قراءة في كتاب “فعل القراءة، نظرية جمالية التّجاوب (في الأدب)” لفولفغانغ إيزر[1]
(ترجمة وتعليق:د. حميد لحمداني، د. الجلالي الكدية)
بقلم: د. ابتهال كاظم أحمد الطائي
أستاذة جامعية – كلية التربية للبنات /جامعة الكوفة- العراق.
eibtihalaltaee@gmail.com
———————————-
يعدُّ كتاب (فعل القراءة، نظرية جمالية التجاوب (في الأدب) للناقد الألماني “لفولفغانغ إيزر”، واحداً من الكتب النقدية القيمة في الأدبي الحديث، ونُشر هذا الكتاب أول الأمر سنة 1976م في ألمانيا، ونقل عن طريق الترجمة والتلخيص من قبل المؤلف نفسه إلى الإنجليزية، وبعد ذلك ترجم إلى الفرنسية، وبعد استقرار الرأي على اعتماد الطبعة الإنجليزية ، تم تحديد الأجزاء الثلاثة المأخوذة على التوالي من الأقسام (1-3-4) من كتاب ” Act of Reading “، وقد أُعتمد في القراءة النسخة التي طبعت في عام 1987م، من مكتبة المناهل، للمترجمين (د. حميد لحمداني، د.الجلالي الكدية)، وعمد المترجمان إلى وضع بعض العناوين الفرعية، التي لم يكن قد وضعها المؤلف في كتابه الأصلي؛ وذلك لتسهيل مهمة القارئ العربي لتتبع تفاصيل أفكاره وتحليلاته.
فالكتاب جهد الباحث الرائد ” إيزر” وقد ترسخ العزم في هذا العمل عند (د.حميد لحمداني، ود.الجلالي الكدية) اثناء اللقاء المباشر بالمؤلف في ندوة (التلقي والتأويل) التي نظمتها كلية الآداب بالرباط ومؤسسة كونراد أديناور، وجرت أعمالُها بمدينة مراكش في عام 1993م، حينها ذكر” إيزر” أنه كتب بنفسه خلاصة مركزة عن نظريته باللغة الإنكليزية وقد مزج فيها بين التلخيص والترجمة الحرة لأفكاره الخاصة، فجاءت هذه الخلاصة في شكل كتاب متعدد الفصول عنوانه (فعل القراءة: نظرية جمالية التجاوب)، ويمكن أن يندرج هذا الموضوع في حقل التجارب الأدبية والنقدية الحديثة، فضلاً عن العلوم الاجتماعية والنفسية…
ويعود سبب ترجمة هذا الكتاب إلى العربية هو تولّد الحاجة للوقوف على (جمالية التلقي أو نظرية جمالية التجاوب) في العالم العربي؛ لأنها وإن وجدت فهي مبثوثة في مقالات متفارقة هنا وهناك ولم تجد النصوص الأصلية بعد انطلاقتها الحقيقية، ولم توجد ترجمة من الأصول المباشرة تُحاول أن تغطي على الأقل اتجاهاً أساسياً في “جمالية التجاوب” بشكل خاص.
وقد جاء كتاب(فعل القراءة) في: تقديم للمترجمين، وتعريف موجز بالمؤلف، وثلاثة فصول أو ما سمّاها المترجمان بالأقسام الثلاثة، فالجزء الأول أو ما يعرف بالقسم الأول: عنوانه (المبادئ الأولية لنظرية جمالية التجاوب)، ويهتم هذا الفصل (بالمنظور الموجه نحو القارئ والاعتراضات التقليدية، القراء ومفهوم القارئ الضمني، ونظريات التحليل النفسي للتجاوب الأدبي)، ليضمّ تحتها محاور أضافها المترجمان ووضعها بين قوسين معقوفين }…{ وعدوها عناوين فرعية، وقد أكد هذا الفصل بأن النص الأدبي بالفعل لا يمكن أن يكون له معنى إلاّ عندما يُقرأ، وبهذا فإن القراءة تصبح شرطاً أساسياً مُسبقاً لكل تأويل أدبي، وعليه النظر في مهمة المؤول في ضوء المعطيات النظرية الجديدة لعملية القراءة.
وتحدّث في هذا القسم عن (القارئ الضمني) وهو قارئ يخلقه النص لنفسه، أو قل المؤلف عندما يرى ضرورة مراجعة ما كتبه، فيغير هذه الكلمة أو تلك، والمؤلف بناء على هذا هو أول قارئ لنصه، لذا فإن الكتابة تتضمن القراءة لازماً منطقياً لها، وتعاون المؤلف والقارئ الموجود فيه، هو الذي يخرج الأثر إلى الوجود، بمعنى: إن النص ينطوي في بنياته الأساسية على متلقٍ افترضه المؤلف بصورة لا شعورية، وهو متضمن في النص، في شكله وتوجهاته وأسلوبه، وهذه الفكرة جعلت القارئ الحقيقي معنياً بتلمس المفاتيح الموجهة إلى القارئ الضمني، وتوظيفها بوصفها آليات خاصة به، من الممكن أن يستثمرها في تأويل معنى الوصول إلى مقاصد النص.
أما الجزء الثاني أو ما يعرف بالقسم الثاني، عنوانه ( استيعاب النص) وقد ضمّ محاور رئيسة (التفاعل بين النص والقارئ، وجهة النظر الجوالة، الترابطات الناتجة عن وجهة النظر الجوالة، النص كحدث، الاندماج كشرط التجربة)، وبين اثناء هذه المحاور عناوين فرعية، فعُدَّ هذا الفصل تقني دقيق، على درجة عالية من التجريد، ونقل جميع الأفكار إلى أرضية ملموسة من واقع النصوص الأدبية، وقد ذكر المترجمان مادام النص الأدبي يجاوز ذاته إلى شيء آخر غير ما هو عليه فإن مفهوم القراءة كمشاركة يفرض نفسه بالضرورة، وأهم مصطلح يعالج في هذا الفصل هو المتعلق بمفهوم ( وجهة النظر الجوالة)، وهو دليل أن القارئ مرغم على القراءة التدريجية؛ بحكم أن النص الأدبي لا يمكن أن يقرأ دفعة واحدة وفي آن واحد، لذا فأنه مجبر أن يندمج في بنيات النص ويُعدّل كل لحظة مخزون ذاكرته في ضوء كل قراءة جديدة، وقد بين أن غاية وجهة النظر الجوالة للقارئ هي بلوغ (التأويل المتسق، أو الجشطالت)، وبذلك لا يمكن استنفاد المعاني، لأن بحرها لا يحد، فالقراءة تسبر بعض أغوارها النفسية والذهنية، وتكسر آلية الإدراك، لانفتاح النص التخيلي وحريته في انطلاقاته، فيكون الوهم مظهراً من مظاهر الجشطالت الذي يستغله النص الأدبي من أجل بناء الترابطات في وعي القارئ.
وبذلك فإن القارئ يؤسس وهماً ما انطلاقاً من تفاعله واشتغاله على البنيات الأساسية للمنظور الجملي باعتبارها معطيات نصية، ويقوم ذلك على النظرة الجوالة للقارئ بين التذكر والترقب، وهذه العملية تتكرر أثناء فعل القراءة مرات عديدة وهي الصورة التي تبين كيف يجرب القارئ النص كحدث حي .
وقد أفرد الجزء الثالث والأخير بـ (اللاتماثل بين النص والقارئ)، ضمّ تحته أيضاً محاور رئيسة تمثلت بـ ( شروط التفاعل، مفهوم اللاتحديد عند إنكاردن)، فضلاً عن العناوين الفرعية، فاللاتماثل في نظر” إيزر” شرط التفاعل بين النص والقارئ، مُستفيداً من أبحاث علم النفس الاجتماعي لتوضيح أفكاره، التي تقوم على التفاعل بين شخصين عندما يجهل كل واحد منهما هوية الآخر، فجميع العلاقات هنا تبنى على ” اللاشىء” أي أنها تُبنى على ملء فراغ مركزي في تجاربنا، باعتماد التأويل في العلاقة مع الآخر، وقد بيَّن المؤلف أن الفرق الأساسي بين العلاقات الاجتماعية للأفراد والعلاقة بين النص والقارئ هو غياب (أرضية للمقارنة) في علاقة يمكن الاحتكام إليها.
وبذلك فإن هذه الحالة تؤجج التفاعل بين النص والقارئ، وتزيد درجة التأويل والوهم، لتظهر تلك المصطلحات فتفرض نفسها: ( اللاتحديد، اللاشىء، البياض، الفراغ)، فهذه الشروط تكيف عملية التفاعل النص والقارئ وتراقبها.
إذن، فإن كتاب” إيزر” الذي تُرجم إلى العربية، لاسيما فصوله الأكثر أهمية، هو خاص بجمالية التجارب، وهو أكثر تحديداً، ليظهر أهمية التفاعل التي لا يفي بها لفظ التلقي مثلما يحصل ذلك مع لفظ التجاوب، وعندها تصبح البنية الذهنية للقارئ أثناء القراءة جزءاً لا ينفصل عن بنية النص نفسه، وكل معنى ناتج عن التفاعل التجاوبي هو نتاج جديد لا يطابق النص ولا القارئ، إنه حصيلة اندماج معطيات البنية الذهنية وتفاعلها مع بنية النص.
لذا فالحاجة الأساسية لمثل هذه النظريات الجديدة في العالم العربي كانت شديدة الإلحاح؛ لأن تاريخ النقد الأدبي أيضاً تركزت فيه كثيراً سلطة المؤلف إلى الحد الذي جعل النقاد يعتبرون النصوص كمستودعات للمعاني، وإن القراءة ليست شيئاً آخر سوى فعل إفراغ هذه المستودعات من محتواها وإعلانه للآخرين، وإن الاختلاف بالقراءة والتأويل، وفي ذلك النطاق يتضح التأويل الصحيح والتأويل الخاطئ، فالأول مطابق للمدلول ” الحقيقي” للنص، والثاني مجانب للحقيقة.
وانطلق ” إيزر” من أن لا يُنظر في نظرية جمالية التجاوب إلى النصوص الأدبية كبنياتٍ تقدّم المعنى جاهزاً للقارئ، فقد أكّد على ضرورة الربط بين الواقع والتلقي، لأن التلقي منتوج ينشئه النص في القارئ، وبذلك كان له فضلاً لما حصلت عليها العربية من أمور لم تكن توليها اهتماماً كبيراً بنفس الحدة ومن نفس الزاوية المعرفية التي نظر بها لهذا الموضوع، مستفيداً في الوقت نفسه من التطور الحاصل في مجالات علمية متعددة، منها اللسانية والنفسية والاجتماعية، وهي تنطلق من اسئلة تتعلق بـ(موقع دور القارئ في عملية القراءة؟ وظيفة النص في حد ذاته؟ دلالة التفاعل بين النص والقارئ، كيف يصنع القارئ المعنى في سياق هذا التفاعل؟ الحدود بين الحقيقة والتأويل والهم في مجموع هذه العملية؟ وماهي شروط عملية التفاعل ذاتها؟….).
وصولاً إلى القضية التي تزعم أن التلقي ليس منهجاً جديداً في القراءة ، بقدر ما هو إضافة للجهد التأويلي الذي بدأ منذ أن قرأ الإنسان النصوص وتورط في تأويلها، فإن نظرية التلقي مؤسسة على مجموعة من المفاهيم التي تحاول أن تجيب على اسئلة، فهناك من يرفع من شأن القارئ ربما على حساب النص، وبما أن التلقي ما هو إلا تأويل للنصوص لآفاق تلقيه؛ فإن مفهوم التلقي عند ” إيزر” يستلزم تيارين أساسين من التفكير، يمكن تمييز أحدهما عن الآخر، رغم تداخلهما، فالتلقي يركز على السيرورة التوثيقية للنصوص، ويرتبط أساساً بردود الأفعال والمواقف التي تكيّف استجابات القارئ، ولكن النص نفسه شكل مسبق لتلك الاستجابات.
فالتلقي عند” إيزر” شكل من أشكال التأويل، وهو مأخوذ من (انكاردن) الذي يستعمل (مواقع اللاتحديد) في المقام الأول، وإن دور إعطاء انطلاقة تحقق النص؛ كي يميز بين الموضوع القصدي (أي العمل الفني)ونماذج أخرى من الموضوعات، ليُطلق على هذه الطريقة في قراءة النص (تلقياً)، وبذلك فالقارئ الضمني أو الفراغات التي يتحدث عنها ” إيزر” تحيلنا إلى (الدائرة التأويلية) التي وجدت قبل وجود ” إيزر”، ومع ذلك فإن هذا (التنافر) شرط اساسي للتواصل في الأدب الحديث، ومن ثم يستطيع نقاش (إنكاردن) تفسيره، وبهذا فإنه يبين النقائض الواضحة لمفهومه: (مواقع اللاتحديد)، وهي تعمل على التمييز بين الموضوع القصدي، وأنواع أخرى من الموضوعات، فبالنسبة لـ(إنكاردن),فإن مقولات التقمص، أو مقولات النظرية الانفعالية تحفز على التوالي، الربط بين النص والقارئ، ويلتقي تطور هذا الربط مع إنتاج الموضوع الجمالي باعتباره بنية منسجمة، وإن إنجاز (إنكاردن) يكمن من خلال فكرة التحقق قد تحرر من النظرة التقليدية للفن باعتباره مجرد تمثيل، ولم يكن التحقق بالنسبة لإنكاردن تفاعلا بين النص والقارئ، بل كان مجرد تحيين للعناصر الكامنة في العمل، ولهذا السبب لا تؤدي (مواقع اللاتحديد)عنده إلى إتمام غير دينامي في مقابل عملية دينامية، حيث يُلزم القارئ بالانتقال من منظور نصي إلى آخر.
ولما كانت عملية القراءة مماثلة للسير الفكري، فإن أفق التوقع وأفق الانتظار: هما بمثابة محطات سيرية في النص تثير حوافز مختلفة في ذهنية المتلقي، فالأول يثير توقعاً لما سيحدث، لتغدو العملية البلاغية متكاملة في استقطاب كل أطرافها الجمالية والخيالية والآفاقية، بما يعطى الأدبي قيمته الفنية، تفاعلاً وتواصلاً.
وبذلك فإن ” فولفغانغ إيزر” كان موفقاً في تحديد آليات والمبادئ الأولية لنظرية جمالية التجاوب، باستيعاب النص، وبالتفاعل بين النص والقارئ، ومن خلال وجهة النظر الجوالة، وخصوصية اللاتماثل بين النص والقارئ بحسب شروط التفاعل، فضلاً عن التفاعل في علم النفس الاجتماعي، وكيفية التواصل من منظور التّحليل النفسي، وعملية اللاتحديد لإنكاردن.
……………….. ***** ……………….
[1](فولفغانغ إيزر): ولد في سنة 1929م، في المانيا، درس اللغة الانكليزية والفلسفة واللغة الالمانية، اشتغل بالتدريس في عدة جامعات داخل المانيا وخارجها، وهو عضو بأكاديمية “هيدابورغ” الفنون والعلوم وبالجمعية الانجليزية للأدب المقارن وبالأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم، وعضو بالأكاديمية الأوربية، وهو مؤسس للجنة وحدة البحث المسماة ” الشعرية والهيرمينوطيقا “، وعضو في مجالات أخرى عديدة، وله عدة مؤلفات أهمها: القارىء الضمني، وفعل القراءة، التوقع، والتخييلي والخيالي”.