درغا”، وهي الآن أي أسرة “راي بهادر” صارت مشهورة في المقاطعة بالسخاء الذي تم عرضه في إحراق جثة “نيروباما”، فلم يُرَ مثل هذه المَحْرَقةٍ الكبيرة بخشب الصندل من قبل، فبالكاد أنهت الأسرة تأديةَ مراسيم الجنازة حتى طارت الإشاعات المتعلقة بسخائها في المقاطعة وأن الأسرة قد دخلت تحت القروض الثقيلة التي أخذتها لأجل تأدية مراسيم الجنازة الفاخرة، ولمَّا قدم الناس إلى رام سندر “لتعزيته” على وفاة ابنته، وصفوا له وصفا شاملا للمحرقة الكبيرة من خشب الصندل وفخامة جنازة ابنته.
بينما وصلت رسالة من زوج نيروباما -الذي صار الآن القاضي النائب – إلى “راي بهادر” يقول فيها زوج نيروباما لأبيه: “إننى استعرتُ لنا منزلا مناسبا، واتخذت هنا الترتيبات اللازمة، من فضلكم ارسلوا زوجتي إليَّ في أسرع وقت ممكن”، فأجابت زوجة “راي بهادر” ابني الحبيب” قد اخترنا لك عروسًأ أخرى. فأرجو أن تأخذ الإجازة وأن تحضر المنزل في أسرع وقت ممكن، في هذه المرة مقدار مبلغ الدوطة عشرين ألف روبية، وقد دُفِعَ هذا المبلغ الكبير نقدًا.
……………….. ***** ……………….