سردية الألم في روايات وفاء عبد الرزاق

Vol. No. 2, Issue No.4 - October-December 2022, ISSN: 2582-9254

0
572
سردية الألم في روايات وفاء عبد الرزاق

قراءة في المفهوم والإجراء- رواية عشر صلوات للجسد أنموذجا

أ.د سوسن البياتي

كلية الآداب /جامعة تكريت/ العراق

——————————-

المقدمة

انشغل الإنسان منذ أن خُلق بما يضمن بقاءه على هذه الأرض، فرأى من جراء ذلك صنوفا شتى من الآلام والقهر والاستلاب والعنف والخوف وكلُّ ما يمكن أن يهدد وجوده، فالألم يتصل بالنفس البشرية وينطلق مخلفا نزواته وتراكماته على الجسد الإنساني مشتغلا في الآن ذاته على الاثنين، فحينما يتفاقم الألم الجسدي يتفاقم معه الألم النفسي، فيرتبطان ارتباطا قسريا لا يمكن فصلهما أو قراءة أحدهما بمعزل عن الآخر.

ولا يخفى عليه وهو يناضل من أجل البقاء أن الحياة لكي تستمر لابد من مواجهة الصعوبات وأن يضع نُصب عينيه أنه خلق ومع كل هذه الشرور والآثام، وانه لابد من مواجهة الآلام بأشكالها المتنوعة.

ولعل الموت وقساوته وبشاعته هو الألم الأقسى الذي احتمله الانسان، ورضخ له، فهو الفعل الوحيد الذي عجز الإنسان أن يقف أمامه ويصارعه، وإن كانت الأدبيات القديمة تشير إلى محاولته الانزياح عن المألوف وبحثه عن سبل الخلود وقد عجز عن ذلك أيضا، ففي الوقت الذي قاسى فيه كلكامش المتاعب وواجه الصعوبات للحصول على عشبة الخلود، فإذا بالحية تستحوذ عليها مذكرا إياه بأنه من بني البشر، وإنه مكتوب عليه الموت كما كتب عليهم، فآمن أن الموت محتم وعليه أن يعيش حياته كما يريد وأن يواجه آلامه ومصاعبه بروح تضمن له البقاء.

وجاءت الرواية وهي تسعى إلى أن تشكل رؤاها وتصوراتها عن هذا الإنسان، وليصبح مدارها ومحورها الإنسان، عليه تشتغل وبه تنشغل، فكانت الشخصية الروائية تعبيرا موفقا لصورة الإنسان في الرواية، وإن كانت كائنات من ورق إلا أنها تمثل صورة طبق الأصل عن الإنسان.

فكان من البديهي أن تثير الرواية في مضمونها كلَّ ما يعترض الإنسان في حياته، ولعل الألم الذي شكل خطابا مأساويا من أبرز الثيمات التي وظفتها الرواية ونظّرت لها تطبيقيا قبل أن يستفحل وجوده وتتشعب أصنافه بمرور الزمن.

لقد كان سؤال الذات والبحث عن الهوية من أبرز الأسئلة التي طرحتها الرواية، واشتغلت عليها، ولم يكن هذا السؤال بعيدا عن الحيثيات التي تلازم الانسان في حلَّه وترحاله؛ لذا فقد دأب الروائي أن يستنطق كلَّ ما من شأنه أن يثير قضية أو يجيب عن أسئلة أو يحدد آليات اشتغال نصه الروائي من خلال التقنيات الموظفة، أو المضامين التي تطرحها الرواية لاسيما تلك التي ترتبط بشكل مباشر بالذات الأنثوية وصراعها مع الآخر لأجل البقاء وإثبات هويتها ووجودها.

والألم واحد من أكثر الاسئلة شيوعا وارتباطا بالإنسان، فهو يدرك أن الحياة لعبة لابدَّ من أدائها على نحو أفضل، وفي علاقاته مع الآخرين تنمو سردية الألم وتتشعب وتتشكل وتزدهر كلما كثر هذا الآخر في حياة الإنسان، وكلما تألم زادت قناعته بضرورة إجراء عملية استئصال للآخر من حياته.

فالألم تجسيد حي للإنسان داخل النص الروائي، به يمتاز وعنه يختلف عن الكائنات الأخرى في أنه يعبر عمّا يحسُّ به ويعاني منه، وربَّما كانت الكتابة أكثر الأدوات التي استعملها الإنسان ليعبر من خلاله عن آلامه وأحزانه وهفواته وخوفه وإصراره – في الآن ذاته- عن التشبث بالحياة.

وإذا كان الكبرياء الرجولي يمنع الرجل من أن يعبر صراحة عن آلامه، حفاظا على نقطة ضعفه التي يخشى أن تظهر أمام الآخر/ المرأة، فان المرأة بطبيعتها وطبيعة تكوينها الخلقي وجدت في الآلام متنفسا لها وتعبيرا عن ذاتها، لاسيما إذا ما نظرنا إلى هذه الثيمة على أنها نتاج فعلي يلجأ إليه الانسان، ويكون سببا رئيسا فيه.

نهضت روايات وفاء عبد الرزاق وهي تحاول ان تستنطق المرأة بكيانها وأفعالها وجمالها ومواقفها وكبريائها ودموعها وبكل ما يمكن لها ان تكون مثالا حيا في هذا الوجود، فالمرأة في روايات وفاء عبد الرزاق خاضعة لمقومات الآخر، على الرغم من أنها تحرر ذاتها بذاتها، والألم الذي تتعرض له إنما يكون الآخر شريكا فيه وربما سببا رئيسيا فيه، وما معاناة المرأة وآلامها في الرواية إلا صورة – طبق الأصل- من معاناتها وآلامها في الحياة، والمسبب الرئيس في النصين كليهما واحد وهو الرجل.

تحاول هذه الدراسة استقراء مكامن الألم في روايات وفاء عبد الرزاق وأن تغوص في أسبابها ودوافعها وأشكالها ونتائجها، وأن يكون الألم النسوي هو مدار هذه الدراسة ومحورها الأساس.

  المطلب الأول: في المفاهيم

ذكر البغدادي في خزانته أن أحدهم سأل: ((ما بال أفضل أشعاركم في الرثاء؟)) فأجاب: لأننا نقولها وقلوبنا موجعة.))([1])، في اشارة منه إلى أثر الألم في الإبداع، لاسيما الشعري ، فأفضل الأشعار واصدقها كانت تلك التي خرجت إلى غرض الرثاء، ومن هنا ندرك عمق المأساة التي عاشتها الخنساء وهي ترثي أخويها في الجاهلية وأبناءها في الاسلام، وابن الرومي وهي يرثي أبناءه تباعا، فالألم الذي يعصف بالوجدان لا يمكن تدارك آثاره الا بالحزن والرثاء، وإذا كان الرثاء المصدر الأول والأساس للألم، فإن الأغراض الشعرية الأخرى لاتني تمت بصلة بالألم، فالشكوى والهجاء والغزل العذري ليس إلا أغراض استجابت لدواع الألم، فالغزل الرقيق ليس إلا (( نتيجة لألم الهجر أو الصد أو الفراق، ذلك الألم الطويل العريض العميق الذي تتخلله لحظات قصيرة من وصال لذيذ، وليس هذا الوصال اللذيذ بمنتج أدبا كالذي ينتجه ألم الفراق. وأن الأديب كلما صهره الحب، وبرح به الألم، كان أرقى أدبا، وأصدق قولا، وأشد في نفوس السامعين أثرا.))([2]).

 أما الشوق فهو ((مزيج من الرغبة والألم، وهو قوة انجذاب إلى الآخر، وافتقار له.))([3])وهو ما يدفعنا إلى الإقرار بأن الإبداع الشعري شكَّل ((معادلا موضوعيا وفنيا للألم الحقيقي، النفسي والمادي، الذي يعانيه المبدع في الواقع، بحسب الأسباب التي تدفع اليه.))([4]).

على أن مدخلنا هذا لا يعني بالرثاء عند الشعراء ولا مقدار الألم الذي عاناه كل واحد منهم، فالسجل حافل بالآلام، والشعراء أكثر الناس إيلاما، ((وقد بيّن ابن سلام الجمحي 231ه ) أثر الألم في تحفيز القريحة الشعرية، إذ عزا مظاهر الانفعال لدى الشعراء، إلى الظروف السياسية التي أدت إلى نشوب المعارك والحروب، وما تفضي إليه من مواجع وآلام، تساعد على إثارة عواطفهم.)([5])، إذ يشكل (( الحزن والألم والمعاناة، محفزات مهمة لإبداع الشاعر، إذ يرجع الأصل في الإبداع الفني، إلى الحزن وليس الفرح، لأن ما يختزنه الشاعر من أحزان وآلام، تشكل الركيزة الأساسية التي تبنى عليها أفراحه وسروره، في المواقف التي يستشعر فيها الفرح والسرور… فالذي يجعل من حزن الشاعر لا ينتهي، هو أنه ما يكاد ينتهي من ولادة عمل حتى يهيج في نفسه عمل جديد، وتأخذ الانفعالات من جديد في السيطرة على فكره ووجدانه.))([6]).

فما هو الألم؟ وكيف يمكن التعامل معه بوصفه سردية من سرديات النص الروائي؟

الألم لغة:

يشير ابن منظور إلى أن الألم هو الوجع، والجمع آلام، وألم الرجل يألم ألما، فهو ألم، وتألم وألمته، والأليم: المؤلم الموجع.

والعذاب الأليم: الذي يبلغ وجعه غاية البلوغ، وعذاب أليم بمعنى مؤلم، والتألم: التوجع ([7]).

ويذهب الفيروز آبادي إلى أن الألم محركة بمعنى الوجع، والأليم: المؤلم من العذاب: الذي يبلغ إيجاعه غاية البلوغ ([8]).

أما اصطلاحا فيمكن عده: ((شعور شخصي بعدم الارتياح، او بوجود أذى من شدةٍ ما، لا يعرفه إلا من يجربه، ولا يحسن وصفه إلا من يعانيه.))([9])

 قصره فلاسفة العرب وعلماءهم على ((معنى الوجع الذي يصحب بعض الحالات المرضية الحادة… وهو شعور بالحزن والكآبة مصدره حادث يعوق تحقيق رغبة ما.))([10])، على الرغم من أنه (( ليس معطى تقرره المظاهر البيولوجية، وإنما هو إحساس فردي، وبالتالي فان تقويمه يتم انطلاقا من تصريحات المريض، فضلا عن ذلك فهو لا يخضع للبرهان؛ بل للإحساس والتجربة.))([11])، فهو (( شعور النفس بخروجها عن الاعتدال))([12])

ومن هنا فقد عدَّ فرويد الألم بأنه رد فعل على فقدان بداهة الوجود، من خلال انكسار داخلي، أما العذاب فهو ما يصيب الانسان بضربة تقتلعه من ذاته ([13]) ، وهو عند ليبنتز الشعور بالنقص([14]).

لقد ذهب أكثر المعنيين بدراسة هذا المفهوم وربطه باللذة، لاسيما تلك التي تتعلق بالرغبات، فكل رغبة إذا ما توافرت فإنها تشكل لذة خاصة عند الإنسان، وفقدانها هو المسار الأول الذي يحيل الفرد إلى الإحساس أو الشعور بالألم، إذ ((لا يوجد الألم الا في الرغبات التي لم تتحقق…))([15])، وانه (( قد يتولد الألم عن اليأس، الذي هو قطع الرجاء.))([16])

لذا فهو يرتبط باللذة من جهة، وباليأس من جهة اخرى، على الرغم من الفروقات الحاصلة بينهما، (( إن اللذة حسٌّ مريح أما الألم فهو حسٌّ مؤلم.))([17])، فيما يأتي اليأس على درجة قريبة من الألم كونه الجسر الذي يوصل الإنسان إلى الألم، ذلك أن الاحساس باليأس يخلق فجوة عند الانسان بعجزه عن تحقيق ما يأمله، وهذا الإحساس بالعجز يقود إلى الحزن ومن ثم الألم، الذي سيؤدي آخر الأمر إلى إحساس الإنسان بالوحدة وتقوية ((الشعور بالوحدة، لأن المتألم ينطوي على نفسه ويبتعد عن الآخرين، ويتضخم هذا الإحساس عندما يرى المتألم ألا أحد قادر على فهم معاناته.))([18])، إذ ينشأ الألم (( عندما يجابه الانسان بعائق يحول دون تحقيق تلك الرغبة

مما يكدر عليه صفوه وهدوئه ويحفزه باتجاه دفع هذه العوائق والموانع والتخلص منها.)) ([19]).

إن مفارقة الألم، تكمن في كونها تقيم الحدود الفاصلة بين الذات والعالم، وتمنح الفرد إحساسه بالحياة، فـ ((الفرد يوجد حيث يمسه الألم، واذا يوجد الألم يفقد الحس بأنه لا شيء.))([20])

لم يميز التحليل النفسي بين الألم النفسي والألم الجسدي، فكلاهما في المرتبة ذاتها، إذ يستعمل صيغ الألم النفسانية ذاتها للألم المعنوي، إذ يرى فرويد بأن هناك صلة نفسية – بدنية بين اللذة ونقيضها الألم، وبين حالات الثبات من عدمها ([21]).

وقد حدد انكساغوراس وهو أحد فلاسفة المدرسة الطبيعية المتأخرة  الألم بأنه (( حالة يشعر بها الفرد عندما يحس بأن أحد أعضاء الحواس لديه قد أجهد نفسه بعمله أكثر مما يجب، فهذا الإحساس لديه يسبب للإنسان ألما في العضو الذي يقوم بعملية الاحساس او يرتبط بها…))([22])، فهو (( معطى من معطيات الحياة البشرية، ولا أحد ينفلت منه في لحظة أو اخرى، لأن حياة من غير ألم أمر لا يتصور…والألم يحيل دوما إلى سياق شخصي واجتماعي يغير من الاحساس به.))([23]) ؛ لذا فإن الشعور بالألم هو الذي يمنحنا إحساسا بوجودنا بشرا على وجه الأرض، وأن ثمة علاقة بين الألم والإحساس به إذ  (( تكمن مفارقة الألم في كونها تمنحنا الاحساس بأننا أحياء وتقيم الحدود الفاصلة بين الذات والعالم. الفرد يوجد حيث يمسه الألم…))([24])

وهذا يقودنا إلى نقطة مهمة لابد الإشارة إليها تتمثل في أن الألم تجربة، ولابد على الإنسان أن يعيشها فـ ((الألم لا يقبل البرهنة بل يُعاش كتجربة. وقوة تأثيره خاصة بالشخص الذي يحس به.))([25])

ومثل هذا الإحساس سيقوده إلى أن يتأمل نفسه وذاته أثناء الألم، ذلك أن وجوده مرهون- نوعا ما- بما يحسه ويشعر به وما يكابده من الآلام، فـ ((  الإنسان يشعر بوجوده في اللحظة التي يتألم فيها وما يدعم ذلك أن تجربة الألم تجربة ذاتية شخصية لا يمكن أن يشاركنا فيها الآخرين، فهي خبرة باطنية تدعو الذات إلى الانعكاس على نفسها والاعتناء بنفسها وممارسة الرفض المقدس ولا يقوم الألم بدور المنبه على الخطر القادم فحسب بل يمثل حافزا قويا يدعو إلى اليقظة والشهود ويتيح للمرء الفرصة ليعيش تجربة الوحدة على حقيقتها.))([26])، لذا فمن الضروري جدا أن يعيش الإنسان ويعاني تجربة الألم بمرارته وعذاباته وإلا (( أصبح وجودنا عدما، فأن تحيا يعني أن تتألم. وهذا الألم يستمر معنا كي نظفر بالسعادة، فالسعادة لا يمكن أن تأتي دون وجود ألم، أي أنها حتمية ورديفة للألم مهما كانت شدته ومرارته.)) ([27])، فهو ((الذي يكشف لنا عن وجودنا الفردي في حدة قاسية تتمزق معها الرابطة التي كانت توثقنا بالكون… وهو الذي يتيح لنا الفرصة لأن نعاني ” تجربة الوحدة” على حقيقتها))([28])، فالبشر يشعرون (( بأن الآلام التي عانوها هي التي كونت معظم الجانب الشخصي من وجودهم… أي أن الخبرات الأليمة التي يعانيها المرء لابد من أن تندمج في صميم وجوده، فتصبح بذلك ثروة باطنة تذخرها الذات للمستقبل، وتتسلح بها ضد ما يستجد من هجمات .)) ([29])

 فهو على وفق هذا المفهوم لم يكن ((إلا مناسبة لشعور الذات بنفسها، من حيث هي متأصلة في أعماق الوجود العام، حاضرة أمام العالم الخارجي. وهذا الشعور هو الذي يجعلنا نميل إلى الوحدة في اللحظة التي نتألم فيها، لأننا نشعر عندئذ بانفصالنا عن الكون، على الرغم من تأصلنا في أعماق الوجود العام.))([30])

المطلب الثاني: سردية الألم في رواية عشر صلوات للجسد

حرصت وفاء عبد الرزاق على أن تكون المرأة قضيتها التي تشتغل عليها في نصوصها جميعا- روائية كانت ام شعرية- وبغض النظر عن الأدوار التي تجسدها، فالمرأة في سردها تتجسد ذاتا وقضية ترتبط ارتباطا وثيقا بالقضايا الوجودية في الحياة.

فشخصياتها تظهر إلى الوجود المادي مأزومة، تعيش مأساتها التي يسببها الآخر/ الرجل، منهكة، متعبة،  مكسورة لكنها في مقابل كل ذلك لا ترضخ لآلامها ولا لأحزانها ولا ليأسها، فهي شخصيات مفعمة بالأمل، متشبثة بالحياة، تجد في عملها ووظيفتها وادوارها ما يعينها على كل ذلك، وتحرص على علاقاتها مع الأخريات اللواتي عشن الادوار بالمأساة بنفس انساني منقطع النظير، وقراءة متعمقة لرواية عشر صلوات للجسد ستكشف عن عمق هذه الرؤية ومصداقية وهي تتناول حيوات شخصيات نسائية عانت ما عانت من الرجل والمجتمع والجهل والتخلف ورغبة هذا الآخر في التسلط .

تحكي الرواية قصة عشر نساء، تسميهن نساء الألم والصمت، التقين في ظرف خاص جمعتهم المحبة والرغبة في العطاء ووحدتهم المأساة، وجدوا في علاقتهم وتعارفهم الملاذ الوحيد للخلاص من الآلام التي تغلف حياتهم، ويتجسد كل ذلك في سرد روائي على لسان بطلة الرواية / أزاهير / الأنا الثانية للكاتبة، ليتم من خلالها تبادل العلاقات وليكون هدفهم الأول والأخير حكاية مأساتهم من دون تحفظ أو رياء، لننقل من خلالها إلى بربارة/ أناهيد/ لكش/ سارة / ولكل واحدة منهن صلاة خاصة بها هي صلاة للجسد الذي احتمل ما احتمل ووجد في هذه الصلاة راحته وسكينته .

إذ تأتي هذه الصلوات على نحو يغاير ما هو متعارف عليه، فهي ليست الصلوات التي يقوم بها الجسد، بل هي صلوات تتلى للجسد، وبمعنى آخر، يمكن ان نعدها اعترافا أو بوحا او كشفا للأجساد التي عانت ما عانت.

على أن هذه الصلوات ستخرق أمرين مهمين يجب أن نأخذهما بنظر الاعتبار:

الأول: إنها تقام في فضاء يفترض فيه أن يكون فضاء مشاعا للحرية والأمان.

الآخر: إنها تنتهك الأجساد وتخرق حريتها بدلا من أن تكون صلاة تحافظ على رصانة الجسد وحريته.

فالنساء اللواتي يتلون صلواتهن ماهن إلا نساء مررن بتجربة حياتية قاسية إلا أنهن لم يستسلمن وتشبثن بالحياة، فكان صراع اليأس والأمل، صراع الحب والكره، صراع الحياة والموت، ومن هذا الصراع يتولد الخوف والألم والقهر، ومنه أيضا يتولد النقيض فإذا بهن قويات، مقبلات على الحياة، ضاحكات مستبشرات.

يتجسد الأمل منذ الصفحات الأولى للرواية، فعلى الرغم من كل المآسي التي تعيشها شخصيات الرواية، فإنهن يُسيرن حياتهن على نمط يسمح للأمل أن يتغلغل وينمو في قلوبهن، وهو يرتبط بالألم من جهة، وباليأس من جهة أخرى، تقول وفاء عبد الرزاق ردا على سؤال الباحثة حول الآلية التي من خلالها توظف وفاء عبد الرزاق ثيمة الأمل في رواياتها عموما، وتحديدا في رواية (عشر صلوات للجسد)؟  فتقول:

((المعروف عني في كتاباتي بأني أشحن النص بالأمل سواء سرداً أم شعراً، علماً أنني أضع أصبعي على مواضع سلبية كثيرة والمؤثرات الكثيرة على هذا السلب، سواء كانت سياسية، دينية، عقائدية، أو مجتمعية. فمثلا في رواية “عشرُ صلواتٍ للجسد”، تحدثت عن المرأة في الأساطير والأديان، والتاريخ والمجتمع العقائدي والمذهبي والقومي للشعوب التي اخترت بطلاتي منها. وسلطت الضوء على ذلك، لكن بالمقابل بينت الجاب الآخر الإيجابي الباعث على الحياة والأمل بتلك الشعوب، كي تتخذ البطلة صفة التحدي كمثيلتها التي تحدت وأوصلت نفسها إلى ما هو عليه. فمع كل بطلة تناولت المفصلين، وبينت أنها رغم ذلك هي باقية وستبقى منذ عهد المرأة بالحياة حتى اللحظة والمستقبل وإن عاكستها الخطوب.

الكاتب لا يقدم الحلول، بل يترك القارئ يكتشف، الاشتغال على منح القارئ هذه الخاصية هو مبعث الأمل به ليكون مشاركا بهذا الأمل، والدليل النهايات المفتوحة في أغلب روايات القابلة لتأويلات كثيرة. ))([31])

وهو يوحي بأن الروائي يشحن نصوصه دوما بطاقة إيجابية تعكس رؤيته ورغبته في الحياة من جهة، وإن الرسالة التي يحاول إيصالها إلى القارئ تكمن في المواجهة والتحدي ومقاومة الظروف التي تحول بين الإنسان وطموحه من جهة أخرى على الرغم من أنه لا يقدم حلولا منطقية للمشاكل التي يطرحها في نصوصه.

بدءا من الإهداء يحيلنا النص على ثيمة الألم لتتكشف لنا منذ الصفحات الأولى أن الرواية ماهي إلا تجسيد للألم -بأصنافه واشكاله ودرجاته-، فنقرأ:

((” نهار ” أمسكي الألم المضاعف، بهدوئك الرَّفيف، طِير، وامتلئي، افتحي طريقا لنفسكِ، لتكون كلُّ زهرةٍ بستانا، حتَّى الألم يحتاجُكِ، لا تسألينه: كيف السُّنبلة تتحدَّى السُّيول ؟!))([32])

فارتباط هذه الثنائية ارتباط يشي بطبيعة العلاقة السردية التي تنفتح على الاحتمالات كافة، فوجود الألم مدعاة لوجود الامل، ووفاء عبد الرزاق في اهدائها تحدد هذه العلاقة من منظور شخصياتها/ المهدى لهم وهم: ليالي/ خالد/ نهار، فاذا ما عرفنا طبيعة العلاقة بينها وبينهم فستستوقفنا شخصية نهار ولم ارتبط الألم بها دون الآخرين؟

تدور أحداث الرواية في لندن بلد الحرية والديمقراطية، شخصياتها جميعا – باستثناء بربارة- من اللواتي حصلن على اللجوء والجنسية البريطانية على إثر العنف الذي مارسه المجتمع – بأصنافه كافة- عليهن، والذي دفعهن للهروب إلى بريطانيا، يلتقين في ظرف خاص، يجمعهن الحزن والألم وسرد الحكايا والذاكرة التي تأبى إلا أن تشتغل في منطقة الوجع والقهر، فضلا عن ذلك يجمعهن الصوت الأنثوي والرغبة الأنثوية في الحياة، فيلتقين على مائدة واحدة في يوم محدد من كل أسبوع في بيت أزاهير/ الساردة، وفي يوم آخر يكون اللقاء خارج المنزل في إحدى الأماكن الأثرية أو المعالم السياحية في لندن، يأكلن ويشربن ويحكين.

     تمثل أزاهير الوجه الآخر أو الأنا الثانية لوفاء عبد الرزاق/ الروائية، فثمة ارتباط قوي بينهما، بمعنى آخر: إن الرواية تحيل في جانب منها إلى ما يسمى بالرواية السير ذاتية التي تعني ((كل النصوص التخييلية التي يمكن أن تكون للقارئ فيها دوافع ليعتقد، انطلاقا من التشابهات التي يعتقد أنه اكتشفها، أن هناك تطابقا بين المؤلف و الشخصية، في حين أن المؤلف اختار أن ينكر هذا التطابق، أو على الأقل اختار أن لا يؤكده))([33])

فبين وفاء وأزاهير تمثلات سردية تتجسد في أنهما كاتبتان، مقيمتان في لندن، من أصول عراقية – من البصرة تحديدا- ومما يعمق رؤيتنا هذه أن أزاهير بصدد كتابة رواية سنعرف لاحقا إنها رواية عشر صلوات للجسد، كما أننا ومن خلال قراءة الرواية نحس بأن وفاء هي التي تتحرك فيها، فكل شيء في أزاهير يذكرنا بها، ومثل هذا التطابق يحيل النص على أن يكون سيرة ذاتية وإن كتبت بلغة روائية، على أن هذا التحديد ليس مدار دراستنا التي ستركز على قراءة سردية معينة تعالج اشتغال خطاب الألم في روايتها وتحديدا رواية عشر صلوات للجسد.

    فمما يميز هذه الرواية بروز الصوت الأنثوي وتجسيد حضوره تجسيدا كاملا، مع الآخذ بنظر الاعتبار تحرك الآخر/ الرجل في منطقة الظل، وحضوره حضورا مكثفا يجعل صوته مخنوقا إلا أن أفعاله وممارساته السلبية تجاه المرأة تكون مكشوفة وتدلل عليه، نقول في منطقة الظل لأننا نقرأ تفاصيل حركته من خلال الصوت الأنثوي وليس من خلال صوته، وحضوره المكثف دليل على أن كل الحكايات التي يتم سرده من منطق الأنثى، ستركز عليه، وفي علاقته بالشخصية/ الساردة.

    ومما يميزها ثانية الرؤية المختلفة للاشتغال على الثيمات السردية المعلنة فيها، وتحديدا ثيمة الألم – موضوع الدراسة- فثمة رؤية مختلفة لهذه الثيمة لاسيما تلك التي تتعلق بالألم النسوي، وعلاقته بالعنف من جهة، ومصادر هذا العنف من جهة اخرى، كما أننا نجد اشتغالا واضحا على هذه الثيمة في الموروث الحكائي كما هو الحال مع الخيزران زوجة المهدي وآم الهادي وزبيدة زوجة هارون الرشيد ومعاناتهن وآلامهن ، وفي عادات البلدان وتقاليدها المتعلقة بزواج المرأة وإجبارها على الزواج من رجل يكبرها بدافع الحفاظ على شرف العائلة والقبيلة، والتخلص من أعباء معيشتها كما حصل مع بيلا التي زوجها أبوها من رجل يكبرها خمسين عاما لثرائه، وربما تحافظ بعض البلدان على بعض التقاليد والعادات المجحفة بحق المرأة ومنها ما يحدث في الهند من إحراق المرأة ودفنها مع زوجها المتوفاة، او قد تدفن حية معه، وهناك ختان الاناث بدافع الحفاظ على عذريتها وعلى شرف عائلتها.

إن الصور التي حشدتها الساردة في هذه الرواية وكلها تجسد مشاعر الألم والقهر والوجع التي تعانيها المرأة حتى أنها قد تقتل إذا ما عملت نادلة في إحدى النوادي الليلية لتعيل عائلتها كما حدث مع هينار وشقيقتها التي قتلها أبوها لعملها في النادي الليلي إذ يعد عملها زنا وغسلا للعار الذي جلبته الفتاة لهم فإنها تقتل على الرغم من أنه كان يحصل على مالها.

لقد استطاعت الروائية أن تمسك بخيوط روايتها فحشدت لذلك الكثير من النساء اللواتي عانين ما عانين، وعلى الرغم من أننا سنقرا حكايا عشر نساء استنادا إلى الصلوات العشر المذكورة في كل فصل إلا أننا سنجد في ثنايا هذه الصلوات ذكرا لنساء أخريات جسدن الألم بكل صوره، وعلى الرغم من أن سياق كل حكاية يختلف عن سياق حكاية أخرى لاختلاف شخصيتها ومكانها وزمانها وأحداثها إلا أننا نجد أن هذه الحكايات مترابطة فيما بينها إذ توحدها الثيمة والدوافع والأشكال، فقد عالجت الروائية موضوعة الألم وتعددت دوافعه بين ما هو  ذاتي وما هو اجتماعي وسياسي وديني، ويغلب الدافع الاجتماعي على الدوافع الأخرى، فالشخصيات الروائية لا تنقطع صلتها بالمجتمع، فهي جزء منه، وإليه تنتمي ومنه تستمد مقومات وجودها، وفي علاقتها بالآخرين يضاعف الألم، فالمجتمع بأقطابه كافة يحرض كوامن الألم في النساء لاسيما في الأمور التي لا يمكن المساس بها أو الخروج على شرعيتها ضمن الإطار المسموح به في المجتمع.

إن المجتمع بعاداته وتقاليده وطقوسه ينظر إلى المرأة نظرة استعبادية او استملاك، فالمرأة ملك للرجل – أيا كان موقعه- لذا نجد أن تدخلاتهم في حياتها ورسمها تتجاوز الحدود، وغالبا ما تكون هذه التدخلات مجحفة وعلى المرأة الرضوخ والاستسلام.

  ((أتدرون لماذا برعت اناملي في طهو أزكى وأطيب الأكلات؟؛ لأنني كنت أشكو للولائم قبلَ صنعها، تحملتني صامتة، أقليها بعذابي، لتأكلوا، وتستمتعوا، وتفتخروا بما لديكم من امرأة شاملة، جميلة، عريقة النسب، شاعرة، أديبة، مثقفة، فنانة، طاهية، أمّ، وكل شيء لكل شيء، إلا أنا لا أحدَ لي غير ذاتي، هي صديقتي الوحيدة، حين كنتم صغارا أدركتم بعضا من ألم، لكنه ليس كل الألم، ليس كل الإلغاء لشخصيتي، وصراعي، لأعيدها رغم انف من يريدني ظلا له.

لم أبك أمام أحد، لأنه سيبكيني وقريبا؛ لو رأى ضعفي))([34])

((“تمدد جسدي المنهك من عقم الأيام، لم تنجب بطن اللحظات ساعة فرح تهزني من أعماقي، لم تفارق نظرة الحزن عيني، بصمة حدقتيها البنيتين وسمتها الخاصة، كيف تكون الملابس ذئابا، والمجوهرات عناكب، والحلي مجرد ثرثرة على معصمي أو عنقي…”)) ([35]).

وتقول كذلك:

((حين تعرضت لأقسى درجات الألم، شعرت بروعة ذاتي، فمن يتحمل الأقسى يبقى الأقوى والأهم.))([36]).

و: ((كان المساء مظلما، والهواء حرك السّتارة فانتعشت، قلبي يخفق إليك، وبك، يحدّثني عنك، الطيّبون يدعون الآخرين إلى قلوبهم، وها أنا ذا أدعو ك لقلبي. الألم المرسوم على ملامحك، هو ذاته الذي صار سمة لي، وتطبعت بطبعه.

هم يجلسون، ويتسامرون، ثم يمتد) سماط (الأكل؛ لتكبر كروشهم، وتصبح مرضا وتخمة، بينما أنا أنهل من دموعي؛ لأخفف عن وحدتي ووجع قلبي.))([37]).

إن الألم الذي برز في النصوص السابقة بشي بنوع من التواطؤ بين الساردة/ أزاهير وبين هذه الثيمة، فالألم ذاتي تحاول الساردة أن تكشف عنه على الرغم مما توحي شخصيتها من قوة وتمسك وإصرار على الحياة ومحبة لها وللآخرين، هذه المحبة التي سنجد آثارها واضحا في العلاقات التي تقيمها مع شخصيات الرواية من جهة، وفي تعاطفها معها في الآلام وأحزانهم من جهة أخرى، فالرواية تحكي مسار علاقة صداقة تربط الشخصية الرئيسة / أزاهير بشخصيات الرواية النسائية، ومن خلال هذه العلاقة ستتحدد وجهة الرواية وانكشافها على مستويات سردية تفصح عن المكبوت من الآلام والأحزان والانكسار .

ولعل في أول لقاء بينها وبين بربارة سيتحدد هذا المسار، يقول الراوي: ((رأيت دفء الألم يتساقط مع دمعات هطلت غيظا على خدّها، يربكها ذلك، فتسرع بمسحها آخذة من صاحبة الصالون ” ميرينا ” محارمَ ورقية. بدا تحت عينها اليمنى ورم مزرقّ، حاولت إخفاءه بخصلة من شعرها، لكن أثناء تصفيف الشعر لم يعد خافيا على الجميع. بعضهن تعاضدنَ معها بصمت، وأخريات هَمَسنَ بلغة بَلدهن بعنعنة، لم أفهمها إلا من نظرة عيونهن، وزمّ شفاههنَ. بينما أربع سيّدات تذمرن باللغة الإنجليزية، وشتمن اليد التي فعلت ذلك بشابة في غاية الجمال.

وَيحي، هل تتبعنا لعنة آدم إلى بريطانيا العظمَى؟؟

أتقطف زهورنا وتذبل؟ أين نأتمن قلوبنا إذا؟

كان صوت المرأة من خلف السّتارة مسموعا بلغته العربية:

حتى هنا ضرب واضطهاد، في بلد الحرية والديمقراطية! أينما سرنا الحالة ذاتها، ثم استعاذت بالله. ))([38])

يبرز الألم النفسي واضحا في سرد النساء اللواتي التقت بهن أزاهير وأقامت معهن صداقة، ففي الصالون تستمع

لحكاية امرأة مغربية تزوجت من رجل مصري، تعامل معها على أنها خادمة له ولأولاده من زوجته المتوفاة، وقد رضيت به زوجا، على إثر الظلم الذي وقع عليها من أخيها وزوجه، فهربت من خراب الروح إلى خراب أشد قسوة منه ([39]).

تبرز الأنا وهي تحكي معاناتها وآلامها، وكأنها تحكي معاناة المرأة في كل زمان ومكان، على الرغم من أن الساردة ترى أن اغتصاب الجسد أقل إيلاما من اغتصاب الصوت، والرأي والحضور، بين ثلة أعداء يتربصون للإيقاع بي، حتى يظفرون بما يريدون ([40]).

((كنت أنظر في المرآة كما أنا اليوم بعينَين دامعتين باحثة عن أناي، وكنتُ الشمس التي أقصد في هذا الكتاب.

وحدي بكيت، وحدي كتبت، وبكيت، ثم كتبت وبكيت، حتى توقفت الشمس عن البكاء والكتابة، ثم خرجت وبين يديها أربعون قصيدة.

دموعي كانت لي وحدي، وللآخرين أفتح صدري؛ لينهلوا من ابتسامتي، وفرحي، لا ذنبَ لبراعمي في حياتي التي اخترت، وعلي أن أقدّم لهم ما يجعل الحياة باسمة في عيونهم.

تحملت القصائد انعزالي ودمعي، شاركتني بؤسي ووحدتي، أصمت، ثم أعود إليها لأتحدث معها، تغنينا، وفتح لنا المدَى ذراعَيه، لأنني كنت بحاجة لذراعَين تحضنني، حولت الصبر إلى حدائق، هكذا في كل مكان صرت، في كل شجرة ولدت، وفي كل برعم كتبت قصيدتي، خرجت وأنا صاعدة لعلوّ ذاتي وبذاتي انتصرت دون أن يعرف ألمي أحد، خرجت بي واكتملت ابتسامتي بي، ثلاثة أيام كدَهر في البحث عن الذات)) ([41])

تبدأ الحكايات غصة بغصة يقول الراوي:

 ((هكذا سارت حكاياتنا، غصة بغصة، وحكاية موجعة بحكايات أكثر منها إيلاما كانت رائحة الألم تفوح من معاني الكلمات التي نتفوه بها.

لماذا منحتنا الأقدار هذا الكم من الألم؟! نسير بآلامنا، كأننا لسنا من بلدان ذات حضارات عريقة، ألسنا من لوحن للزمن وطوعناه! ألسنا من فزن بـ(نوبل) للآداب ونوبل للسلام وباقي العلوم الأخرى؟، لماذا إذا تلاحقنا التناقضات في الحياة؟ …عرفت أن في قلب كل منهما قصة مؤلمة، لكني لم أرغب اختراق قلبيهما في هذه اللحظة، …))([42])

((من يعاني الألم، يفتح صدره لآلام الآخرين!))([43])

فنساء الرواية عشن الألم، بدءا من بربارة وهينار ومهيرة، ودلكش وهي بريطانية من أصول إيرانية ربما يكون ألمها أكثر وحشية وقساوة، وما تعرضت له في صغرها على يدي الحرس الثوري الذين قتلوا أباها وتناوبوا على

اغتصاب أمها بعد سقوط الشاه وقتل المقربين منه، يقول الراوي عنها:

((ها أنا ذا أجالس نساء أخريات، لكل منهن حكاية مأساوية.. وها أنا ذا أخبرك عن ” دلكش” التي تحمل عيناها قهرا وذلا مختلفين….

أدركت حين رأيتها لأول مرة في المتحف؛ أن هذا الشحوب يخفي سر شهقة مؤلمة، بل مجموعة شهقات تدمي الروح، ربما تألمنا جميعا، وعشنا مآس وانتهاكات لأنوثتنا، فوق ما يطيقه البشر العادي، أنا واحدة ممن لاكت أيامها ومضغتها مثل لبان مر، المر يشفي على الرغم من مذاقه اللاذع، وهو ما شفاني وأوصلني لما أنا فيه الآن.))([44]).

   تحكي دلكش مأساتها ومعاناتها بالم وقهر بسرد ذاتي وبرؤية داخلية تستبطن الماضي وتستذكره بوجع وتربط حياتها الراهنة بما حدث في الماضي حينما كان عمرها آنذاك عشر سنوات.

وتعيش خضرة هي الآخرة في ألم نفسي سببه لها ختان الإناث في صغرها، تعرفت على شاب أحبته وكانت تتحجج بأعذار عدة للتهرب منه، تركته، وكان ذلك سببا في رفضها لكل من يتقدم لخطبتها ([45])

فالألم الذي تعانيه هينار سببه المجتمع وتدخلاته، فهي من أصول باكستانية تنظر إلى عمل المرأة في النوادي الليلية على أنه عار، وجريمة تعاقب عليه المرأة بالقتل، غسلا للعار الذي ألحقته بهم عملها، لذا فقد تم قتل شقيقتها، أما هي فقد تزويجها من رجل يكبرها بعشرين عاما، وجاءت معه إلى لندن ومازالت تعاني، أما خضرة فالألم الذي سببه لها المجتمع لم يكن جسديا فقط، فقد تجاوز ذلك إلى الألم النفسي الذي عاشته بعد ختانها وهي في العاشرة من عمرها، وختان الإناث من العادات الاجتماعية التي تمارسها بعض المجتمعات حفاظا على شرف العائلة، وتجاهل مشاعرها وعواطفها وما يمكن ان يسببه لها من الآلام، وتحكي خضرة معاناتها وآلامها الجسدية والنفسية لأزاهير وبربارة في أول لقاء بينهما لاسيما بعد أن أحبت شابا وبدأت تتهرب منه فلم يجد بدا إلا الزواج من أخرى، فتقول:

((حين كبرت تعرفت على شاب، وأحببته، لم يدم حبنا سوى خمسة شهور إذ كنت اتحجج بعدة أعذار للتهرب منه، علما كنت أتمزق ألما لفراقه، أخاف من فتح عورتي بالمشرط، مرضت نفسيا، لأنني أتوقع عمق الألم الذي سأعانيه، حتى لو زرت الطبيب، الآن مع المضادات الحيوية والمهدئات ستكون الحالة أهون من طفولتي المغصوبة.))([46]).

فالألم الذي عانته خضرة ألم نفسي قبل أن يكون جسديا وقد استمر معها هذا الألم منذ طفولتها وكبر معها وكان لابد أن يكبر الألم – بنوعيه- معها حينما ارتبطت بعلاقة حب مع شاب اضطرت للابتعاد عنه بسبب ما تعرضت له في طفولتها، وكان لابد من القضاء على الألم الذي عانته ونجحت في ذلك بفضل الأمل الذي تمسكت به.

    أما الدافع السياسي فنجد آثاره في المعاناة والآلام التي عاشتها دلكش وهي في العاشرة من عمرها على إثر ثورة الخميني وسقوط الشاه، فقد كان والدها من المقربين لنظام الشاه والحافظ لأسراره، لذا كان من أوائل المستهدفين من قبل الحرس الثوري الذي اقتحم منزله وقتلوه أمام زوجته وابنته، وبعد ذلك تناوبوا على اغتصاب أمها بعد أن استطاعت الاختفاء في خزانة سرية لم يعلم المقتحمون بوجودها، وخلال الشهرين الذين قضتها مع أمها في بيتهم عانت معها ما عانت من الآلام لاسيما ونهم لم يتركوا شيئا في البيت الا وسرقوه، استطاعت الأم وابنتها الهروب واللجوء الى بريطانيا والحصول على الجنسية البريطانية بعد أن هربهم أحد أصدقاء والده وابتزهم بما كانوا يملكون من ماسات وذهب كلفه والدها بشرائها.

  أما الدافع الديني فتعدد هو الآخر وربما كان أكثر الدوافع إيلاما وأشدهاـ، فهو يرتبط بعقيدة الإنسان، وأي

خروج عليه يعاقب عليه الفرد،

أما الدافع الذاتي فقد تجسد في الآلام التي تسببها الشخصية لنفسها، وربما كانت وراء ذلك أسباب تراها الشخصية منطقية من منظورها، فبربارة على الرغم من معاناتها والآلام التي يسببها لها زوجها فإنها ترفض الطلاق منه، وتبرز الآلام الذاتية في قول الراوية:

((سليلة اللطم والنكبات أنا، لن أقاسمك العداء والصراخ، ربما عليك الهمس حين تقتربين مني، الهمس الشفيف، لئلا يجفل الحزن.

آية عظمى أنت، وخبز وخمر، إنه المساء يغزو وسادتي، يجثو على صدري مثل حلم مزعج، ويقرأ ما تيسر من حب.

سمعت شقوق الحائط كصوت غرغرة الروح، وتمزق الأحداق في النظرة الأخيرة للوداع، أتراها ستلبي ندائي؟

لكن شأنها شأن هذا المساء اللعين، أوقفت الزمن برهة لتريني ثانية واحدة لحزن النساء، ثانية واحدة، هدَّت الجدار وهشمت المرأة.

من يصلح مراياي؛ ليدعني اهبط لقرارة نفسي، اهبط حيث أعانق تلك النفس. لا مكان لمنفاي إلا فيها، لا زمان لصحوي إلا بشدوها، ولا عدو لها سوى الانتظار. ))([47]).

فهي تعاني ما تعاني من الآلام ولا تفصح عنها إلا في خلوتها حينما تكون وحيدة، فالألم هنا ذاتي شأنه شأن الأخريات.

قلنا فيما سبق ان الرجل هو السبب الاول والاخير في معاناة المرأة وآلامها، وحكاية ايميلي مع حبيبها أوضح دليل على ما عانته منه، فبعد حملها منه ورفضه الإجهاض، ازداد إصراره ومعاملته القاسية لها، حتى انه اقترح أن يقدمها للدعارة فكان يجلب الرجال ويقبض الثمن فيدخره لها كما يقول الا انه تمادى في ذلك وبدا يستدعي اشخاصا لاعلاقة له بهم ، حتى كان ذلك اليوم الذي ضربها ولم تشتك عليه، وتتساءل مع نفسها(( لماذا لم أشتك عليه للشرطة وأنا في بلد تحمي المرأة بالقانون؟ لماذا ننصاع لقاتلنا دائما، هل اعتبر ذلك انقياد ضعفنا للأقوى، أم أنها لذة العذاب في نفوسنا المريضة بلذة الضرب حتى الوصول للذروة)) ([48])، فأدمنت المخدرات وابتعدت عن الجامعة، ومرضت بسبب عدم قدرتها على مواصلة الدراسة، وكلما زاد في تعذيبها وإيلامها ازدادت حبا له، إلا أنه كان سببا في إجهاضها فقد أدخل عليها رجلا عربيا قاسيا أدماها ضربا بعقاله حتى نزفت وتسبب النزف في إجهاضها وهي في الشهر الرابع.

  اما ايف فقد تعلقت برجل عراقي من خلال التواصل الاجتماعي، تعرفت عليه وتواصلا وبدءا بنشر قضايا مشتركة بينهما، وتحاورا في أمور كتابية وإنسانية ونسائية، ظنت أنه يحبها وصارا يمارسان الجنس عبر الكاميرا، وحصل على منحة سفر إلى لندن كونه رجلا أكاديميا، ففوجئت به رجلا آخر غير الذي كانت تراه في الشاشة، أخذته إلى الفندق الذي حجز فيه واستأذنته مسرعة لتقطع علاقته به وتحظره من هاتفها وإيميلها ومن مواقع التواصل الاجتماعي وتتركه ليعيش كذبته ([49]).

 إن خطاب الألم من الخطابات المؤثثة للنص الأدبي أيا كان نوعه وجنسه، فكل الخطابات السردية والشعرية تفصح عن الألم بشقيه النفسي والجسدي، وتتنوع دلالاته واشكاله، على الرغم من أن هذا الخطاب في النص الروائي يكون أكثر وضوحا لأن الشخصيات الروائية تعبر عن آلامها ومعاناتها تعبيرا واضحا وصريحا سواء كان تصريحا أو تلميحا من خلال الإشارات والرموز، وغالبا ما يكون البكاء والصراخ والقهر هو التعبير  الأدق للكشف عن الآلام التي تعيشها الشخصيات، واحيانا ترتسم صورة الألم على الوجه وتبدو اكثر وضوحا كما هو الحال مع دلكش، فتعابير الوجه التي لاحظتها أزاهير هي التي أوحت لها بمقدار الألم والوجع الذي تعانيه ، يقول الراوي:

((بعد خروجهن صفنت الدار، حتى الازهار في الأصص، دخلتُ عالما آخر، إذ ليس هناك ما لا يجعلني ابتسم، فبالحزن الذي عشت والألم اشعر ان الحياة تجري في عروقي، لأني أنا الحياة،)) ([50])

((ربما ما سأذكره لك سيدة الحرف يشجعك على فتح مغاليق صمتك وتظهرين لي.

ألا يؤلمك ما أقول؟

في ظل مجتمع عشائري ديني يتصاعد فيه خط التزمت تدريجيا، فان فرص المرأة تتضاءل في ممارسة حريتها الجسدية.)) ([51])

   اما الآلام سارة فقد تجسدت في زوجها وهو ابن خالتها الذي أذاقها المرارة والآلام، والويلات دفعها الى الانتحار ثلاث مرات، ولم تسلم منه في الرابعة، فتقول:

((جارتي “سارة ” قلب طفلة، وعينان غارقات بالدمع، طفولة ألم وصمت متوا ضع، هدوؤها الجميل، وَقارها، صمتها، ردها الرزن حين يوَجه لها سؤال ممن هي أدنى منها ثقافة ومعرفة، ترد بابتسامة ثم تصمت.

وريثة جداتها ” شبعاد وإنهيدوانا، وسميرة ميس”، وملكات التاريخ كلهن اتصفت بهن.

زوجها ابن خالتها، ابن الأسطورة الأولى التي احترمت المرأة، وأعطتها قدرها، إلا هذا السليل من تلك السلالة المتعجرف الذي يرى بنفسه ملك حياته.

أذاقها المر كله، حتى منعها من زيارة اختها، وبناتها، أوصلها إلى الانتحار ثلاث مرات، والمرة الرابعة لم تنج منه، فقدت الوعي وشُلَّ نصف جسدها ولسانها، هي الآن عاجزة عن النطق والحركة بشكل يجعلها تتواصل مع محيطها كما عهدنا بها.

ما الذي فعلته بنفسك يا” سارة” أقدر حالتك، أحيانا الهم الكبير والضغط النفسي يؤديان إلى سلوك غير محسوب.

كان يضطهدها بالعزلة عن العالم، بالعزلة في الفراش، العزلة من الواقع والحياة. والعزلة من اجل

العزلة. واضطهاد بالكلمات الانانية التي تقلل من شأن امرأة، تعبت على نفسها ونالت الماجستير في الأدب الانجليزي.))([52]).

ومأساة قبس تتجسد في زوج خائن عديم الضمير، يبعها لأحد المهربين لغرض الحصول على اللجوء في بريطانيا، فتقول:

((وقع المفاجأة اخترق قلبي فأصبت بدَوار، فقدت الوعي إثره، وإثر ركله لي بقدمَيه، فجاءت آخر ركلة بصدري. لا أدري كم غبت عن الوعي، ولا أعرف مَن هم الذين حولي، حين أفقت، سمعتهم يتحدثون بلغة لم أفهمها، بعد ذلك خرج الجميع وبقي هو معي.

بكيت بحرقة، وقعت على قدمه، رجوته، توسلته، لا فائدة. كلما دخل قبلت قدمَيه متوسّلة بشرفه، حن قلبه علي، ولعن زوجي الخائن عديم الشرف، فقرر تهريبي.

حان يوم الفراق، مستجيبا لي ربّي ودعائي المستمرّ ليل نهار، وضع بيدي مبلغ مائة دولار، وسلمني لرجل آخر.

ها أنا أسرد حكايتي لكن الآن، ) قالتها مبتسمة ( وها نحن يأكل معدنا الجوع.افترشنا المائدة بما لذ وطاب، والابتسامات الموجعة تدور بيننا، وحكايات طريفة عن الخوَنة، حتى المهرّب أشرف من زوج هذه الشابة..

قلت أشغلهن عن الألم…،)) ([53]).

وقد عانت الخيزران زوجة المهدي وأم الهادي من الآلام أيضا تجسد في قول الراوي:

((لم تكن سيدتي وحدها حبيبة الخليفة ” المهدي”، معه المئات من جواريه، كما أنه تزوج ابنة عمه، وأخرى من علية القوم، وبقيت هي بنظر الجميع جارية حتى حين اعتقها المهدي وتزوجها… يحبها لا بأس، لكنها قوة المكسور والعاشق المتألم.

كسرها ابنها ليسحب منها محبة الناس لها، يمنع تجمعهم حولها؛ لأنها تسمع شكواهم وتلبي حاجاتهم بحبها للناس، وهذا لم يرض الخليفة ” الهادي” ابنها.

كنت فرحة حين خنقناه أنا وأربع جوارٍ معي، كنت اريد بقاء السيادة لسيدتي، للمرأة.. هل عرفت سبب قولي:” انها في الصندوق؟ ))([54]).

وتلتقي أزاهير مصادفة بالسيدة Wang Bella وتتوقف على آلامها وأحزانها بقولها:

((أوضحت لها الفكرة، رحبت بها، وبدا على وجهها ألم مفاجئ.

اعتذرت راسا:

اعتذر سيدتي؛ لو كلامي سيسبب لك أي إحراج.

هل حضرتك مولودة هنا؟

اثنت ركبتيها وضمتهما، رمشت بتلك العينين اللتين ترقرقت بهما دمعة جاهدت لإخفائها، فلم تستطع.

لا سيدتي، أنا جئت مع زوجي إلى هنا، هو مقيم منذ خمسين سنة، وله مطعم كبير.

ياربي، مقيم منذ خمسين سنة، وهي لا تتجاوز الثلاثين، يبدو تخفي سرا سأحاول الوصول الى قلبها.

لا تحرجي مني سيدتي، عفوا ما اسمك؟

أجابت: Wang Bella…

وكانت أسرتي فقيرة تعمل بالفلاحة بالأجرة لإقطاعي ثري، باعوني لرجل كبير السن؛ كي يتخلصوا من حمل معيشتي، ولأكون مصدرا لسد عوزهم وفقرهم.

لكنه لم يكن كما توقعوا، كان بخيلا، وله أربعة عشر ولدا من زوجات توفين بالتعاقب، وأنا أصغر من أحفاده، حتى معيشتي في بلاد مثل بريطانيا لم تجلب لي السعادة. فهو يخاف على كوني شابة وهو شيخ…أنا أحببت شابا عن عمري، ومن بلدي ولد هنا، وسكنه ليس هنا، بل نلتقي في بيت أخته، ولم أجدها كما لم أجده بانتظاري، استغرب عدم حضوره، هل اتفق مع أخته على الغياب، حتى هاتفه مغلق.

يبدو أن الحياة لا تريد تنصفني. حتى الأمل يهرب مني، ليس لي تجربة جسدية مع أحد، والذي احببته تهرب مني، على ما اعتقد خاف من نفوذ زوجي هنا. ))([55])

   أما لوليتا فمعاناتها وآلامها تتجسد في أبيها العربي، وأمه التي تدس السم ضدها وإخوتها، أصيبت بمرض نفسي تعالجت منه في المستشفى الذي التقت فيه بأزاهير، واختار أخوها العزلة، فيما تعاني أمها العذاب وقهرها من زوجها وعلى أولادها ([56])

   وهناك معاناة للكثير من النساء، البعض منهن دفعن ثمن ذلك حياتهن، والبعض الآخر ما زلن على قيد الحياة يعانين ما يعانين، فهناك لوجين وأختها كوريانا، وهناك ميلفا ماريك زوجة أينشتاين، وهناك زبيدة زوجة هارون الرشيد وهي تحكي معاناتها لأزاهير من حبها له فيما هو لاه بمحظياته وجواريه، امرأة مهانة أنوثتها مطعونة كرامتها لم يكن حبه جنتي بل كان جحيمي كما تروي ([57]).

وخولة عبد الرحيم عاشت معاناته بسبب ظلم أبيها لها ولأختها ولأمها، بسبب أهله، أسرته بالنسبة إليه مجرد واجب، العاطفة تجاههم ممحوة لا اثر لها، مات وقد ترك شرخا كبيرا بينه وبينهم، وجرحا كبيرا في نفوسهم لا تندمل ([58]).

وهناك صديقتها زوجة الطبيب، رجل ذو قلبين وهيأتين ومذاقين، على الرغم من حبه لزوجته إلا أنه يصدمها دوما برفض كل ما تطلبه، يراقب رسائلها التي ترسلها لأهلها والتي لاتصل أبدا لأنه يقرؤها ثم يمزقها، مات وقبل ساعات احتضاره عرى إخوته وأخواته ووضع مساوئه كلها بين أيديهم ولم يبرئ ذمة أبيه لأنه لم يتركه يعيش بسعادة مع أسرته ([59])

 الألم والسرد: اشتغال السرد على الأنا يحيل إلى ذاتية المتكلم ورؤيته الداخلية، فحضور(( ضمير المتكلم على غيره من الضمائر يؤكد الحضور القوي للذات المتكلمة.))([60])، ويعمل على تقليل المسافة الفاصلة –إن لم نقل إلغاءها- بين الساردة والشخصية المركزية في النص الروائي، إذ يتم التعبير عن الألم بسرد ذاتي مفعم بالحزن والاسى، فالشخصيات النسائية هي التي تتولى سرد حكاياتها، والأنا هنا تتحرك في مسارات مختلفة ومعبرة، وهي ليست أنا واحدة بل أنوات، وعلى الرغم من أن أزاهير هي التي تحرك خيوط روايتها وسردها وأحداثها إلا أنها ليست بالساردة الديكتاتورية، فهي تمنح شخصياتها حرية السرد والتعبير عن آلامها على النحو الذي تريده، لكنها مع هذه الحرية فأنها خارج سياق هذه الحكايا وأنها تنحو المنحى الذاتي وتتشبث بالأنوية في سردها.

   ويجب الأخذ بنظر الاعتبار اشتغال الذاكرة في الرواية – لاسيما تلك المتعلقة بالآلام الشخصيات ومعاناتهن ومأساتهن- اشتغالا مكثفا، فالحكايات التي تسردها كل شخصية إنما هي مستقدمة من الماضي،  لذا فان الأنا هي الأكثر قدرة على التعبير ومعرفة بآلامها، وهذه الأنا تشتغل في منطقتين، إحداهما: الراهن حيث مكان التقاء الشخصيات ورواية الحكاية، والأخرى : الماضي، ماضي الشخصيات المفعم بالأسى والحزن والألم والعنف ومن ثم لكم يكن لها خيار سوى الهروب منه، ومع هذا الهروب من الواقع إلا أنه ظل ملتصقا في الذاكرة لا يبرحها .

الخاتمة:

 إن الرواية عبارة عن تشكيلة سردية ولوحة مجسدة معبرة تتداخل فيها الثيمات والألوان بين عنف جسدي وآخر نفسي، فهناك اغتصاب واستلاب وقهر، وهناك إهانة واستهانة ، وهناك غرور الرجل وكبرياؤه المزعومة وحبه لذاته وتجاهله لمشاعر المرأة وعواطفها واعتبارها كائنا انسانيا له ماله وعليها ما عليه، فثمة علاقة بين الألم والعنف، وربما يكون الألم – بنوعيه الجسدي والنفسي- ناتجا عن العنف الذي يمارسه الآخر/ الرجل والمجتمع على المرأة من دون الأخذ بنظر الاعتبار مؤهلاتهن العلمية وشهادتهن وأعمارهن، الا ان أبرز ما يميز الرواية هو فعل الخلاص الذي يتجسد في بحث النساء عن خلاصهن من مسببات الألم حتى وإن كان الثمن هروبا من المجتمع الذي تعيش فيه .

المصادر والمراجع:

  1. تاريخ الفلسفة العربية، حنا الفاخوري، د.ط، دار المعارف، بيروت، د.ت.
  2. تجربة الألم بين التحطيم والانبعاث، دافيد لوبروطون، تر: فريد الزاهي، ط1، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء،2017.
  3. ثنائية اللذة والألم في شعر أبي نواس-دراسة تحليلية، حسين علي عباوي، اطروحة دكتوراه، كلية التربية للعلوم الانسانية، جامعة تكريت، إشراف: أ.د اسماء صابر جاسم، 2020.
  4. خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، عبد القادر البغدادي، تح: عبد السلام هارون، ط1، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1982.
  5. السيرة الذاتية) الميثاق والتاريخ الآدبي (، فيليب لوجون، تر: عمر حلي، المركز الثقافي العربي، ط1، الدار البيضاء، 1994.
  6. سيكولوجية الابداع في الفن والادب، يوسف ميخائيل اسعد، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1999.
  7. طبقات فحول الشعراء، محمد بن سلام الجمحي، تح: محمود محمد شاكر، د.ط، دار المدني، جدة، د.ت.
  8. عشر صلوات للجسد، وفاء عبد الرزاق، ط1، دار افاتار للطباعة والنشر، القاهرة، 2020.
  9. فنومينولوجيا اللذة والالم، زهير الخويلدي، مركز الراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي،3/5/2014 https://www.ssrcaw.org/ar/art/show.art.asp?aid=413119
  10. في رسالة على موقع التواصل الاجتماعي بتاريخ 11/ 11/2021.
  11. فيض الخاطر، أحمد أمين، د.ط، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2004.
  12. القاموس المحيط، قدم له وعلق: الشيخ ابو الوفا نصر الهوريني، ط3، دار الكتب العلمية، بيروت، 2009.
  13. اللذة والألم في الفلسفة الاخلاقية اليونانية.
  14. اللذة والألم في حياتنا، يوسف ميخائيل اسعد.
  15. لسان العرب، ابن منظور، ط3، دار إحياء التراث العربي ومؤسسة التاريخ العربي، بيروت، د.ت.
  16. ما فوق مبدأ اللذة، سيجموند فرويد، تر: اسحاق رمزي، ط5، دار المعارف، القاهرة، 1994.
  17. مدخل إلى علم الطباع، كمال سوسة، ط2، دار المعارف، القاهرة، 1972.
  18. المستصفى، ابو حامد الغزالي، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1993.
  19. مشكلة الألم عند دوستوفبسكي، تقديم وعرض: عبد اللطيف الصديقي، الطبعة العربية، دار امجد للنشر والتوزيع، عمان،2015.
  20. المشكلة الخلقية، زكريا ابراهيم، سلسلة مشكلات فلسفية6، دار مصر للطباعة، مصر، 1966.
  21. المعجم الفلسفي، مراد وهبة، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 2007.
  22. معرفة النفس الانسانية في الكتاب والسنة- علم النفس، سميح عاطف الزين، ط2، دار الكتاب المصري-القاهرة/دار الكتاب اللبناني-لبنان، 2008.
  23. المنهج وتعددية القراءة، سعيد أحمد عبد الرحمن، ط1، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2001.
  24. النص الشعري وآليات القراءة، فوزي عيسى، د.ط، دار المعرفة الجامعية، الاسكندرية، 2006.
  25. نصوص ومصطلحات فلسفية، فاروق عبد المعطي، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1993.

……………….. ***** ……………….

الهوامش:

([1]) خزانة الادب ولب لباب لسان العرب، عبد القادر البغدادي، تح: عبد السلام هارون، ط1، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1982، 3: 157.

([2]) فيض الخاطر، احمد امين، د.ط، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2004، 1: 108.

([3]) المنهج وتعددية القراءة، سعيد احمد عبد الرحمن، ط1، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2001، 107.

([4]) سيكولوجية الابداع في الفن والادب، 272.

([5]) طبقات فحول الشعراء، محمد بن سلام الجمحي، تح: محمود محمد شاكر، د.ط، دار المدني، جدة، د.ت ،1: 217، نقلا عن ثنائية اللذة والالم في شعر ابي نواس، 48.

([6]) سيكولوجية الابداع في الفن والادب، يوسف ميخائيل اسعد، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1999، 105.

([7]) لسان العرب، ابن منظور، ط3، دار احياء التراث العربي ومؤسسة التاريخ العربي، بيروت، د.ت، 2: 113.

([8]) القاموس المحيط، قدم له وعلق: الشيخ ابو الوفا نصر الهوريني، ط3، دار الكتب العلمية، بيروت، 2009، 1088.

([9]) نصوص ومصطلحات فلسفية، فاروق عبد المعطي، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1993، 322.

([10]) المعجم الفلسفي، مراد وهبة، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 2007، 87.

([11]) مدخل الى علم الطباع، كمال سوسة، ط2، دار المعارف، القاهرة، 1972، 206.

([12]) معرفة النفس الانسانية في الكتاب والسنة- علم النفس، سميح عاطف الزين، ط2، دار الكتاب المصري-القاهرة/دار الكتاب اللبناني-لبنان، 2008، 1: 393.

([13]) ينظر مافوق مبدأ اللذة، سيجموند فرويد، تر: اسحاق رمزي، ط5، دار المعارف، القاهرة، 1994، 91.

([14])معرفة النفس الانسانية في الكتاب والسنة- علم النفس ، 1: 396.

([15])معرفة النفس الانسانية في الكتاب والسنة- علم النفس ،1: 394.

([16])معرفة النفس الانسانية في الكتاب والسنة- علم النفس ،1: 404.

([17]) تاريخ الفلسفة العربية، حنا الفاخوري، د.ط، دار المعارف، بيروت، د.ت، 1: 126.

([18]) المستصفى، ابو حامد الغزالي، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1993، 1184.

([19]) مدخل الى علم الطباع، 62.

([20]) اللذة والالم في حياتنا، يوسف ميخائيل اسعد، 84. النص في رسالة اللذة والالم في شعر ابي نواس، 35-36.

([21]) ثنائية اللذة والالم في شعر ابي نواس-دراسة تحليلية، حسين علي عباوي، اطروحة دكتوراه، كلية التربية للعلوم الانسانية، جامعة تكريت، اشراف:أ.د اسماء صابر جاسم، 2020، 39.

([22]) اللذة والالم في الفلسفة الاخلاقية اليونانية، 202.

([23]) تجربةالألم، 11.

([24]) تجربةالألم، 12.

([25]) تجربةالألم،  15.

([26]) فنومينولوجيا اللذة والالم، زهير الخويلدي، مركز الراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي،3/5/2014 https://www.ssrcaw.org/ar/art/show.art.asp?aid=413119

([27]) مشكلةالألم عند دوستوفسكي، تقديم وعرض: عبداللطيف الصديقي، الطبعة العربية، دار امجد للنشر والتوزيع، عمان،2015، 32.

([28]) المشكلة الخلقية، زكريا ابراهيم، 205.

([29]) مشكلةالألم عند دوستوفسكي، 57،

([30]) المشكلة الخلقية، زكريا ابراهيم، 205.

([31]) في رسالة على موقع التواصل الاجتماعي بتاريخ 11/ 11/2021.

([32]) الرواية، 5.

([33]) السيرة الذاتية) الميثاق والتاريخ الآدبي (، فيليب لوجون، تر: عمر حلي، المركز الثقافي العربي، ط1، الدار البيضاء، 1994 ، 37.

([34]) الرواية ، 26.

([35])

([36]) الرواية، 29.

([37]) الرواية، 34.

([38]) الرواية، 39.

([39]) ينظر: الرواية، 39.

([40]) ينظر: الرواية، 43.

([41]) الرواية، 44.

([42]) الرواية، 57-58.

([43]) الرواية، 62.

([44]) الرواية، 72- 73.

([45]) ينظر: الرواية، 96.

([46]) الرواية، 95.

([47]) الرواية، 103-104.

([48]) الرواية، 108-109.

([49]) ينظر: الرواية، 112.

([50]) الرواية، 113.

([51]) الرواية، 114.

([52]) الرواية، 118-119.

([53]) الرواية، 134.

([54]) الرواية، 140.

([55]) الرواية، 144- 147.

([56]) ينظر: الرواية، 151-152.

([57]) ينظر: الرواية، 173.

([58]) ينظر: الرواية، 182.

([59]) ينظر: الرواية، 185.

([60]) النص الشعري وآليات القراءة، فوزي عيسى، د.ط، دار المعرفة الجامعية، الاسكندرية، 2006، 14.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here