قراءةٌ  وصفيَّة  في كتابِ: “الأثر القُرآني في نهج البلاغة: دراسة في الشّكل والمضمون

Vol. No. 3, Issue No.1&2 - Jan-Jun 2023, ISSN: 2582-9254

0
47

قراءةٌ  وصفيَّة  في كتابِ: “الأثر القُرآني في نهج البلاغة: دراسة في الشّكل والمضمون

بقلم: د إيمان كريم جبّار الحريزيّ

جامعة الكوفة /كليّة التّربية للبنات.

—————————

المُقدِّمة:

الحمدُ للهِ الكريم المنَّان، الرَّحيم الرَّحمن، ذي الطَّولِ والإحسان، الـَّذي علَّم بالقرآن  والصَّلاة ُ والسَّلامُ  على سيِّد الرُّسُلِ النَّبيِّ العدنان، صاحبِ المقام المحمود بأشرفِ مكان، المُرسَل بالرِّحمةِ والهِداية إلى الإنـسِ والجـانِ وعلى آله  الطَّيبين  الطاهرين، وبعدُ.

فقد خصَّنا الإله بأرفع العُلوم وأنفع المآرب الَّتي مِنْ بينها علوم القرآن الكريم، وانطلاقًا من قول الإمام الحُسين عليه السَّلام “دراسةُ العلمِ لِقاحُ المعرِفة” نُسلِّط الضوءَ على سِفرٍ مُنيف وزبرٍ شريف اجتهدَ المؤلِّفُ الفاضِل في تنسيقه وتهذيبه وجمعه وترتيبه على نسقٍ حَسَنٍ، وطريقٍ بديع، وطرازٍ رائع فرتَّبه على بابين في كلّ بابٍ ثلاثة فصول مسبوقة بمُقدّمة وتمهيدٍ ومتبوعة بخاتمةٍ، فكان جامعًا لمقدار ٍ وافٍ من كلامِ أمير المؤمنين (عليه السَّلام) مُبيّنًا  أثر القرآن الكريم فيها، و صارَ  بحقٍّ  دراسة علميَّة شاملة موجِزة ينطبق مضمونها على العنوان، وهو كتابُ  الأثر القُرآني في نهج البلاغة دراسة في الشّكل والمضمون للمُؤلِّف الأستاذ الدكتور  عبّاس عليّ حسين الفحّام، مِن منشورات دار الرافدين، بيروت /لبنان  في العامِ 2010م، وهو عملٌ علميّ مُكوّن من(543)صحيفة في مدّة إنجاز بلغتْ ثلاثة أعوام ونَيف.

ومن أهمّ  النتائج التي خلُصت إليها الدِّراسة ، أنّدراسة أثر نهج البلاغة في الأدب العربي بوصفه أول نتاج بشري متأثّر تأثّرًا مباشرًا ومُبكرًا بأساليب التّعبير القرآني والممهّد للتـأثير القرآني في الأدب والميسِّر للفهم الواعي لأساليب التّعبير القرآني. فقد بدا  من تلك الرّحلة أنّ كثيرًا من الشعراء والخطبـاء قـد نـهـلـوا مـن صـور وصياغات ومعاني نهج البلاغة، فضلا عن كونه سبيلا مهّد للمبدعين محاولة التوفيـق بـين الصّنعة والطبع على الطريقة القرآنيّة بمعنى إقامة الصياغة الفنيّة البديعيـّة من دونإخلال بالمعنى وقهره على اللفظ.
وأوصت الدراسة بإدخال كتاب (نهج البلاغـة) مـادة أساسيّة في الدراسات الأكاديميّة الأوليّة والعليا وبمراتب متفاوتة لما له من أثر بالغ في صقل اللّسان وصـونـه عـن اللّحن ناهيك عمّا حفل من معـان سـامية تزيـد في النّفس همّتهـا وتبعـث فيها الحماسة والشهامة والفضيلة.  كما أنّ تسليط الضوء على المأثور الإنساني المشترك الذي انطـوت عـليـه كـلـمات الإمام علي  (رضي الله عنه) في نهج البلاغة، ففيه إعلاء لقيمة الإنسان وهو معنى ظلّت تبحـث عنه الإنسانية عبر تاريخها المرير حتى وقتنا الحاضر، فنهج البلاغة فيه مـن الثـراء الإنساني ما يتيح له أن يجمع بني الإنسان من كلّ مشاربهم وطوائفهم تحت ظلّه ينهلون من معينه ويقتبسون من نوره. وهو – لاشك – أمر عجـزت عـن تحقيقه كلّ فلسفات الأرض.

المطلب الأوّل: عرضٌ  وصفيّ موجِز للكتاب
التَّمهيد:  ملامح الأثر والتّأثر بـالـقـُرآن في نهج البلاغة.
البابالأوّل
الأثـر الـقـرآني في نهج البلاغـة ( الشـكـل )

الفصل الأوّل:  الألفاظ والبناء الجُملي.
الكلمة المفردة

أولا: الاختيار
1ـ الدِّقة
2ـ الألفاظ المـُوحـيـة
ثانياً ـ الاقتباس
ثالثاً: النقل
التركيب الجُملي

 أولا: إعادة صياغة الجُملة القرآنيّة:

ثانياً: بناء الجمل القصيرة والطويلة: أ- ركائز بناء الجملة القصيرة:
1ـ التّقديم والتّأخير:  الأول: التّقديم بين جزئي الجملة:
الثّاني:  التّقديم في المتعلّقات:
۲ـ الحذف
٣الاستفهام

 4ـ الأمر
ب – ركائز بناء الجملة الطويلة:
1جملة الشّرط
٢جملة (إن(
3ـ جملة النّداء
4ـ جملة القسم
الفصل الثّاني:  الأداء الـــــــبـيـاني

 أولا: الاستعمال المجازي: التّعريف بالمجاز والمجاز القرآني:
أنواع المجاز القرآني في نهج البلاغة: 1 ـ المجاز في المفرد (المرسل): ٢ـالمجازفيالتركيب (العقلي)
ثانيا: البعد التّشبيهي: التعريف بالتشبيه عند البلاغيين: ظواهر من التّأثير القرآني في نهج البلاغة:
1ـ صيغ المثل القرآني وتأثر نهج البلاغة بصورها: ٢ـاللوحاتالتّشبيهية بين القرآن ونهج البلاغة:  3 ـ التّشبيهات المفردة في ضوء القرآن ونهج البلاغة: ثالثاً: الـتـّركـيـب الاستعـاري: التّعريف بالاستعارة:
ظواهر من التّأثير القرآني في استعارات نهج البلاغة:
1- التّوليد:
استعارات (الليل والنهار)
استعارات (الحق والباطل)

2ظاهرة التّشخيص
٣الاستعارة التمثيليّة
رابعاً: الملحظ الكنائي
التّعريف بالكناية:
من آثار الكناية القرآنيّة في نهج البلاغة:

۱جدّة الكناية القرآنيّة:
۲تصويرحالاتالنّفس الإنسانيّة:
الفصل الثّالث: جرس الألفاظ
آليات الجرس:
الأوّل: السّجع:
تعريفه وقيمته الموسيقيّة:
الثّاني: التّكرار:
أنماط التّكرار:
۱ـ تكرار الحرف:
۲ـ تكرار اللفظة:
الثّالث: الجناس
توطئة:
أنواع الجناس القرآني في نهج البلاغة:
1ـ الجناس التّام:
۲ـ الجناس النّاقص:
۳۔جناسالتّصحيف:
4-جناس التّحريف:
5-الجناس المضارع:
٦جناس الاشتقاق:
7الجناس المعكوس:
الرابع:  التوازن:
۱ـ تعريفه وأثره في إحداث النّغم القرآني: ۲۔وسائلالإمامعلي (عليه السّلام)فيطلبالتّوازن:

الباب الثّاني
الأثر القرآني في نهج البلاغـة ( المضـمـون)

الفصل الأوّل:  مجالات الأثر القرآني في نهج البلاغة
۱ـ تعظيم الله وتنزيه الباري:
أـ التوحيد:
ب ـ الولادة، واتخاذ الأبناء:
ج – التحميد .
د ـ أسماء الله الحسنى وصفات أفعاله سبحانه:
۲عالم الحياة والموت:
أ ـ الدنيا وزينتها:
ب ـ بيع الآخرة بالحياة الدنيا وبالعكس:
۳ـ خلق الإنسان والـكـون:
٤الجهاد في سبيل الله:

5ـ الـدعـوة إلى الـتقـوى:
الفصل الثّاني:  الشّـاهـد القرآني في نهج البلاغة
أولا: أسلوب الإمام في استعمال الـشـّاهـد الـقـرآني:

 1ـ التّصريح بنسبة الشاهد:
۲ـ عدم التّصريح بنسبة الشاهد
3التّذييل:
ثانيا: توظيف الشّاهد القرآني
1إصلاح الذّات وتهذيب النّفس:
٢التّرغيب والتّرهيب:
3-الوظيفة العباديّة:

4-الاحتجاج
5-الوظيفة العقليّة

المطلب الثاني:  مقاربة في بيان ألفاظ القرآن الكريم وصفاته
جاءت لفظة ( القرآن ) في نهج البلاغة أكثر من( أربعين) مرة  في حين جـاءت ألفاظ أسمائه وصفاته مستلّة من الفهم الواعي للنصِّ القرآني، بمعنى إنّ  فهـم اللفظة القرآنيّة المقتبسة ينبع من داخل السياق القرآني نفسه قال الإمام علي (رضي الله عنه): «الحمدُ لله الذي جعل الحمد مفتاحـاً لذكره»[1]
والذكر هو القـرآن الكـريـم كما جاء في قوله تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» (ابراهيم/7)، وقوله تعالى: “ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ “(ص/1)
والإمام علي رضي الله عنه إنّما جعل الحمد مفتاحا للذكر ؛لأنّ أول كتاب الله تعالى قولـه:  « الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ” (سورة الحمد/1) وهذه إضافات قرآنيّة للمعنى، أمّا المعنى الأولي فيمكن أن يستفاد منه أنّ الحمد يسبق ذكر الله مطلقا، فإنّك تذكر الله تعالى ولكن بعد حمده. وفي موضع آخر قال علي(رضي الله عنه) يصف القرآن: أفيضوا في ذكر الله فإنّـه أحسن الـذكروتعلّموا القرآن فإنـّه أحسن الحديث واستشفوا بنـوره فإنـّه شـفـاء الـصدور وأحسنوا تلاوته فإنـّه أنفع القصص»[2]فقد جاءت أسماء القرآن العظيم وصـفاته مستلّة مـن آيـات عـدّة اقتبسها علي (رضي الله عنه) من مواضع مختلفة من القرآن وضمّنها كلامه . فقوله: (ذكر الله)،مأخوذ من القرآن إذ وصف كثيرًا بالذكر . وقوله: (شفاء الصدور) اقتباس من الفهم القرآني في قولـه تعـالى لـوصـف القرآن:) قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ” (يونس/57) «، وقد تكرر هذا المعنى عنـد الإمامعلي رضي الله عنه  في مواضـع عـدّة مـن كلامه إلخ كقوله: «فاستشفوه من أدوائكم، واستعينوا به على لإوائكم فـإن فيـه شـفـاء ” وسمّي القرآن بالقصص اتباعا لما ورد في القرآن من قوله تعالى:” نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ”(يوسف/3).ولاستشعار الإمام  بثقل تكرار (أحسن) عدل عنها إلى (أنفع) . وفي لفظة (تلاوة) مثلٌ آخر للألفاظ القرآنية التي اختصّ بها القرآن. ويقول الإمام  علي (رضي الله عنه): “انتفعوا ببيان الله واتعظوا بمواعظ الله»[3] . فلفظة( بيان) مأخوذة من قوله تعالى: “هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ” (آل عمران/138)ولحرص الإمام علي رضي الله عنه على اقتباس اللفظة مع ما يحيطها من جاراتها جاء قوله: )اتعظوا بمواعظ الله) موافقا لما ورد في قوله تعالى: (وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) . وقال الإمامعلي (رضي الله عنه):  «إن الله بعث رسولا هادياً بكتاب ناطق وأمـر قـائـم»[4]وقوله: (الكتـاب النـاطق) مأخوذ مـن قـولـه تعـالى:” وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ” (المؤمنون/62) ,والأمثلة على ذلك كثيرة جدًّا  نكتفي بهذا القدر على سبيل التمثيل لا الحصر.

المطلب الثّالث: عرضٌ تحليليّ لأنموذجين من الكتاب

النموذج الأوّل: اقتباس الاستعمال القرآني للألفاظ:

نزل القرآن الكريم بألفاظ لغة العرب فتشرَّفت باختيار القرآن لهـا، ولكـن الاستعمال القرآني لها في أداء المعنى الإسلامي الجديد جعلها تبدو في حلّة أبهى؛إذ أكسبها نضارة وبعث فيها حياة جديدة، وما يفرقها عن الألفاظ الخالصة النسبة للقرآن  أنّ الأولى أصبحت بعد نقل مـدلولها الجاهلي وتطـويره اصطلاحيّة  إسلاميّة. أما الثانية فهي قرآنية الاستعمال ونسبتها إلى القرآن نسبة استعمال. وتخيّر القرآن لها هو الذي لفت النظر إليها فوهبها زخما كبيرا من الحيـاة ,بـل حفظها غضّة طريّة.وقد اقتبس الإمامعلي (رضي الله عنه)  هذا الاستعمال القرآني للألفاظ  – دون غيره – بنفس الدلالة القرآنية التي جاءت في سياق النصّ. وهي كثيرة جدًّا في كلام الإمام علي (رضي الله عنه) قال الإمام علي (رضي الله عنه)  في التوحيد: “فمِن شواهِد خلقِه خلقُ السّماوات مُوطَّدات بلا عمدٍ، قائماتٍ بلا سندٍ دعاهُنّ فأجبنَ طائعاتٍ مذعناتٍ، غيرَ متلكِّئاتٍ ولا مُبطئاتٍ، ولو لا إقرارهُنَّ له ُ بالرّبوبيّة، و اذعانهنَّ بالطَّواعيةِ، لما جعلهنّ موضعاً لعرشه ولا مسكنًا لملائكتهِ ولا مصعدًا لِلكلمِ الطيِّب والعملِ الصَّالح مِن خَلْقهِ»[5]

ففي هذه الفقرات ثمة اقتباسات لألفاظ القرآن مثل (عمد، الكلم الطيب، العمل الصالح، موطدات) وكلها من القرآن، قـال تـعـالى: “خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ” (لقمان/10) وقال تعالى: « إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ” (فاطر/10)وأخذ الإمام علي (رضي الله عنه)لفظة (التناوش) فقال يصف أهل القبور:” لقد استخلَوا منهم أي مُدَّكِر وتناوشوُهُم من مكانٍ بعيـد”[6]، أي ذكـروا من مضى من آبائهم، والتناوش من قوله تعالى:” وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ” (سبأ/52). واقتبس لفظة (طوبى) فقال :  «فطوبى لِذي قلبٍ سليم»[7] وكلها من ألفاظ القرآن فـ( طوبى) مـن قـولـه تعـالـى: ” الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ ” (الرعد/29). ولفظة (قلب سليم) من قوله تعالى: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ” (الشعراء/89).
وقال الإمام علي (رضي الله عنه)في صفة الملائكة: ” وأنشأهم على صُورٍ مختلفات وأقدارٍ متفاوتات، أولي أجنحة تُسبّح جلال عزته»[8]، فلفظة (أولي أجنحة) من قوله تعالى:” جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ”(فاطر/1).

وقال (رضي الله عنه) في التّوحيد: «والشمس والقمر دائبان في مرضاته»[9]
ودائبان تثنية دائب وهـو الجـادّ المجتهـد وسـمّي  الشمس والقمـر دائبين لتعاقبها على حال واحدة دائما لا يفتران ولا يسكنان وهي من قوله تعالى:” وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ” (إبراهيم/33). وأخذ لفظة (تزلف وتبرز) من قوله تعالى: ” وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91)” (الشعراء/90-91)، واستعملها بمدلولها القرآني نفسه فقال (رضي الله عنه)  ناصحا: “وبالقيامة تُزلَف ُ الجنّة للمتقين وتُبرَّزُ الجحيمُ للغاوين»[10]

وقال  في عهده إلى مالك الأشتر:” ثمّ الله الله في الطبقـة السُّفلى مـن الـذين لا حِيلـة لهـم، مـن المساكين والمحتاجين وأهل البؤسى والزَّمْنى، فإنّ في هذه الطبقة قانعًا ومعترّا»[11]. والقانع السائل، والمعتر الذي يعرض لك ولا يسألك . واللفظان استعملهما الإمام علي (رضي الله عنه)  بالدلالة نفسها التي جاءت في قوله تعالى:” فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ”(الحج/36).
وأخذ لفظة (ناكس)فقال: «وبادروا بالأعمال عُمرًا ناكسًا»[12] . والعمر الناكس يعني به الهرم لفظ مأخوذ من الآية الكريمة في قوله تعالى:” وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ “(يس/68).بدا من ذلك أنّ الاقتباس طريق من طرق تأثر الإمام علي (رضي الله عنه)بألفاظ القرآن وهو إما اقتباس ألفاظ طوّر القرآن دلالتها فاختصّ بها أو اقتباس ألفاظ نُسبت للقـرآن من جهة استعمالها ولكن بالدلالة القرآنيّة ذاتها.


النموذج الثاني: ظواهر من التّأثير القرآني في استعارات نهج البلاغة:
1ـ التَّوليد:

وهو اشتقاق الصياغات المختلفة على الأصل المأخوذ[13]. إنّ أظهر أثر للقرآن في كلام الإمام علي(رضي الله عنه) هو كثرة اشتقاقات الصور الاستعارية المبنيّة على الأصل القرآني وتوليد مزيد من الإضافات بحسب موقفه الفنّي. ويلحظ أنّ كلّ التوليدات الاستعاريّة يحرص فيهـا الإمام علي (رضي الله عنه)عـلى إبقـاء عنصر الأصل القرآنيإيحاء بقـوة ثباتهـا في ذهـن الإمام علي (رضي الله عنه)وإشراكـا للرِّباط المقدس المتمثّل بالنص القرآني بينه وبين مستمعيه، والأمثلة توضّح ذلك:


استعارات (الليل والنهار):

يعرض التعبير القرآني لـ( الليل والنهار) صورًا في غاية الجدّة والحياة، قـالتعالى: ” تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ” ( آل عمران/ ۲۷ )
والليل والنهار ظواهر طبيعية تتحصل من مطالع الشمس ومغاربها ولفظة (تولج) تستعمل للأشياء الماديّة غير أنّ التعبير القرآني نقـل اللفظة إلى معنى المجاز فصوّر الليل والنهار كأنّها أشياء ماديّة تتلبس ببعضها فيدخل هذا في هذا يقول السّيد الرّضي «ولفظ الإيلاج ههنا أبلغ لأنه يفيد إدخال كـلّ واحـد مـنها في الآخر بلطيف الممازجة وشديد الملابسة»[14]والايلاج هنا هو «دخول مانقص مـن سـاعات الليـل في ساعات النهـار فتزيد من نقصان هذا في زيادة هـذا ودخـول مـا نقـص مـن سـاعات النهار في ساعات الليل فتزيد في ساعات الليل مانقصت من ساعات النهار» .[15]

والزيادة والنقصان تكون بحسب مطـالع الشمس ومغاربها. وفسّرها الطبرسي بقوله: «أي تنقص من الليـل وتجعـل ذلـك النقصان زيادة في النهـار.

 والصُّور الاستعاريّة في الليل والنّهار كلّهـا تنبض بالحركة وتشعّ بالحيـاة كقوله تعالى:” وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) ” (يس/37-38)وقد كانت هذه الصور القرآنيّة وغيرهـا للّيـل والنهـار معينـاً اسـتقى منـه الإمام  علي (رضي الله عنه) استعاراته وكان استمداد الإمام علي (رضي الله عنه)منـه إمّـا مبـاشرا يقتبس منهـا الصورة الاستعاريّة ذاتها أو غير مباشر مـن خـلال البنـاء عـلى الأصـل القـرآني وتوليد الفروع منه. فمن الأوّل قول الإمامعلي (رضي الله عنه) من خطبة في التوحيد: « فانظر إلى الشمس والقمر والنبات والشجر ـ والماء والحـجـر واختلاف هذا الليل والنهار ..»[16]، واختلاف الليل والنهـار يعنـي تـعـاقبها في الذهاب والمجيء «وكل شيء يجيء بعد شيء آخر فهو خلفة»[17]. وهذا يفسر قوله تعالى:” وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا” (الفرقان/62) ومعنى خلفة: «جعل الليل والنهار يتخالفان فإذا أتى هذا ذهـب هـذا واذا أدبر هذا أقبل هذا»[18]

ولاشكّ أنّ قول الإمام (علي (رضي الله عنه)أخذه من قوله تعالى: ” إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ ” (يونس/6) .

أمّا استعارات الإمامعلي (رضي الله عنه) المبنيّة على الأصـل القـُرآني في هذه المعاني فهـي تبدو أكثر فنيّة بسبب إضافاته وتوليداتـه مـن دون الاعتماد كـلـيـّة  عـلى الـصّـورة الاستعاريّة القرآنيّة التي يبدو فيها مقتبسًا، فكثيرًا ما يوظّف الإمامعلي (رضي الله عنه)الحركة التعاقبية للّيل والنّهار التي ترسمها الاستعارات القرآنيّة في الوعظ والتحذير من الركون إلى الدّنيا.
يقول الإمام علي (رضي الله عنه): «و إن غائباً يحدوه الجديدان، الليلُ والنّهارُلحريٌّ بسُرعةِ الأوبَة»[19]، فذهب بها بعيدا في الخيال وهما يشبهان حادي الأبل الـذي يسوقها فتطيعه سالكًا بها سبيلا يقصده .[20][21]

واستعارة (  (الحدو) للفظ (الجديدان) «لما يستلزمانه مـن إعـداد الإنسان لقرب أجله المشبّه بصوت الحادي الذي يحدو الإبل لسرعة سيرها وقربهـا مـن المنزل المقصود لها»[22]، لذلك قال الإمام علي (رضي الله عنه)بثقـة ” لحريّ بسرعة الأوبـة »أي سرعة العود، فقد شبّه الإنسان في الحياة الدنيا بإبـل والليـل والنّهـار مـن ورائـه يحدوانه وأطلق عليه صفة الغائب على أساس عودته إلى مستقرّه  التـي هـي داره الحقيقيّة وهي دار الآخرة.

ويرجّح شارح النهج ابن أبي الحديد(ت656هـ)أنّ المقصود بالغائـب هـو الموت يسوقه الجديدان[23]، وهذا وإن كان محتملًا الا أنه «لا يطابقـه لـفـظ الأوبة لأنّ الموت لم يكن جائيا أو ذاهبا حتى يرجع»[24]

هذه الصورة الحركية لليـل والنهـار باعثهـا الاستعارات القرآنيـّة لهـذين اللفظين مثل قوله تعالى مضافا لما سبق: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا ” (الأعراف/54)، فـاستعارة( يطلبـه حثيثا) بمعنى الإدراك السريع إضافة فنيّة في غاية الروعة لصورة التلاحق بين الليل والنّهـار وذلك بأن يأتي في أثره كما يأتي الشيء في أثر الشيء طالبًا له”[25].

والحثيث السّيرالسّريع السّوق فجعل ظلمة الليل بمنزلة الغشاوة للنّهار ولم يقل يغشي النهار الليل لدلالة الكلام عليه. 

المصادر والمراجع:

  1. ابن أبي الحديد، أبو حامد، عبد الحميد بن هبة الله المدائني(ت656هـ)، شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد أبو الفضل ابراهيم، دار إحياء التراث العربي، القاهرة، 1959م.
  2. ابن رُشيق القيرواني (456هـ)، العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة، الطبعة الثانية، مصر، 1955م.
  3. الإمام علي، نهج البلاغة، جمع محمد عبده، مطبعة بابل، بغداد، ١٩٨٤.
  4. ابنمیثمالبحراني، كمال الدين، (679هـ)، شرح نهج البلاغة، مطبعة خدمات، الطبعة الثانية، طهران، 1404 قـ.
  5. الرازي، فخر الدين محمد بن عمر(606هـ)، التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب، الطبعة الثانية، طهران.
  6. الراغب، أبو القاسم، الحسين بن محمد(502هـ)، المفردات في غريب القرآن، تحقيق محمد سيد كيلاني، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان.
  7. الطبرسي، أبو علي، الفضل بن الحسين(ت548هـ)، جوامع الجامع، تحقيق مؤسسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة الأولى، 1418هـ.

……………….. ***** ……………….

الهوامش:

[1]الإمام علي،  نهج البلاغة:  1/366.

[2]الإمام علي،  نهج البلاغة: ١/ ٢٥٥.

[3]الإمام علي،  نهج البلاغة: ١/ 403.

[4]الإمام علي،  نهج البلاغة: ١/ 151.

[5]الإمام علي،  نهج البلاغة: ١/ 429.

[6]الإمام علي،  نهج البلاغة: 2/34.

[7]الإمام علي،  نهج البلاغة: 2/19.

[8]الإمام علي،  نهج البلاغة: ١/ 192.

[9]الإمام علي،  نهج البلاغة: ١/182.

[10]الإمام علي،  نهج البلاغة: 2/257.

[11]الإمام علي،  نهج البلاغة: 2/257.

[12]الإمام علي،  نهج البلاغة: 2/56.

[13]ظ . ابن رشيق، العمدة: ١/ ٢٦٣.

[14]الشريف الرضي، تلخيص البيان: ۱۲۳.

[15]الرازي، التفسير الكبير: ١٠/٨.

[16]الإمام علي، نهج البلاغة:2/65.

[17]الرازي، التفسير الكبير: ١٠/٨.

[18]ظ. الراغب، مفردات غريب القرآن:361.

[19]الإمام علي،  نهج البلاغة: ۱/ ۱۳۸.

[21]الطبرسي، جوامع الجامع: ٢/ ٢٤٩.

[22]ابن میثم،شرحنهجالبلاغة: ٢/ ١٦٥.

[23]ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ١٤٦/5.

[24]ظ.ابنمیثم، شرح نهج البلاغة: ٢/ ١٦٥

[25]الطبرسي، جوامع الجامع: ١/ ٦٦٢

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here