شعر تاكُور الرومانسي: قصيدة القارب الذهبي أنموذجا

Vol. No. 2, Issue No.3 - July-September 2022, ISSN: 2582-9254

0
847
شعر تاكُور الرومانسي: قصيدة القارب الذهبي أنموذجا

     د. شفيق الإسلام

 أستاذ مساعد ورئيس قسم اللغة العربية، الكلية الحكومية لشهادة البكالوريوس للبنات، كولكاتا، الهند.

—————–

الملخص:

               لعب الشاعر البنغالي العظيم روبيندرنات تاكور (طاغور) (بالبنغاليةরবীন্দ্রনাথ ঠাকুর  – رُوبيْنْدْرُناتْهْـ تَهْاكُوْرْ) دورا أساسيا في ترقية الشعر الرومانسي البنغالي بالإضافة إلى مساهماته الكثيرة في ميادين عديدة. سنتناول في هذه الورقة البحثية شعره الرومانسي بما فيه قصيدة “القارب الذهبي”. لا يعالج الشاعر الرومانسي في شعره الحب فقط بل يعبر فيه عن أشياء كثيرة أخرى. أدخل الشاعر بيهاريلال تشوكربورتي الرومانسية في الشعر البنغالي وترك شعره في نفس طاغور أثرا كبيرا. فأنتج الأخير أعمالا رومانسية عديدة بما فيها المجموعات الشعرية التالية: “مانوسي”، و“سونارتوري”،و“تشيترا” و“تشويتالي”، وقصيدة “القارب الذهبي” التي تشتمل عليها مجموعة “سونارتوري”. نقلنا هذه القصيدة من البنغالية إلى العربية ثم شرحناها.

الكلمات المفتاحية: البنغالية، روبيندرنات، تاكور، طاغور، الشعر الرومانسي، القارب الذهبي.

تمهيد:

إن الشاعر البنغالي طاغور ، الحائز على جائزة نوبل سنة 1913م في الآداب، ليس بحاجة إلى التعريف على الإطلاق، فهو ذائع الصيت منذ نيله جائزة نوبل في العالم كله بما فيه العالم الأوربي والعالم العربي، بيد أنه لم يشتهر في الآفاق غير البنغالية بالتهجية التي كتبنا بها اسمه ــ إذ هي الأقرب إلى اسمه في البنغالية نطقا ــ  بل يعرفه العرب بـ”رابندرانات طاغور، أو رابندرانات تاجور أو رابندراناث طاغور كما تدل على ذلك كتابات العرب عن هذا الشاعر[1].

والسبب في ذلك، حسب علمي، أن ليس هناك كاتب عربي يعرف اللغة البنغالية التي كتب بها الشاعر روبيندرنات تاكور جميع إنتاجاته. لذا استعار الكُتّاب العرب تهجية ولَفْظ اسم الشاعر المذكور أعلاه من كُتّاب اللغة الإنكليزية الذين كتبوا اسمه كما يلي: Rabindranath Tagore كما فعلوا بأعلام بنغالية أخرى.

أما مكانة تاكور في عالم الأدب وامتيازه عن كثير من شعراء العالم، فيقول عنه ميخائيل نعيمة: “كان أنشودة عذبة في فم الحياة فكانت الحياة أنشودة عذبة في فمه. وكان جوهرة نادرة في خزانتها فكانت جوهرة نادرة في خزانته. لقد غنته فغناها وأغنته فأغناها. والحياة التي غناها طاغور كانت بعيدة منتهى البعد عن الحياة التي غناها أكثر الشعراء ممن سبقوه وعاصروه وجاؤوا بعده”[2].

مسيرة تاكور الشعرية:

 كان تاكور من الأعلام متعددي الجوانب القلائل الذين وُجدوا في الغبراء في تاريخ الأدب العالمي. فنبغ في ميادين كثيرة واشتهر كروائي، وقاص، وشاعر، وموسيقي، وكاتب مسرحي وفلسفي وما إلى ذلك. ولكن لم يذع صيته في الآفاق  كشاعر رومانسي حسبما نعلم. والحق أنه كان شاعرا رومانسيا كبيرا في تاريخ الأدب البنغالي وبيديه كملت الرومانسية التي أدخلها أستاذه بيهاريلال في الشعر البنغالي.

ويبدو من كلمة الرومانسية أنها مترادفة لكلمة ’الحب‘؛ لأنها مأخوذة من كلمة رومانس (Romance) التي من معانيها  الحب. وفعلا يفهم كثير من الناس قراء وسامعين الرومانسية هكذا؛ لأن أذهانهم تتبادر إلى رومانس عند قراءتها وسماعها.

وليس الأمر كذلك. فليس معنى الرومانسية الحب فقط، وحتى الحب الرومانسي يختلف عن الحب الكلاسيكي. فالحب الكلاسيكي يمارَس حسب تقاليد المجتمع ونظامه وقوانينه الذي يعيش فيه الشاعر المحب، وأما الحب الرومانسي فهو حب عشوائي لا يتبع أي قانون، أو نظام أو تقاليد.

وأما الخصائص الأخرى التي تميز الأدب الرومانسي نثرا وشعرا، فمنها الذاتية. فالشاعر الرومانسي يعبر عما في داخله من الأحاسيس الحارة، والآلام والأوجاع، والخواطر، ولا يهمه ما يحدث في المجتمع والبلاد والمدن. وتنعدم هذه الخصيصة تماما في الشعر الكلاسيكي. ومنها حب الطبيعة. فنجد الشعر الكلاسيكي يصف الطبيعة وصفا بحتا لا حبها بينما نجد الشاعر الرومانسي يصف الطبيعة ويمزج مشاعره معها أيضا.

وقد يكني عن نفسه بالطبيعة كما فعل بليك في منظومته “الوردة المريضة”. ومن هذه السمات، حب الريف. فالشاعر الرومانسي وحيد من الخلان المخلصين كئيب ومُعذّب عذابا نفسيا لمعرفته الحقائق المريرة في الحياة وانفعاله بها انفعالا شديدا بسبب حساسيته المفرطة. فيحن إلى جمال القرى والمشاهد الطبيعية في الأرياف ليروح بها عن نفسه ويزيل بها كآبته وسأمه وضجره. ونفقد هذه السمة في الشعر الكلاسيكي تماما. ومن الميزات البارزة – التي تميز العمل الرومانسي عن غير الرومانسيين – الخيال. فالشاعر الرومانسي لا ترضيه العلوم والمعارف الكثيرة التي جمعها وكدسها؛ لأن عقله لا يقتنع بها، فيلجأ إلى الخيال هربا من الحقائق المريرة والواقع المؤلم في الحياة. ويفقد الشعر الكلاسيكي هذه الميزة تماما. ومن الخصائص التي تختص الرومانسية بها دون غيرها من المذاهب، حب الخريف. فعادة، يحب الشعراء الكلاسيكيون الربيع من فصول السنة. أما الرومانسيون فيحبون الخريف منها؛ لأن أحوالهم النفسية تشبه المناظر الطبيعية في الخريف. ففيه تتساقط أوراق الأشجار فتخلو منها وتعرى من الجمال والسرور. فيشبهونها بها في أعمالهم وأشعارهم.

ومن السمات البارزة للرومانسية العاطفة. فالشعراء الرومانسيون  يعطون الأهمية الكبرى للعاطفة؛ لأن التعبير عن خوالج النفس ووساوسها بالعواطف الجياشة هو السبيل الوحيد لفرحهم وسرورهم وسكينتهم وهنائهم وسعادتهم[3].

بعد هذا الاستطراد اللازم لفهم الرومانسية نرجع إلى روبيندرنات تاكور. فقد تلقى دروسه الأولى لممارسة الشعر من بهاريلال وحده، ثم أدهش العالم بروائع أشعاره المتسمة بالذاتية[4].

ساعد شعر بيهاريلال في بناء شخصية تاكور الشاعرية إلى حد كبير. ويعرف الجميع [قراء الأدب البنغالي] تأثير بيهاريلال على روبندرناتهـ. فتأثر تاكور ببيهاريلال في المرحلة الأولى من حياته في تصور الشكل الأسمى  للجمال والحب وفي الميل الجامح إلى الطبيعة[5].

علاوة على ذلك، ساعده تأثره بفحول الشعراء الرومانسيين الإنكليز على تطور نظرته الذاتية. نظم تاكور في أوائل حياته الشاعرية، حسب التقليد السائد آنذاك، الشعر على منوال القصائد القصصية. ولكن لم تكن قصائده القصصية مبنية على فُورانْ، أو تاريخ أو أساطير، بل كانت شعرا رومانسيا غريبا نتج عن تصور الشاعر. وفي معظم الأحيان، بطل هذه القصائد الحكائية شاعر. وعند إنشاء الشعر أيضا، لم يستطع الشاعر أن يتبع الطريقة الواقعية للتعبير، بل تكامل شعره بألوان من عواطفه ومشاعره. وسرعان ما أدرك تهاكور، أن ذلك ليس طريقته لقرض الشعر؛ لما أنه تقليد بحت في ممارسة الشعر، تقليد للقصائد الحكائية الطويلة للشعراء السالفين وتقليد لغة بيهاريلال وبحره. ثم إن الشاعر عرف طريقته منذ زمن مجموعة أغاني المساء (سوندها-سونغيت)، وعبر عن أفكاره وأحاسيسه في صورة الشعر الذاتي في طرائق مختلفة[6]. والشعر الذاتي (lyric): الشعر المعبر عن أفكار الشاعر وأخيلته الخاصة ، باختصار إلى حد نموذجي في مقاطع أو أشكال معترف بها[7]، أو الشعر المعبر عن العواطف الشخصية المباشرة عادة المفرطة بطريقة موحية بأغنية.[8]

لم يتلق روبندرناتهـ تصور مثال أصلي من شعر بيهاريلال فقط، بل ترك عليه الشعراء الإنكليز الرومانسيون أيضا أثرا خاصا. وأحس الشاعر منذ زمن  مجموعة مانوسي ذاتا لامحدودة للحب. وتنفس الصعداء عندما لم يجد ذلك الحب المثالي في بني آدم. وتجاوز الحب لديه من شهوة جسديه إلى شيء سار لامحدود. نجد تصوره الكامل الناضج للشكل الأصلي للجمال في قصيدة مانُسْ-سُنْدُري الواردة في مجموعة القارب الذهبي (سونارْتُوريْ). إلهة جمال العالم هي مانس-سندري لشاعرنا. وتلك الأجنبية المليئة بالأسرار قد حملته في القارب الذهبي لسفر بدون غرض قاصدة ميناء وراء البحر. وأصبحت تلك المتشكلة بأشكال مالكة قلب الشاعر في مجموعة تِشِيْتْرا. وبعد ذلك أثر عليه أوفنيشود[9] تأثيرا بالغا، فأصبح هذا الإحساس المضطرب المليئ بالأسرار أكبر وأكثر إيحاء وموجودا في كل مكان. وظهر اللامحدود السار في الخلق، فوجد ذاته اللامحدود في جمال العالم والحياة وحلاوتهما وفي الحب. وبهذا الإحساس المركزي، ملك الشاعر جميع أنواع الجمال والحلاوة والحب. ثم تحول هذا الإحساس الرومانسي الغامض المضطرب إلى إحساس صوفي كامل ناضج هادئ[10].

إن الميل الجامح إلى الطبيعة والحب الجم لها من أهم خصائص شعر تهاكور. بسب الإقامة في المدينة في منزل يحيطه أسوار، بعيدا عن البيئة الطبيعية، تولد في شاعرنا ميل جامح إلى الطبيعة وتضاعف هذا الميل بعد قراءته شعر بيهاريلال[11]. ويقول روبندرنات نفسه في هذا الصدد: “كان يحس قارئ ناشئ في قلبه فراغا هائلا بعد قراءة كلام بيهاريلال …. وترددت دعوة البحار والغابات والجبال في قلب هذا القارئ الناشئ … وفي شعر بيهاريلال رأيت العاطفة المفرطة التي يبدو بظهورها بيت معهود به غريبةً و يحن الإنسان إلى العالم المجهول[12]. إن تاكور لمس لأول مرة في كلام بيهاريلال في وصف الطبيعة العود الذهبي الذي تصير بلمسه روح الطبيعة كلها حية متيقظة وتحضننا في كَنف الحب الشديد. ثم أصبح حبه للطبيعة أشد وأكبر بعد تأثير أوفنيشود عليه فنظر إليها من خلاله في صورة أحدث. وأدرك أنه يجري تيار روح واحدة في الإنسان والطبيعة، وأحس أن علاقته مع الطبيعة علاقة أزلية أبدية، كما ذاق في جميع أشكالها وأذواقها ’الجميل‘ و ’ذا الذوق‘. منذ صغره إلى خاتمة حياته الطويلة، لم تخلَق الطبيعة لديه للحظة واحدة. بل ظهرت دائما أمام عينيه جديدة، وذات أسرار وعجب ومتلونة في ألوان شتى، ولم تتغير نظرته العاشقة والرومانسية وذات الأسرار قط طوال حياته. وبإحساسه تميز شاعرنا عن الشعراء الرومانسيين الآخرين[13].

آثاره الرومانسية:

من أشهر وأجود ما خلّف روبيندرنات تاكور لخلفه من الشعر الرومانسي المجموعات الشعرية التالية: مانوسِيْ، وسُونارْ ُتورِيْ، وِتِشيْتْرا، وتُشوْيْتاليْ.

تتسم رومانسية تاكور بالخيال وعدم الواقعية والهروب من الواقع والتفاؤل. ويحتل الحب حيزا كبيرا في إنتاجاته. فقد عبر في طرائق شتى في كتابه ’مانوسي‘ عن أحاسيس المحب الحارة (في منظومات:’الانتظار‘ و’الاستسلام‘) وفشل الحب والغرام في أرض الواقع ( في قصائد: ’الحب الخفي‘ و’الزوجة‘ و’المحادثة الحبية للزوجة البنغالية‘ و’كلام المرأة‘ و’كلام الرجل‘ و’غنى الفؤاد‘ و’الأمنية العديمة الجدوى‘ و’رخائي‘[14] وقصيدة “القارب الذهبي” (سونارْتوريْ / সোনার তরী) الواردة في مجموعة القارب الذهبي. وها نحن نترجم لكم القصيدة فيما يلي.

قصيدة “القارب الذهبي”

القصيدة: لروبيندرنات تاكور

نقلها من البنغالية إلى العربية: د. شفيق الإسلام

تنزل الأمطار الغزيرة من السماء وتصحبها الرعود.

وأنا جالس وحدي على الشاطئ غير مطمئن.

حصدنا الأرز كثيرا وجعلنا منه أكواما

والنهر ملآن وتياره شديد الجريان ـــــ

وأثناء قطع الأرز هطل المطر.

أنا في حقل صغير وحدي ــــ

وتتلاعب مياه النهر المتعرّج في جميع الجهات.

نرى في الشاطئ الآخر قرية مظللة بأشجار

ويغطيها السحاب في الصباح كأنها لوحة.

وفي جانبي من النهر حقل صغير، وأنا وحدي.

من[15] يأتي إلى الشاطئ مغنيا مُجذِّفا زورقه!

إخال أني أعرفه.[16]

يمضي بالشاطئ في قاربه المُشَرَّع، غير ملتفت إلى أي جانب،

ويشق حيزومه الأمواج المسكينة ويجعلها في طرفيه ـــ

إخال أني أعرفه.

يا حبيبي، إلى أين تذهب، إلى أي بلد أجنبي مجهول؟

دع مركبك يرسو إلى الشاطئ مرة.

اذهبْ حيث تشاء، وأعطِ من تشاء ـــ

ولكن تعال إلى الشاطئ وخذ أرزي الذهبية فقط[17] بعد طيف ابتسامة.

احمل كل ما تريد على مركبك.

هل من مزيد؟ ـــ لا، لقد ملأت زورقك.

ما ادخرت في الشاطئ طوال هذا الزمن الطويل مخطئا الظن فيه،

قد وضعت كل ذلك في الزورق صفا صفا ـــ

والآن، من فضلك احملني فيه.[18]

كلا، لا مكان خال، لا مكان خال، فالزورق صغير،

ممتليء بأرزي الذهبية.

غطى السحاب الكثيف سماء شرابون،[19] وما فتئ ينتقل من مكان لآخر،

ذهب الزورق الذهبي بكل ما كان لديّ،

وتُركتُ أنا وحدي على الشاطئ  الخالي المقفر.[20]

لفهم قصيدة “القارب الذهبي”  حق الفهم، نرى من اللازم أن نبين خلفيتها. خطرت هذه القصيدة ببال الشاعر يوم كان الفلاحون يعبرون نهر بودّا[21] ذا التيار الشديد حاملين الأرز غير الناضج في القارب المشحون. ولكنه نظمها في شهر فالْغونْ، سنة 1298 بنغالية / فبراير- مارس، 1892م في شيلايْدُوهُوْ. ويقول الشاعر نفسه عن زمن كتابة هذه القصيدة:

“كنت في زورق. وكانت السحابة السوداء تنوء بالمطر. وعلى الشاطئ الآخر، القرى مظللة بأشجار كثيفة، ونهر بودّا يجري بسرعة فائقة، وأحيانا يدور الزَبَد ثم يمضي. والنهر يغمر الضحل وما فيه من الأرز قبل الأوان. ويعوم قارب الفلاحين المملوء بالأرز غير الناضج على تيار النهر بسرعة خاطفة… فتخفى صورة نهر بودّا الممتلئ في ذلك اليوم الغائم في قلب قصيدة “القارب الذهبي” ولكنها تظهر في بحورها.”[22]

إن قصيدة “القارب الذهبي” لروبيندرنات تاكور تحويها مجموعته الشعرية المسماة بنفس الإسم أعني “القارب الذهبي” (سونار توري)، واختارها الشاعر أيضا في مجموعته الشعرية المعنونة بـ“مختارات”(تُشونْتُوئِيْتَا).

أكثر الشاعر تجواله أيام نظم هذه القصيدة، في قرى وأرياف شرق البنغال، وأقام في شِيْلايْدُوهُوْ، وسجاد فُوْرْ، وكاليْغِرامْ وفوتِيْسُورْ للاعتناء بأملاك أسرته العقارية. وتوسعت معرفته بسكان الأرياف رجالا ونساء، وأفراحهم وآلامهم، وابتسامتهم وبكائهم وآمالهم وشكاواهم. وأسعفته الفرصة أيضا ليشعر بهذه العواطف في قلبه. فظهرت هنا أرياف البنغال بجمالها وخصائصها بإحساس الشاعر المرهف جديدة لونا وشكلا وخيالا. وبذلك تفسر قصيدة “القارب الذهبي”.

قام الشاعر بتصوير عمر الإنسان كله في هذه القصيدة تصويرا بارعا جميلا. مثل دوام جريان النهر، عقربا الساعة دائما التقدم، فلا يتوقفان أبدا. وحياة الإنسان مثلهما تماما، فلا تمكن استعادة برهة مما مضى من حياته.

يكدح الإنسان طول حياته، وعندما تكمل إنجازاته، يشعر أنه في نهاية مطافه للعمر وقرب أجله. فيقول تاكور في القصيدة التي نحن بصدد شرحه:

“ما ادخرت في الشاطئ طوال هذا الزمن الطويل مخطئا الظن فيه،

قد وضعت كل ذلك في الزورق صفا صفا ـــ”

ولما فرغ من حمل جميع ما كسبه طيلة الحياة في الزورق مخطيء الظن فيه، التمس من ملاحه أن يحمله أيضا، فأجابه الملاح:

“كلا، لا مكان خال، لا مكان خال، فالزورق صغير،

ممتليء بأرزي الذهبية.”

فحمل الملاح جميع مكاسب الشاعر وأعماله المتمثلة بأكوام الأرز الذهبية، ولكنه، يا للأسف، رفض أن يعطي صاحب هذه المكاسب وهو الإنسان، مكانا في القارب.

فيقول الشاعر شارحا قصيدته:

يمر الزمان وينقضي، ويودعه الإنسان جميع أعماله ومفاخره، فيقبله كله الزمان وينقله من عصر إلى عصر ومن بلد إلى آخر ويحفظها. ورغم ذلك، لما التمس الإنسان من الزمان قائلا: “من فضلك، احملني الآن” أدرك أنه:

“… لا مكان خال، لا مكان خال، فالزورق صغير،

ممتليء بأرزي الذهبية.”

ينقل الزمان أعمال الإنسان ومفاخره ويحفظها، لكنه لا يريد أن يحفظ أصحاب تلك الأعمال والمفاخر. فيحمل الزمان مآثر هوميروس، وبَالْميكيْ، وكاليْداسْ، وشيكسبير، ونابليون، والإسكندر وبُرُوتابْ سِيْنْغُهْو وأمثالهم، ولكنه لم يحفظ أصحاب تلك المآثر. ولم يحفظ التاريخ أسماء الذي اخترع النار والذي اخترع منول حياكة الثياب، ولكن أعمالهم خالدة الذكر في تاريخ الحضارة الإنسانية”.[23]

ويقول الشاعر في موضع آخر ما يبدو شرحا أيضا لقصيدته المذكورة آنفا:

“قد حمل الإغريق والرومان جميع حصادهم في قارب الزمان الذهبي ولكنهم لم يقدروا على اللجوء إلى ذلك القارب ليبقوا جالسين عليه حتى هذه الأيام، ما خفف من أوزاره غير اللازمة ولكنه لم يتضرر به شيئا.”[24]

فالشاعر يرى أن العالم يستفيد من ثمار أعماله وأفكاره ومعارفه، فينبغي للإنسان أن يذكر حياة الشاعر الشخصية ويحبه، ولكن هيهات لما يتمنى الشاعر.

فزبدة قصيدة “القارب الذهبي” في ضوء قارضها أن الشاعر قام بمجاهدات شعرية أياما طويلة. وحان تسليم أعماله الشعرية إلى قارب الزمان الذهبي. فقال الشاعر وقد أصبح معدما بعد أن أسلم حصاده الذهبي الناتج من مجاهداته: “من فضلك، احملني الآن”. فحمل تيار الزمان أرز الشاعر الذهبية (الأعمال الشعرية) في زورقه الذهبي المشحون، ولكن الشاعر لم يجد له مكانًا فيه. والسبب في ذلك أن ملاح القارب الذهبي قَبِل إبداعات الشاعر فقط ناظرا في مستقبله. كأنه قال له: إن ما جمعت طول حياتك ليس محاصيلك النهائية. فسيأتي في حياتك المطر والربيع تكرارا. فعليك أن تنتج الغلة الذهبية زمنا طويلا جالسا في شاطئ النهر المقفر. فلذا بقي الشاعر في شاطئ النهر وما به أنيس.

“بقيت على شاطئ النهر المقفر.”

وحينئذ خرج صوت شاقا قلبه:

“ذهب القارب الذهبي بكل ما كان عندي”.

وفي انفجار الآلام الشديدة من قلب الشاعر بهذه الطريقة المثيرة للحزن حياة قصيدة “القارب الذهبي”. قام الشاعر فيها بتقديم صورة خيالية عابرة مثيرة للحزن والأسى من حياة الشاعر؛ وذلك بمناسبة حمل الأرز المدخر في القارب. عندما يريد الشاعر أن يتوقف عن كتابة الشعر، تمنعه ملهمة الشعر من ذلك وتتركه منتظرا في ميدان عمله لينتج غلة أكثر وأغلى. وهذه الطمأنة بارقة أمل له وسط ظلام الآلام.

قرض تاكور قصيدة “القارب الذهبي” متذكرا سحب السماء في شهر شرابون في وسط الربيع. إن هذه القصيدة من ذلك القبيل من الشعر الذي يمزج الشاعر فيه كل شيء من عالمه الخارجي بقلبه المفتوح ويصير بذلك عالمه الخارجي عالمه الذاتي.

تتسم مرحلة كتابة مجموعة “القارب الذهبي”بخصائص مختلفة. فنجد فيها الشاعر مستغرقا في ذاته. وتظهر موهبته كاملة وتستطير أشعته الظُهرية في العالم. وتنتقل نظرته إلى الطبيعة والإنسان من أشعة عالم الخيال إلى العالم الواقعي وهوائه الطلق وسمائه الواسعة كما ينبجس إحساسه الجمالي وإحساسه العالمي بقوة شديدة. ويضيئ سنا قصائده بما فيها “القارب الذهبي” العالم بالشاعرية، والخيال الشعري، وروعة الأسلوب، وجمال اللغة وتنوع البحور.[25] وهنا امتزج الإنسان والطبيعة، في نظرة الشاعر الداخلية، بالطبيعة العالمية والعالم الإنساني كله. ويسوغ لنا أن نطلق عليه الإحساس العالمي. ويمكن حدوثه بباعث الشاعر الداخلي أو بتشجيع إله القلب. ومن الممكن أن يكون إله القلب هذا ملاح “القارب الذهبي”. وليس إله القلب هذا قوة ما فوق طبيعية، بل هو حافز الشاعر على التعبير الذي يصوغ العالم كله بالصياغة الأدبية جالسا في قلب الشاعر. منشأ قصيدة “القارب الذهبي” الطبيعة وتيار النهر الجاري، أدرك فيها الشاعر الصلة بين الميلادات، ورآها هنا باستخدامه الرموز، والاستعارات والكنايات.

ظهرت في مجموعة “القارب الذهبي”صورة بنغلاديش الكثيرة الأنهار ودوام جريان بودّا، خلال صور فنية وصور خيالية متلونة مجزّأة، في إيماءات غامضة أحيانا، وفي وجه الطبيعة الكئيب عند هطول المطر أحيانا. وقصيدة “القارب الذهبي” أيضا صورة طبيعية لضحل النهر الذي غطاه مثل هذه الأمطار الغزيرة. وتجلت فيها أيضا علاقة عالم الشاعر الداخلي مع الطبيعة الريفية.

الهوامش:

[1]  انظر مثلا: طاغور، رابندرانات،  روائع في الشعر والمسرح، ترجمة: بديع حقي؛ المدى، دمشق، سوريا، ط2، 2010م؛ والتليسي، خليفة، هكذا غنى طاغور، الدار العربية للكتاب، ليبيا-تونس، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1989م ؛ والعقاد، عباس، كتاب السادهانا للحكيم الهندي تاجور، مقال في كتاب ساعات بين الكتب؛ و الخطيب، محب الدين، طاغور: بيئته-طفولته-شبابه.

[2]   نعيمة، ميخائيل، الغربال الجديد، مؤسسة نوفل، بيروت، لبنان، ط 2، 1978، ص 24

[3]  رسالتنا للدكتوراة المعنونة بـ“الرومانسية في الشعر العربي والشعر البنغالي: دراسة مقارنة، ص4-5.

[4]   بُهوتّاشارْجو، أُوفينْدْرناتهـ، روبينْدْر-كابُّو-فُرِيكُراما، ص 6.

[5]   روبينْدْر-كابُّو-فُريكُراما، اُوْرِئِيْنْتْ بوكْ كُمْفاني، كولكاتا، ط 11، سنة 1418 بنغالية، ص 9.

[6]  روبينْدْر-كابُّو-فُريكُراما، مصدر سابق، ص 9-10.

[7]  منير البعلبكي، المورد،؛ Hornby, A S, ed. Wehmeier, Shally, Ashby, Mikhael, لآ÷, Oxford University Presse, 6th Edition, 2000; Aungus Stevenson & Maurice Waite, (Ed.) Concise Oxford English Dictionary, Oxford University Press, 12th Edition, 2011

[8]   Merriam-Webster’s Collegiate Dictionary, Merriam-Webster, Incorporated, Massachusetts, U.S.A., 11th Edition, 2003

[9]  أوفنيشود: مجموعة كتب خاصة دينية للهنديوسية.

[10]   روبينْدْر-كابُّو-فُريكُراما، مصدر سابق، ص 10-11.

[11]   ومن أمثلة شعر بيهاريلال من هذا القبيل ما يلي. يصف شاعرنا جبال هماليا بالطريقة التالية:

البحر تحت قدمها والإله فوق رأسها،

ويتضاءل دونها النجوم والشمس والقمر.

…………………………………….

والبحر الأزرق قدامها     والغبراء ممتدة حولها،

ينظران إليها ويسخران منها.

والعاصفة بنت مضطربة، تلعب بصدورها،

والبحر متمدد تحت قدمها بعد ابتلاعه الغبراء.

(بونْدوفادّهايْ، واستكمار، بانْغْلا ساهيتِّيْرْ إِيْتِيْبِرِيْتُّو، مودَرْنْ بُكْ إِيْجِنْسِيْ، كولكاتا، الهند، 2007،ج 8،  ص 300).

نجد في هذه الأبيات وصفا دقيقا جميلا لجبال هماليا الشامخة الضخمة. وقد قارن الشاعر هجوم العواصف والزوابع عليها وملاعبتها معها، بفتاة مضطربة متململة تأسر قلب رجل وتلعب به بشكل متتابع. ثم يقول شاعرنا:

ها أنا قائم على ذلك الشاطئ مرة أخرى

حيث تجري كومة المياه في شكل الأمواج.

ودِّعني، أيها البحر المتسامح،

اسمح لي اليوم لأذهب.

(واستكمار،ج 8،  ص 301-302).

في أبيات بيهاري هذه، تمتزج أمواج البحر بقلوبنا.

[12]   تاكور، روبيندرنات، آدُهْونِكْ ساهِيْتُّوا، بِيْشّوبهارُتي، كولكاتا، 1314  سنة بنغالية ، ص 27-31.

[13]   روبينْدْر-كابُّو-فُريكُراما، مصدر سابق، ص 11

[14] موخوفادّهْايْ،  وُرُوْنْ كُمارْ، روبيْنْدْرَنوساريْ كوبيْ سُواماجْ،  دِيْز فَبْلِشِنْغْ، كولكاتا، ط 2، 2008، ، ص 17-18

[15]   كلمة “من” تشير هنا إلى شخص مجهول.

[16]  المعنى البسيط لهذا السطر: هو أنه أثناء انتظار الشاعر مع غلته المحصودة قاربا عند اقتراب نزول المطر، يلوح له ملاح من بعيد يخيل إليه أنه  يعرفه. ولكن له معنى سري أعمق وهو أن الشخص الذي يخيل إليه أنه يعرفه، قريب منه وعليم بذات صدره.  تصور روبيندرونات تاكور في خياله الشعري باعثا داخليا أو قوة داخلية زائدة منفصلة عن “أنا” الشخص، يطلق عليها إله القلب أو إله الحياة نجد بدايتها في قصيدة القارب الذهبي وكمالها في كتاب “تشيترا”. هي ملهمة الشاعر  والإلهة الساكنة في شعره…

(https://bengaliforum.com/sonar-tori-poem-summary-in-bengali/

Date: 01/3/2022)

[17] خذ أرزي الذهبية فقط: إن نجاح الخالق يكمن في أن يحمل الملاح أجود أعماله في قارب الزمان. ولكن ملاح الزمان يمضي قُدُما بقلب منشغل عما حوله. فلذا يلتمس منه الشاعر التماسا خاصا أن يحمل في الزورق ثماره المجنية طيلة حياته الطويلة.

[18]والآن، من فضلك احملني فيه: معناه: أنا جالس في حقل صغير وحدي. فمن فضلك احملني في الزورق. ويمكن أن يكون معناه الروحي: حررني من جميع محابس الأعمال، أو: صِل وجودي بعملي.

[19]  شَرَابونْ: الشهر الرابع من التقويم البنغالي.

[20] تاكور، روبيندرنات، تشونتشوئيتا ، بِيْشّوبهارُتي، كولكاتا، ط 11، 1416 بنغالية، ص 108-109.

[21] بُودّا: الجزء البنغلاديشي من نهر غنغا.

[22]  تشاروتشونْدْرو بونْدوفادْهْايْ، روبي – روشّي، إيه. مُخِرْجي إينْدْ كَمْفني، كولكاتا، ط 5، ج1، ص 299

[23]   تشاروتشونْدْرو بونْدوفادْهْايْ، روبي – روشّي، إيه. مُخِرْجي إينْدْ كَمْفني، كولكاتا، ط 5، ج1، ص 296

[24]  تشاروتشونْدْرو بونْدوفادْهْايْ، روبي – روشّي، إيه. مُخِرْجي إينْدْ كَمْفني، كولكاتا، ط 5، ج1، ص 297

المراجع والمصادر:

المراجع العربية والبنغالية:

  • بونْدوفادّايْ، تشاروتشونْدْرو، روبي – روشّي، إيه. مُخِرْجي إينْدْ كَمْفني، كولكاتا، ج 1 ط 5
  • بونْدوفادّايْ، واستكومار، بانْغْلا ساهيتِّيْرْ إِيْتِيْبِرِيْتُّو، مودَرْنْ بُكْ إِيْجِنْسِيْ، كولكاتا، الهند، 2007
  • بُوتّاشارْجو، أُوفينْدْرناتْ، روبينْدْر-كابُّو-برِيكُراما، اُوْرِئِيْنْتْ بوكْ كُمْفني، كولكاتا، ط 11، سنة 1418 بنغالية
  • التليسي، خليفة محمد، هكذا غنى طاغور، الدار العربية للكتاب، ليبيا-تونس، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1989م؛
  • تاكور، روبيندرنات، آدُونِكْ ساهِيْتُّوا، بيْشّوبارُتي، كولكاتا، 1314 سنة بنغالية
  • تاكور، روبيندرنات، تشونتشوئيتا ، بيْشّوبارُتي، كولكاتا، ط 11، 1416 بنغالية
  • الخطيب، محب الدين، طاغور: بيئته-طفولته-شبابه، ، المطبعة السلفية ومكتبتها، القاهرة
  • د. شفيق الإسلام، رسالة الدكتوراة المعنونة بـ”الرومانسية في الشعر العربي والشعر البنغالي: دراسة مقارنة، المقدمة إلى قسم اللغتين العربية والفارسية، جامعة كلكتا، كولكاتا، الهند، عام 2018، غير منشورة.
  • الزوزني، الحسين بن أحمد بن الحسين، شرح المعلقات السبع،دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، ط 1، 1423هـ – 2002م.
  • سونْغْسودْ بانْغْلا أوبِهْدهْانْ ، ساهيتو سونغسود، غرب البنغال، الهند، ط 4، 1984.
  • طاغور، رابندرانات ، روائع في الشعر والمسرح، ترجمة: بديع حقي، المدى، دمشق، سوريا، ط2، 2010م؛
  • العقاد، عباس محمود، كتاب السادهانا للحكيم الهندي تاجور، مقال في ساعات بين الكتب.
  • قاموس سونْغْسودْ: بنغالي – إنكليزي، ساهيتُّو سونغسود، غرب البنغال، الهند، 1995
  • المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية بالقاهرة.
  • موخوفادّايْ، وُرُوْنْ كُومارْ، روبيْنْدْرَنوساريْ كوبيْ سُواماجْ، دِيْز فَبْلِشِنْغْ، كولكاتا، ط 2، 2008
  • نعيمة، ميخائيل، الغربال الجديد، مؤسسة نوفل، بيروت، لبنان، ط 2، 1978
  • بونْدوبادّايْ، واستكمار، بانْغْلا ساهيتِّيْرْ إِيْتِيْبِرِيْتُّو، مودَرْنْ بُكْ إِيْجِنْسِيْ، كولكاتا، الهند، 2007

المراجع الإنكليزية:

  • Baʻalbaki, Munir, Al-Mawrid, Dar el-Elm Lil-Malayēn, Beirut, 11th Edition, 1977
  • Hornby, A S, ed. Wehmeier, Shally, Ashby, Mikhael, Oxford Advanced Learner’s Dictionary, Oxford University Presse, 6th Edition, 2000
  • Concise Oxford English Dictionary, Ed. Aungus Stevenson & Maurice Waite, Oxford University Press, 12th Edition, 2011
  • Merriam-Webster’s Collegiate Dictionary, Merriam-Webster, Incorporated, Massachusetts, U.S.A., 11th Edition, 2003

……………….. ***** ……………….

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here