قافلة العطش لـ سناء الشعلان: إستراتيجيّة التّناغم بين العتبات والنّص
بقلم
عباس سليمان
كاتب من تونس
———————
- تقديم:
هذه المرّة أنا مضطرّ إلى أن أخون ثوابت المنهجيّة وشروطها وأبدأ ورقتي بحكم يفترض أن أختم به وأجعله آخر الكلام كاستنتاج لمقدّمات وفرضيّات وتحليل وإبحار في عالم المقروء وغوص في أعماقه وثناياه.
سأخون المنهجيّة وثوابت القراءات النّقديّة لأعلن منذ البدء أنّتي إزاء عمل قصصيّ عجينته لغة راقية و حبكة محكمة وجرأة ساطعة وتقنيّات عالية. سأخون المنهجيّة لأقول وأنا بعد أكتب السّطور الأولى إنّ هذه المجموعة القصصيّة التي بين يديّ جعلتني أثوب إلى رشدي قليلا قليلا وأتراجع عن قناعتي السّابقة بأنّ جنس القصّة القصيرة آيل إلى الاندثار أو الاحتضار و أنّه يقترب حثيثا من نزعه الأخير بعدما عجز منعشوه القليلون على أن يبعثوه معافى سليما. سأخون ثوابت القراءات النّقديّة إذن لأقول منذ البدء إنّني أمام مجموعة قصصيّة استطاعت أن تبدّد مخاوفي وتروّيني وتسكت ظمئي حتّى وإن كان عنوانها “قافلة العطش”.
ولئن كانت زوايا البحث والتّحليل القابلة للتّناول بل والملحّة عليه في هذه المجموعة متنوّعة ومتعدّدة فإنّنا سنكتفي في قراءتنا الأولى هذه بالنّظر في العتبات أوّلا وفي نصّ المجموعة الأوّل[1] ثانيا واقفين على إستراتجيّات التّناغم التي ربطت بينهما وأحلّت بينهما ائتلافا وانسجاما أصبح اليوم من النّادر أن نعثر عليه في الكثير من الأعمال الأدبيّة.
2- العتبات:
“قافلة العطش”مركّب إضافي أردف بمقتضاه الظّمأ الشّديد إلى رجال قبيلة عائدين بعد سفر مضن إلى ديارهم البعيدة… ولئن كانت عناوين القصص والّروايات المتّخدة شكل المركّبات الإضافيّة عديدة لا حصر لها فإنّ ما يثير منها الشهيّة إلى القراءة بقدرته على شدّ الإنتباه ولفت النّظر قليل قليل قليل. مركّبات إضافيّة ميّتة محايدة صامتة لا توحي بشئ ولا تحرّك السّواكن ولا تضع في اعتبارها أنّ ثمّة متقبّلا على الطّرف الآخر تجب دغدغته ومراودته وجرّه إلى الإبحار في عالم مابعد العنوان.
إن ّالعنوان الميّت كالباب الصّديء لا تلمسه ولا تدفعه ولا تفتحه ولا تلج وراءه مطمئنّا.
إنّ أيّ عنوان ميّت هو علامة على سوء الإختيار وسوء التّصرف في اللّغة وباعث على قتل انتظار القارئ وإعلان العداوة معه. ولا شكّ أنّه فضلاً على حسن اختيار الألفاظ الذي يجب أن يرد في تحقيق مثير فإنّ عنوانا لا يبعث على التّأويل ولا يدفع إلى تعدد زوايا الفهم هو عنوان لا ترجى من ورائه قراءة ممتعة ولا متواصلة. لابدّ إذن لنضمن مرور قارئنا إلى ما بعد العتبة أن يكون العنوان باعثا على الإثارة والتّأويل منفتحا على فرضيّات hypothèses تبدأ مند المصافحة الأولى ولا تنتهي حتى بانتهاء القراءة.
“قافلة العطش”هو العنوان الذي اختارته سناء الشعلان لمجموعتها موضوع قراءتنا. عنوان فيه إشارة إلى القفول أو العودة أو الأوبة أو الّرجوع من السفر ولكنّ هذا الرجوع جاء مقترنا بالعطش.
هكذا تتبدّى الإثارة وتتولّد الفرضّيات منذ انتباهنا إلى ما بين المضاف والمضاف إليه من تنافر يؤكّده الرّجوع الذي يفترض أن تكون فيه القافلة محمّلة بشراءات السّفر و خيراته من جهة و العطش الذي يفترض أن يقترن بأوّل السّفر لا بنهايته من جهة أخرى على افتراض أنّ الارتواء هدف أو غاية من أجلها رتّب السّفر!
نتجاوز العنوان قليلا فنقرأ ما يشبه التّّقديم أو التّصدير أو ما قبل انطلاق القصّ Préambule: “كم هم عطشى أولئك الذين لا يعرفون أنّهم عطشى. وقد أثار فينا هذا التقديم ملاحظتين:
الأولى أنّ سناء عدلت عن السّائد وخرقت المألوف فلم تقدّم بكلام متداول معروف قاله قبلها “أحد الكبار”حتّى غدا مرجعا أو مثلا يضرب أو حكمة منتشرة أو كالقرآن يتلى, إنّما قدّّمت بكلام لها فكأنّما القاصّة تقول: القصص لي والأفكار أفكاري فلم أقدّمها بكلام قاله آخر.
الثّانية أنّ في هذا الكلام المركّز الكثيف الذي عددناه تقديما أو كالتّقديم إشارة إلى الهمّ المعرفي الذّي تنوء به الكاتبة وإلى الحسرة على الذين أصيبوا بنكبتين: نكبة العطش بما في هذه الكلمة من إحالة على الحاجة le besoin وانعدام التّوازن والتّأرجح بين الحياة والموت ونكبة الجهل بالعطش أي الجهل بحالة الفراغ والفقر المعرفيّ وحالة الاقتراب من النّهاية.
ولعلّنا لا نجانب الصّواب كثيرا إذا قلنا إنّ لهذا التّصدير أفضال على القارئ أهمّها أنّه يوجّه قراءته ويحدّد زواياها وينبّه منذ البداية إلى أنّ النصوص لن تكون فقط إمتاعا وتسلية بل أسئلة نتحمّل جميعا مهمّة الإجابة عنها والبحث لها عن حلول. وما أجمل أن تثير فينا كلّ ضروب الفنون أسئلة تحرج المتقبّل و تخرجه من حياده وسلبيّته فلا يكتفي بعينيه لقراءة الأثر إنّما يضطرّ إلى إعمال فكره وخياله ليشارك الكاتب همومه وحيرته ومقاصده.
النّص الأوّل:
نقرأ القصّة الأولى التي يحمل الكتاب عنوانها أو تحمل هي عنوان الكتاب فلا نكاد ننتهي منها حتّى نطمئنّ تماما إلى كلّ الفرضيّات التي أثارتها فينا قراءة العنوان فإذا التّنافر بين إحالتي أو دلالتي القافلة من جهة والعطش من جهة أخرى قائم وإذا القصّة تكتسب حيويّتها وحركيّتها من ذاك التّنافر.
تبدأ القصّة من وسط الأحداث معوّلة على القارئ في أن يعود بمفرده إلى ما يفترض أن يكون قد سبقها وسواء قصدت سناء إلى هذا الحذف أم لم تقصده فإنّنا لا نراه إلاّ حذفا مقبولا بل مطلوبا لما فيه من تناغم مع إحالة العنوان، فحين يكون العنوان محيلا على الأوبة (قافلة) فلماذا نتحدّث عن أوّل السّفر أو انطلاقته؟ بل لماذا نحكي أشياء لم يقلها العنوان ولم يشر إليها ولم يمتدّ إليها ولماذا نرهق المحمول السّرديّ بما لا علاقة له من قريب أو من بعيد بالعنوان ؟
تقدّم القافلة ما يكفي من الأموال لاسترداد أسيرات القبيلة صونا لعرضها وتاريخها وبحثا عن توازنها المفقود وقطعا للعطش الذي أصابها منذ أخذت عنها جميلاتها و لكنّ واحدة من نساء القبيلة تأبى أن تعود مع الرّجال وتتمسّك بآسرها فيؤوب الجماعة إلى ديارهم عطشى غارقين في عار لم تستطع أن تغسله حتّى الدّماء التّي سالت في بحر الصّحراء.
شخصيّا لا أستطيع أن أقرأ هذا النّص قراءة محايدة ولا أستطيع أن أكتفي بالوقوف على جوانبه الفنيّة وما فيه من حبكة جميلة ولغة شاعريّة وقصّ مثير…
لا أستطيع أن لا أثير ما قد تكون المؤلّفة قصدت إليه أو كتبت النّص من أجله لا سّيما ونحن أشرنا إلى الهمّ المعرفي والحضاري الذي يؤرّقها والذي تولّى كشفه التقديم. لا أستطيع أن لا أقول إنّ وراء هذه القصّة مقاصد فكريّة وحضاريّة ومشاعر حسرة وألم… لا أستطيع أن أقرأ هذا النصّ دون أن أسأل وألحّ في التسآل: ألم يكن الأجدى أن تصرف الأموال التي قدّمت لاسترداد السّبايا قبل أن يقعن سبايا وينتشر في القبيلة العار ويسكن رجالها ظمأ أبديّ لا يمّحي؟ ألم يكن الأجدى أن تصرف تلك الأموال في صنع قوّة للقبيلة تمنع عنها الغارات والمطامع وتحول دونها والوقوع في العطش والفضيحة والمهانة؟ ألم يكن الأجدى أن تحكم القبيلة الوقاية قبل أن تضطرّ إلى البحث بمقابل عن علاج يتمنّع ثمّ يرفض أن يجيء؟
لهذه الأسئلة أن تلحّ على الظّهور من وراء سطور سناء الشعلان ولغيرها من الأسئلة أن تتناسل تباعا في ذهن كلّ من تتجاوز قراءته المصافحة البصريّة إذ بأسئلة كهذه سيمكننا القول إنّ القصةّ القصيرة الجديدة – تحديدا قصّة ما بعد 2001- لم تعد حكاية مرتجلة ولا أسطورة مستعادة ولا خرافة باردة ولا أحداثا تنمو على وفق نسق تصاعدي ّيفضي إلى نهاية سعيدة، إنّما القصّة اليوم موقف فكريّ وحضاريّ من الواقع الجديد وما فيه من جنون واختراق وعلاقات غير متكافئة ومبادلات غير متوازنة…
لم يعد القاصّ أو الرّوائيّ حكّاء ينسج ويخيط أحداثا ويسردها فيسكت بها عطش الجمهور المستهدف إلى البطولة الوهميّة والشّجاعة الكاذبة وعجيب الأمور وغرائبها إنما القاصّ اليوم –أو هذا ما يفترض أن يكون- مفكّر يصوغ مواقفه إبداعا جميلا وتأتلف في هذه الصّياغة اللّغة الشّاعريّة والعرض الشيّق والحبكة الفنيّة والأسئلة المثارة أو المثيرة والثّقافة الواسعة.
تحدّثنا عمّا وقفنا عليه بين العنوان والنّص من تناغم وانسجام ويعنينا أيضا أن نبحث في علاقة عنوان القصّة الأولى موضوع ورقتنا هذه بشخصيّاتها. كيف ظهرت للقارئ الشّخصيّات وهل ألحّت هذه الشّخصيّات على الظّهور بحيث حفرت لها في ذهنه مواقع لا تمّحي بسهولة؟؟؟
الواقع أنّ القراءة المتأنية لهذا النصّ الأوّل كفيلة بأن تؤكّد لنا أنّ شخصيّات نصّ “قافلة العطش” شخصيّات شاحبة يكتنفها الغموض والتّخفّي لم يدم ذكرها في النّص طويلا ولم تتكرّر بشكل لافت للانتباه ولم يضطلع الوصف ولا الحوار ولا السّرد بالكشف عنها وإبرازها للقارئ بشكل واضح تتجلّى من خلاله قسماتها وملامحها ثمّ طباعها وأفكارها. هل هي غفلة من الكاتبة؟ هل هي رغبة منها في تغليب السّرد وتتبّع نسق الأحداث أدّت إلى سهوها أو تجاهلها لظواهر الشّخصيّات و بواطنها أم إنّ ذلك الظّهور الشّاحب كان اختيارا واعيا قصدت إليه سناء الشعلان لأمر في الأقصوصة ملحّ وبحثا عن التّوازن بين العنوان وما يليه ؟
نحن لا نستطيع إلاّ أن نرجّح ونرشّح هذا الاستنتاج الأخير فحين يكون عنوان الأقصوصة “قافلة العطش” وحين يكتنف النّص جو ّمن الخزي و العار والعطش والفشل وحين ينطلق من مضاربهم الرّجال بحثا عن توازن أفقده القبيلة سبي النّساء و أسرهن ّفيعودون عطشى و عوض أن يعودوا بنسائهم الرّهينات يضطرّون إلى ذبح ووأد إناثهم الأخريات… حينها لا يعود هناك مجال للكشف عن ظواهر الشّخصيّات و بواطنها و يصبح الغموض أو الإغماض مطلوبا تحقيقا للتّوازن بين مختلف مكونات النّص و تحقيقا للتّكامل بين سرد الأحداث ووصف العناصر المؤثّثة لها بل و تحقيقا لوحدة الانطباعl’unité d’impression المتأتّية من تضافر كلّ العناصر لبناء أثر واحد و معلوم أن أوّل من أطلق هذه العبارة هو”إدقار يو” و ذلك سنة 1842حين عدّ وحدة الانطباع أو ما سمّي أيضا بالتّأثير الجامع يمكن أن يجعل لجنس الأقصوصة تفوّقا خاصّا لا يشاركه فيه أيّ نوع أدبيّ آخر مؤكدا على أنّه لا يجب أن توجد في كلّ الأقصوصة كلمة واحدة غير مجعولة لخدمة الهدف المنشود.
تقول القاصّة واصفة كبير قبيلة العطش: “… عيناه كانتا الناّجي الوحيد من لثامـــه”[2] وتقول واصفة ابنة كبير القبيلة التي أصاب أباها ومن معه العطش المستديم بسببها. “تأمّل جسمها السّابح في ثيابها الفضفاضة”[3].
حين تسبح القصّة بكاملها في جوّ من العطش و كثير من الحزن و الألم يصبح من الأجدى أن تتخفّى الشّخصيات وراء لثام لا تظهر منه إلاّ العينان و أن لا يوصف الجسم بتفصيل و شهوة و يصبح مجديا أن نكتفي بالإشارة إلى اللّثام وإلى الثياب الفضفاضة فيظلّ الوجه متعطّشا إلى النّور و تظل مفاتن تلك المهرة التي خانت قومها من أجل أن ترتوي متخفّية عن الأعين و يظل ّالقارئ متعطّشا إلى ملامح الوالد المكلوم و إلى تفاصيل ابنته التي قلب جمالها حياة قبيلة بكاملها.
هذا هو الإئتلاف المطلوب الذي به وبشروط أخرى ليس هنا مجال الحديث عنها يصبح نصّ ما قصّة أو أقصوصة (ونحن نسمح لأنفسنا بأن نستعمل المصطلحين للدّلالة على المعنى نفسه).
والحقّ أنّ ما دعانا إلى الوقوف على جماليّة هذا الائتلاف ما لاحظناه في كثير من المجاميع من تنافر لا سبيل إلى تقويمه حتّى بالإبحار في كل ثنايا التّأويل بين العناوين الفرعيّة و النّصوص و بين العناوين الجامعة والمجاميع من جهــة و بين العناوين و صور الأغلفة من جهة أخرى…
اعتباطيّة لا مبرّر لها انتشرت في أعمال السّنوات الأخيرة حتّى أصبحت كالنّادر العثور على كتاب تأتلف و تنسجم وتتناغم عتباته و نصوصه.
“قافلة العطش” لسناء الشعلان خرقت هذه الإعتباطيّة فكشف ما بين مكوّناتها المختلف من تكامل على بناء محكم و اختيارات سديدة ورغبة في احترام القـارئ و تلبية عطشه وانتظاره.
الخاتمة:
بمجموعة” سناء الشعلان” الأخيرة “قافلة العطش ” ينضاف إلى مدوّنة السّرد العربيّ صوت يقول القصّ بشكل مركّز وبطريقة مثيرة للمتعة والإفادة والإيحاء والتّفكير.
بهذه المجموعة وبما وقفنا عليه فيها من استراتيجيّة محكمة تحقّق بفضلها التّوازن بين النّصوص الموازية والمضامين يمكننا أن نجازف مطمئنّين ونقلب عنوان سناء من “قافلة العطش”إلى قافلة الغيث النّافع أو قافلة الماء الجاري أو لنقل قافلة أحسن القصص.
. . . . . . . . *****. . . . . . . . .
الهوامش:
[1] الشعلان، سناء: قافلة العطش، ص 9 -14.
[2] المصدر نفسه، ص 9.
[3] المصدر نفسه، ص 11.
المرجع:
- الشعلان، سناء: قافلة العطش– مجموعة قصصيّة ط1- 2006/الورّاق للنّشر والتّوزيع.