عالم سناء الشعلان القصصيّ: بَدْء اللّعب في المناطق الخطِرة

Vol. No. 1, Issue No. 3 (Special Issue) - July-September 2021, ISSN: 2582-9254

0
752

 

عالم سناء الشعلان القصصيّ: بَدْء اللّعب في المناطق الخطِرة

بقلم

أ. مصطفى الكيلاني

باحث من تونس

———————

1– الأنوثة/الذُكورة: جَهْل تقريبيّ مُتبادَل.

تبدو صورة الرجل في مرآة النفس الخاصّة بالأنثى كابوسيّة، كالحلم الّذي لا يتحقّق، أو كالقطيعة في مجتمع أقاصيص الكابوس(1) بين الذكورة والأنوثة. وسببها الظاهر هو الرجل،  تحديدًا، وقيم الذكورة المستبِدّة بحياةِ الكائن عامّةً، دون التخصيص بماهيّة الأنثى المُفرَدة أو الذكر، إذ صفة الخواء مشتركة بينهما، وعلى حدّ سواء. فثمّة غَبْن بَدْئيّ، لا شكّ، يُصيب المرأة على لسان الراوي-الأنثى، ومردُّه النظر التشييئيّ لشخصها تبعا لعقليّة الرجل العربيّ، والشرقيّ على وجه الخصوص. وكما يتمثّل الجسد الأُنثويّ موضوعا للمتعة فحسب، في نظر الرجل، فإنّ الذكورة تظلّ أقرب إلى الوجود الطيفيّ، في تصوّر المرأة، منه إلى واقع الوجود. وإذا رؤية السراب أو الطيف هي سيّدة الموقف في الاتّجاهين معًا(2).

فتتنقّل عين السارد من الضمير المُفرد المُذكّر إلى الضمير المُفرد المُؤنّث بتحويل مُتعَمَّد يُقابل بين ذاتَيْن مُختلفتيْن تشتركان في ماهيّة وجودٍ واحد يتعيّن، حسب الظاهر، بالفراغ، جهل كُلّ منهما للآخر، الرغبة في الانفتاح الّتي لا تتحقّق نتيجةَ مُعوّقات فرضتها تقاليد مجتمع قهريّ، كأن يستبدّ الكابوس بالحلم، ويتعاظم هذا الكابوس باحثا له عن أفق/آفاق بالحلم الّذي يظلّ في خاتمة المحكيّ المُتعدِّد مُجرّد إمكان للحلم.

2- لعبة الضمائر: محاولة الخروج من واقع الجهل التقريبيّ المُتبادَل.

فتتوالد الحركة السرديّة في بَدْء “الكابوس” من خلال فِعل التصريف اللّغويّ: هو،  هي،  هما،  هم، أنا، تعريف بالتنكير(كابوس)، فنِقاط استفهام وتعجُّب في الأخير.

إنّ الواصل بين مختلف الضمائر وضع واحد مُشترك أجملتْه الذات الساردة في تسمية مُفْرَدةٍ هي الكابوس، مُرادف الملل الّذي يُصيب الجميع دون استثناء. وإذا قصّة “الكابوس” الّتي وَسَمَت المجموعة بأكملها تقليب لهذا اللفظ واستقراء لِمُختلف معانيه الظاهرة والخفيّة، وتوالُد حالات يتّصف مُجملُها بالحُبْسة، لانغلاق الأفق.

فتتلاشى العلامات الخاصّة بالفرد في مُطلق معنى الجماعة، كلفظ “القبيلة” يرد في خاتمة القصّة كي يُؤكّد، بما لا يدع مجالا للشكّ، على التصادم الحادّ الإشكاليّ بين الرغبة ونقائضها، بين مخصوص الذات الفرديّة وواحديّة القيمة في مجتمع تسوده أحكام ذهن بطركيّ جديد.

وكما تتماثل الأنوثة والذكورة في واقع خسارة الفرد وانحباس واقع الفرديّة يتعاظم ثِقَل مأساة الاستعباد الفرديّ عند تخصيص الرؤية في موقع الأنثى الراوية والمرويّة.

فلا غرابة، إذنْ، في أن تُختصر الاسميّة ضمْن مُجمل أقاصيص-الكابوس” في مُطلق الضمائر.

كذا الحلم-الكابوس دلالة والدة مرجعيّة في”عالم البلّورات الزجاجيّة” حيث الفشل هو سيّد المواقف، إذْ تتوالد الأحداث بَدْءًا منه وعَوْدًا إليه. فمسارّ التجربة المنوطة بذات الشخصيّة الأولى في القصّة مدفوع بالفشل بَدْءًا وانتهاءً. أمّا الموت فهو الحَدَث المتكرّر، كموت الجدّ والأب والأخت والتفوّق الدراسيّ الّذي سرعان ما انقضى بالانقطاع والتحوُّل إلى حياة الشُغل في فُرْن وعديد التفاصيل في حياة الشارع والمتجر حيث “عالم الأغنياء” والحُبّ من اتّجاهٍ واحد واستحالة التواصُل. . .

فيستبدّ الكابوس مرّةً أخرى بالحُلم، وينقطع مجرى المحكيّ بالموت كما يرد ذكره على ألسنة الآخرين، إذْ أجمع “الكُلّ على أنّه الآن في الطريق إلى العالم الآخر، لكنّهم لم يعلموا أنّه قد انزلق بعد عناء في عالم الأحلام الزجاجيّة”(3).

3- تعالُق الأسطورة والواقع بمُشترك حالٍ شِعريّة.

وفي “أودسيوس مرّة أخرى. . . ” تتعالق الأسطورة والواقع بمُشترك حالٍ أُنْثوِيّة تستعيد عبر مُجمل التواريخ القديمة والحادثة وقائع الحرمان والقهر والظمأ الروحيّ والخواء المُستبِدّ بالكائن والكيان. وإذا الحلم-الكابوس وجه آخر لتعدُّد الأزمنة والأمكنة وتداخُلها، كأنْ يصل المكان في هذه القصّة بين جربة (الجزيرة الواقعة في الجنوب التونسيّ) بالجمع بين الماضي والحاضر، تبعا للزمن الأسطوريّ والزمن الواقعيّ الّذي هو مرجع لحظة التمثُّل السرديّ بالاستذكار والانتظار، بما كان ويكون وما يمكن أيضا أن يكون.

إنّ كتابة الطيف باعتماد الإبطان حيث زخم الحالات يستلزم بعضا من أسلوب التداعيات بالتوالُد حينا، وبالفسْخ وإعادة الإنشاء (métamorphose) أحيانا، كي يتحرّر السرد بذلك من الوثوق المحض ويندفع في مغامرة توصيف العديد من الحالات الغامضة واستثمار الوهم والإيهام (fantasme) مَعًا. لذلك يُغلّب الفعل السرديّ المُضمر على المُظهر عند البدء والدفين من الحالات على المُنكشف منها، و” نظام الفوضى” الناتج عن زخم هذه الحالات على “النظام” المستوي المُكتفي بظاهر النسق ورتيب حركة الاطّراد.

وبناءً على السالف فإنّ الكتابة القصصيّة بتوهُّج اندفاعاتها وارتداداتها تُقارب مواطن الشعر لِتُعيد النظر، عند القراءة، في المسألة الأجناسيّة، لما للسرد القصصيّ من توهُّج حال شعريّة، ولما للشعر المُصاغ سردًا من تأثير، وما للخواء الملل الانتظار الرغبة الجامحة الممكنة والمستحيلة معا من اقتدار عجيب على توليد المواقف بالتكرار-العَوْد (الاستدارة) والاختلاف (التمدُّد أو الانتشار).

ويتأكّد هذا المنحى المتفرّد في تمثّل الصلة بين شاعريّة السرد وسردية الشعر في”حكاية شجرة” باستخدام بعض من العجيب المستوحى من تدلال الحلم واستعارة لغة السرد الحادثة: “في أرض نصفها ثلج ونصفها الآخر وهج، في أرض نصفها في الشمال، ونصفها في الجنوب، في أرض نصفها في الماضي، ونصفها الآخر في الحاضر، في أرض نصفها هناء، ونصفها الآخر تعاسة، هناك في أرض الجفاف حيث ملتقى البحريْن(4).

وكأنّنا أمام توصيف الشجرة المتفرّدة عن غيرها من الأشجار التوائم نشهد كتابة أسطوريّة بلُغة حادثة، كـ”مسخ الكائنات”الأوفيديوسيّ يتحوّل من مظانّه الضاربة في القِدَمِ إلى سياق حكاية الأصل والأمّ الآثمة وشجرة الدموع المفردة الّتي ولدت في الماضي الأسطوريّ أدونيس وتداعيات المحْكيّ الأخرى. كما تستعير سناء الشعلان، آن رسم الشجرة المُفْرَدة في مجال الغاب بأشجاره التوائم والأشجار العجوزة الحزينة على “الشجرة الوحيدة” البعض الكثير من مشهديّة اللوحة.

وإذا السرد في بنية”حكاية شجرة” يُطوّف في أقاصي المعنى المشترك بين الأسطورة الضمنيّة والواقعيّة الذاتيّة المُضمَرة ليُشارف المعنى الفلسفيّ حيث دلالة الأصل، والأصل الأنثويّ تحديدًا، والمرجع الكينونيّ البدائيّ ممثّلا في النبات.

إنّ الشجرة، بهذا المنظور، هي الحياة على بدئيّتها وبِدائيّتها مَعًا. فـ”أخضر الأوّل” أو”إيخُو”هو بمثابة الرحم الأوّل الّذي أنشأ علامات الوجود البدائيّ، بالمُفرد الّذي تراكم عبر ملايين السنين كي يُنشئ المزدوج (الذكورة والأنوثة) الّذي به كان التعدُّد والاختلاف. غير أنّ واحديّة الشجرة “إيخُو” لم تُثمِر في الأثناء إلاّ رُعب الشيخوخة لتنشأ المأساة بوعي الموت القادم لولا المُفاجأة عند حُدوث التزاوُج(5) الّذي لم يُعمّر طويلا نتيجة تدخّل يد الإنسان الآثمة والقطع الّذي حَدَث والتحوُّل المُزدوج، بعد التعالُق الحميم، إلى كمان وقوس في يد صانع آلات موسيقيّة عجوز. فتستمرّ القاصّة في اعتماد أسلوب التحويل بالإنشاء والإفناء وإعادة الإنشاء، بالحياة تتقادم لتنقضي وتتحوّل إلى حياة ثانية فثالثة، بحلقات سلسلة لا تتوقّف ولا تنقطع، كحكاية العجوز والزوجة الهالكة والقبر وانغراس الكمان والقوس والإزهار تتويجا لِحكاية الشجرة العاشقة، إذِ الأشجار، بلغة القاصّة، مثل البشر تملك هي الأخرى حكايات وسِيَرًا وملاحم وآمالا وانكسارات ونهايات، وتبقى مُقيمةً على عشقها،  مخلصة لذِكراه”(6).

4- كتابة الوقائع الجُزئيّة أو أدبيّة السخرية:

وفي”حادث مؤسف سعيد جدّا” ينتقل فعل السرد القصصيّ من الحُلم والتمثُّل العجائبيّ للعالم والأشياء إلى كتابة الوقائع الجزئيّة الّتي تبدو بسيطة تافهة أحيانا في مسارّ الحياة الفرديّة والجمعيّة. إلاّ أنّ مزيجا من العبث والسخرية و “حكمة الجنون” والعين الرائية المُحتفية بالتفاصيل ودقائقها تكشف في الأثناء عن خواء هائل في نسيج الذات الراوية والمَرويّة، كمحمود فاقئ عين مصطفى، يتحوّل من الثأر إلى تأنيب الضمير، ومنه إلى الانتقام الذاتيّ بتجريب إغماض العيْنيْن لممارسة لعبة التردّد بين البصر والبصيرة، وبين معرفة الأشياء والحقائق وجهلها أو تجاهلها لتحقيق النقلة الكبرى في مسارّ التجربة، بأن استحالت إلى ذاتٍ قاتلة بعد أن كانت ضحيّة.

وبهذه القصّة نشهد لونًا سرديّا قصصيّا مختلفا عن سابقه بعد أن نزل المحكيّ من علياء الصُور المُتخيَّلة والاستعارات الواصلة بين ماضي الأسطورة وراهن الحُلم وتداعيات اللّغة الكاتبة إلى أسافل الوجود حيث جحيم الوضعيّة في مجتمع القهر الفرديّ والعذاب اليوميّ. وإذا السعادة لا يُمكن تحقيقها في مجتمع القصّة إلاّ بالانتحار المجازيّ عند تجريب العَمَى والتسليم بالأمر الواقع والتأقلم مع ما هو كائن والاستئثار أخيرًا بِدَوْر الجلاّد على دور الضحيّة.

وإذا استثنينا “بحيرة الساج” و”المُواطن الأخير” حيث الرجوع إلى عالم الغابة والأشجار في الأولى وكتابة البعض من الأسطورة والواقع الكارثيّ الآيل إلى الاندثار بسبب الحروب المُدمِّرة في الثانية فإنّ الأقاصيص الأخرى تُمثّل استمرارًا في النهج الواقعيّ الرافض لأسلوب المُطابقة اللاّئذ بعديد الوسائل الإيجابيّة دون الاقتصار على لون سرديّ واحد.

وإذا الكتابة القصصيّة لونان أساسيّان تتردّد بينهما مختلف الأساليب: الإبطان في اتّجاه طبع بناء القصّة بشاعريّة الحالات على شاكلة سرديّة، والإظهار آنَ الاحتفاء بعديد التفاصيل دون الانزلاق في توظيف المطابقة الصريحة. وبهذا الجمع بين اللّونين المذكورين تُثار القضيّة الأجناسيّة في تمثُّل الكتابة القصصيّة عامّةً، إذ هي السرد الّذي ينزع في اتّجاه الشعر وتوصيف البعض ممّا يتردّد في الداخل من حالات واستيهامات، وفي اتّجاه السرد الّذي يُباعد بين الذات الساردة والعمل السرديّ باعتماد تقنيات الوصف المُختلفة والدعابة و”السُخرية الجادّة” أو”الجدّ الساخر”و”العبث واللاّمعقول والعجيب بمنظور واقعيّ في الأساس والمرجع المُضمريْن، كأن نقول واقعيّة الذات والوضعيّة وحقيقة الأنوثة في مجتمع الحظر والقهر.

كذا مأساة الكائن تعمق بفعل الإبطان وتنتشر حينما يتباعد موقع النظر بين السارد والمسرود ليتّخذ له الإضمار والتضمين والإخفاء أشكالا أخرى من الوصف الحكائيّ.

5- التجاذُب بين سرديّة الحال وسرديّة الحدث:

فيستأنف السرد بـ”بحيرة الساج” الحكاية الأسطوريّة المزحومة بعلامات الواقع ومختلف دلالاته، كالّذي تردّد في “حكاية شجرة”من مشاهد وصفيّة تُؤالف بين الكيان الإنسانيّ والكيان النباتيّ أداءً لمعنى صوفيّ يُداخل بين اللّه والإنسان والعالم ضِمن ثالوث الحُبّ الأزليّ الّذي يَمْثُل في عديد تفاصيل الوقائع والأشياء لتلهج بـ”الحُبّ الأعظم”والسعادة الأبديّة، وتستقدم إلى راهن المَحكيّ بعضا من ذاكرة العالم عَوْدًا إلى”نوح”و”كنعان”و”عوج”، ووصولاً إلى رمزيّة الطوفان والأمواج ومختلف علامات الفيْض وانفتاح الأنثى بعميم الرغبة والعشق على عوج-الذكر.

كما يتكثّف استخدام الإيحاء في “المُواطن الأخير” باستئناف المحكيّ الّذي يُخفي زحم الوقائع الحادثة خلف تداعيات اللّغة الأقرب إلى الشاعريّة وكتابة الحلم الّذي سُرعان ما انقلب في خاتمة المجموعة القصصيّة إلى كابوس مرعب: “لقد صدقت النبوءة. . . البشر أصبحوا وُحوشا، البشر أصبحوا وُحوشا. . . “(7). وهُنا تدّاخل العصور في زمن واحد مُشترك هو الزمن الكوكبيّ يصل بين”باخوس”و”حكماء القارّة” ومصير “أطلنطا” والنهاية الوشيكة لجميع البشر، بما سيحدث من كوارث منتظرة بعد الانهيار القيميّ والحروب المُروّعة والدمار الّذي أصاب المكان والكيان على حدّ سواء.

إنّ الاحتفاء بتفاصيل المحكيّ والتبعيد بين الواصف والموصوف السرديّيْن واعتماد النسج بالمُؤالفة والقطع والوصل والفصل معا هو في صميم اللون الأكثر انتشارًا في مجموعة “الكابوس” القصصيّة. إلاّ أنّ الميل إلى هذا اللون لا يعني المُطابقة المحض، كما أسلفنا، بل إنّ الإيحاء يتّخذ له سمات الإلماح الخافت واللقطات الوصفيّة الخاطفة والانتقال من موقف إلى آخر، كانكفاء البصر في “قصّة طويلة”، بأنْ يتحوّل السرد إلى موضوع لِقصّة، “مكان في المستحيل”داخل القصّة. وبذا أثمر الفراغ حكاية تواصُل سرعان ما أفضى إلى انقضاء بارد بانحباس الرؤية وانحسار الأفق، وكـ”صانع الأحلام”الّذي درس”الشعوذة والسحر في بلاد ما خلف البحر”(8) ليعود إلى أرض الوطن ويُعيَّن في “الدرجة السابعة بوظيفة صانع أحلام شعبيّة”(9)، وكالإدمان التلفزيونيّ في “آنسة قطّة”التي بها يستحيل فعل مشاهدة البرامج والمسلسلات التلفزيونيّة إلى مرض عُضال تغالب به فَتَاةٌ المللَ كي ينقلب الملل فيها بهذا الإدمان إلى خواء كينونيّ هائل بعد موت الأمّ وزواج الأختين وحياة العُزلة القاتلة وعديد الأوهام والاستيهامات في خاتمة هذه القصّة-المأساة، وكجحيم العزلة في “الضفّة الأخرى تُراوح بين بعضٍ من واقعيّة الذات الساردة ورمزيّة الكائن-الذكر يتوق إلى البُعد الآخر للحياة ليحدث الإبدال(10)، وكالجارة الغجريّة الشرسة بصُراخها وشتائمها الصباحيّة المزعجة الّتي لا تنقطع وسخط الرجل الجار عليها الّذي تحوّل إلى رغبة جامحة لا تتحقّق برحيلها وانتظاراته الّتي لا تنقطع(11)، وكظِلّ الكائن الّذي يمثّل عَدُوًّا لدُودًا يُحاول التخلّص منه مرارًا وتكرارًا في “القاتل” دون جدوى إلى أن حدث القتل، لينشأ عن ذلك حنين إلى زمن ما قبل النفي، وكقطيعة التباعُد المستفحلة في “صباح الخير. . . يا دكتور” بين الأنثى العرجاء والطبيب وحضور السياج الفاصل بين الداخل والخارج، وبين الممكن والمستحيل، بين انتظاره وانتظارها(12)، وكالحاجة إلى البوح بالكلام أو البُكاء في “صاحب الصوت الأجشّ” لينشأ حنين إلى صَوْتٍ ذكريّ سمعته أنثى لمرّة واحدة عبر الهاتف وظلّ صداه ماثلا بعشق مُرهف في الذاكرة المُعَنّاة.

6- التردّد المأساويّ الحادّ بين رغبة الحُريّة وتعطُّل إرادة التجاوُز:

كذا الكابوس (المجموعة القصصيّة) فيض من أحلام، بعضها واقعيّ أو يكاد، وبعضها الآخر بَدْء توغُّل في المواطن المحظورة حيث التخوم القصيّة لرغبة التحرّر من عديد القيود داخل وضعيّة الكائن-الأنثى والكائن الفرد عامّة في مجتمع سلطة الجماعة القبليّة أو شبه القبليّة على الفرد بمجمل إرثها القديم وقهرها الحادِث.

وبناءً على هذه المغامرة غير مأمونة العواقب في كتابة القصّة وتمثُّل مأساة الوجود الفرديّ الأنثويّ، على وجه الخصوص، تصطدم الأبنية السرديّة بضرب من التكرار الحَدثيّ المُضمر مُمثّلا في التمدّد الّذي سرعان ما يُضحي استدارة تنقضي عادةً بالتوقُّف/البتر وبالارتداد إلى مجال النفس المغلق المزحوم برغبة الانفتاح على الآخر الكينونيّ والامتداد المكانيّ معا المهووس بكوابيس اليقظة. إلاّ أنّ سلطة الماضي، كما تنجلي، تقريبا، في الاستذكار أو حُبْسة الحال تدفع غالبا إلى الانتظار وتفاقُم الملل في عالم الأنثى، كما هو الشأن في عالم الذكر، تبعا لتماثُل الوضع بالنسبة للشخصيّات القصصيّة رغم اختلاف أسمائها ومُسمّياتها ووظائفها. فثمّة مُشترك كينونيّ يقضي تغليب الطيف أو الظلّ على الشخص، والقناع على الوجه، والاسم على المُسمّى، ومجرّد الحال على مخصوصها في”الآن” و”الهُنا”.

لذا تبدو”الكابوس”عالما قصصيّا يكتظّ بعلامات الأنوثة المُعذّبة ودلالات الرغبة الحبيسة ومأزق الوضعيّة الناتج عن التردُّد المأساويّ الحادّ بين رغبة الحُريّة وتعطُّل إرادة التجاوُز. وما ينكشف تمرُّدًا للفرد والأنثى-الفرد، على وجه الخصوص، يحمل في ذاته النقيض الّذي هو الإذعان لرقابة ذاتيّة تحلّ مَقامَ الرُقباء الآخرين.

فتتماهى الأنوثة والذكورة حينما يحمل فعل التمدُّد السرديّ حركة ارتداده بالاستدارة المذكورة آنفا، بالالتفاف السريع حول النواة الّتي تندفع بدْءًا نحو تجاوُز وهم المُوحَّد الثابت فيها بالتعدّد، ليتعاظم هذا الوهم بمختلف الاستيهامات تتناسل عن الرعب القديم الحادث، رعب الأنثى الّتي قد تدفع ثمن تمرّدها الكاتِب المؤقّت العارض باهظا، رعب شهرزاد الحفيدة الّتي استفادت من جيل شهرزاد الجدّة، وقد يُسفك دمها انتقاما منها ومن الجدَّات، بل كُلّ الجدّات في تاريخ الأقبية والمقاصير ومرايا العتمة.

وهل”قافلة العطش”، المجموعة القصصيّة الثانية لسناء الشعلان(13)، استمرار في نهج هذا التردُّد المستفحل بين رغبة التمرّد على الموروث السائد وبين الإذعان القسريّ له أم هو الاندفاع بجهد كتابيّ حادث نحو ضفّة أخرى، لعلّها ضفّة النجاة من قهر العادة بالكتابة وفي الكتابة؟(14).

7- “السخرية الجادّة” وأفق الكتابة؟

فثمّة أسلوب قصصيّ متفرّد مختلف بَدَأ يتنامى في أقاصيص سناء الشعلان، وهو الّذي يمثّل أفق انتظار، حسب قراءتنا، ويستدعي الاشتغال عليه بعد”الكابوس”، تلك”السخرية الجادّة” المتلبِّسة بعديد الأحداث والحالات، الدافعة إلى مُقاربة تخوم الكارثة بتبعيد فنّيّ شيّق بين الواصف والموصوف لحظة يتوارى الواصف خلف موصوفه ويُساوي بين أطراف النقيض في مُعتاد القراءة والتقبُّل، وآنَ زوال الحدود الفارقة بين المنطق والجنون عبر مسحة خافتة من حكمة الجنون أو جُنون الحكمة، وحيث ينتفي الفاصل النهائيّ بين الواقع والحلم، والذاكرة والمخيال، والتاريخ الفرديّ والتاريخ الجماعيّ، والمعتاد والعجيب، والمنتَظر والغريب، والوجه والطيف، وشاعريّة السرد وسرديّة الشعر. هذا الّذي بَدَا مشروعًا يتشكّل في “الكابوس” وازداد تراكُما موقعيّا “في قافلة العطش” في انتظار ترسيخ تجربة الكتابة القصصيّة المتفرّدة بمزيد من استخدامات السخرية الجادّة أو الجدّ الساخر، وبالمأساة والملهاة مَعًا، وبالحدث والحال، أو السرد وما وراء-السرد.

أليست “السخرية”، كما حدّها فلاديمير جانكلفيتش(Vladimir Jankélévitch) هي تلك الأكثر أخلاقيّة كي تكون فنيّة حقّا، والأشدّ شراسة لتؤدّي وظيفة الإضحاك بالفعل؟ أليست السخرية لَعِبًا في المناطق الخطِرَة، عِلْمًا بأنّ المغامرة أو المخاطرة هي صفة الكائن آنَ استجابته للكينونة باعتبارها مُرادف النُقصان بدءًا وانتهاءً وفي الأثناء، تقريبا؟(15).

الهوامش:

  1. سناء كامل الشعلان، “الكابوس”، إصدارات دائرة الثقافة والإعلام، حكومة الشارقة، ط1، 2006م.
  2. “اعتادت أن تحضن الفراغ في حين يحضن غيرها قلوبا حانية عاشقة (. . . ) الكُلّ يروي لها حلمه، ولكنْ لا أحد يُفكّر في أن يسمع حلمها الّذي سرعان ما مُسِخ في ذاتها، ليُصبح كابوسًا مُضنيا. . . “، السابق، ص13.
  3. السابق، ص24.
  4. السابق، ص31.
  5. السابق، ص36.
  6. السابق، ص39.
  7. السابق، ص178.
  8. السابق، ص117.
  9. السابق، ص121.
  10. “وجلس بانكسار على تخوم ضفّته الجديدة، وأخذ يُراقب الضفّة الأولى من جديد، حيث النساء من مرمر والرجال من عسجد، والأرض تفيض لبنا وعسلا، فكّر بأن يُصبح نبيّا مَرّةً أخرى، لكنّ الباقي من العمر كان لا يفي بذلك”. السابق، ص154.
  11. “اعتاد أن يجلس في مقعده الهزّاز قُبالة شرفة منزلها الّذي هجرته منذ زمن لينتظر إيّابها الّذي لم يحدث”. السابق، ص154.
  12. “ونزل المطر. . . وانتظرها على التلّة الموتورة بسياجها العجوز، ولم تأتِ. وانتظرتْه في غرفة العمليّات. . . ولم يأتِ”. السابق، ص165.
  13. سناء الشعلان، “قافلة العطش”، الأردنّ: الورّاق وأمانة عمّان الكبرى، ط1، 2006م
  14. إنّ “قافلة العطش” هي استمرار في نهج “كابوس”، ولكنْ بالمراهنة في الأساس والمرجع على الواقعيّة الّتي لا تخلو من إيحاء، وبضروب حادثة من التبعيد بين الذات الساردة والفعل السرديّ. ذلك ما يجعل القصّة أكثر حكائيّة وأرسخ حضورًا في موصوف الوقائع وألصق وجودًا بالدقائق والتفاصيل.
  15. L’ironie’’,France :Flammarion,1964 ,p9. Vladimir Jankélévitch

. . . . . . . .    *****. . . . . . . . .

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here