د. سناء شعلان في قصة “سبيل الحوريات”
بقلم
د. شوكت درويش
الجامعة الأردنية، الأردن.
———————
الصلة بين الحضارات قديمة منذ نشوئها، ويظل الاحتكاك بينها قائماً؛ يعلو أحياناً، ويهبط أخرى، تبعاً للنظرة للآخر، ففي أحيان تسيطر حضـارة الغالب المنتصر على حضارة المغلوب المنهزم، أو حضارة المجتمعات الراقية على حضارة المحتمعات المتخلفة، وهذه الصلة لها إيجابياتها ولها سلبياتها، ولكن لا بدَّ منها، فهي ضروريّة ضرورة التميز الثقافي، أو التثاقف، وقد تظل قائمة إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، ولا ضير في ذلك، ولكن إذا كان سيف القهر مسلطاً على الشعوب المستضعفة، فقد يكون اللجوء إلى التراث استنهاضاً للهمم، وإيقاظاً للشعور بالعزة والكرامة، ومطالبة بالإتكاء عليه في النهوض واللحاق بركب التقدم والازدهار لبناء حضارة جديدة جذورها في التراث، وأغصانها وفروعها في المعاصرة.
في قصة “سبيل الحوريات” للدكتورة سناء شعلان ارتباط بالتراث أيما ارتباط، نراها تنزع إلى معلم من معالم حاضرة الأردن لتدير حوله قيمة تراثية كان لها امتداد عبر حقب زمنية لم تشر إليها – لأن هذا ليس لازماً من قبل القاصة – سوى ما يخدم قصتها، وما يضفي على بطلها – الذي لم تسمه، لأن كل واحد هو بطل قصتها – من خيالات، لما كان يعمره من فاتنات أيام كان السبيل سبيلاً. ” وهو حمام روماني قديم، تهدم معظمه بفعل الزلازل الأرضيّة، ولكن فناءه الداخلي، وغرف تبديل الملابس، وأحواض الاستحمام ما تزال بكامل وجودها.”
و”سبيل الحوريات” من المنشآت الرومانية في عمان، وقد كان هذا البناء على جانب كبير من الفخامة والجمال حيث كانت تغطي جدرانه الداخلية ألواح من الرخام، والرسوم الجداريّة، أقيم هذا البناء على شكل نصف مثمن، ويرتفع في ثلاثة أدوار، ويضم ثلاثة محاريب على جانب كل واحد منها دوران من الحنيات الصغيرة التي أعدت لاحتواء التماثيل الرخاميّة، ونوافير المياه، ويرتفع فوق مجرى سيل عمان – الذي يخترق وسط المدينة – على أربعة عقود برميلية، وكان الماء يمر تحت العقد الجنوبي، أي يمر في البناء، والسبيل كانت السلطات تقيمه تكريماً لعائلة الإمبراطور في الطرقات لإرواء ظمأ عابري السبيل، والكلمة مأخوذة من سَبَل الماء ؛ أي : جعله في سبيل الله والخير. والسبيل دائم الجريان، ولذلك سمي “سبيل الحوريات ” ؛ لأن حوريات الماء تسكن المياه الجارية، وتم استعمال البناء في عمان في أزمنة لاحقة بيزنطيّة وأمويّة. [1]
هذه العجالة عن “سبيل الحوريات” لا بدَّ منها؛ لأنها تنير بعض جوانب هامة، فالارتباط بالعاصمة واحد منها، ومحاولة رسم مَعْلَم هام من معالمها – سبيل الحوريات وما يمثله هذا المعلم من امتداد تراثي – قيمة تراثية – تتكئ عليها القاصة للدعوة إلى النظرة إلى القيم التراثية من جوانب متعددة، ليس البطل رساماً فحسب، ولكنه عاشق فَنِّه، واعٍ لعمله، مُضْفٍ عليه شيئاً من المسحات الجمالية التي يبتكرها خيال العاشق الولهان “يرسم لوحة واحدة لكل مكان أثري، ولا يزيد. والعاشق البطل أمام هذه القيمة الحضاريّة – الثقافيّة والمعماريّة” منذ أيام طويلة عالق أمام سبيل الحوريات، يرسمه من قريب، ومن بعيد، من أكثر من زاوية يضفي عليه أرواحاً وأجساداً وضحكات .” هذه القيم التراثية، هذه القيم الثقافية ؛ لا ينظر إليها البطل من زاوية واحدة، بل يتفحصها من كل الجوانب، متخيلا الأجداد الذين صنعوا هذه القيم الحضاريّة و”يضفي عليه أرواحاً وأجساداً وضحكات” ولكي تكمل المشهد المتخيل ” تغيب منه أجزاء في اللوحة، وتحضر أخرى” حسب الاحتكاك بين الحضارات، ولكن تبقى القيمة التراثية هي الفضاء الرحب الذي يثبت أمامها، ملازمة القاصة حتى آخر نبض في القصة ” لكن وجهها هي بالذات عنصر ثابت في كل لوحاته.
“إنه مفتون بسبيل الحوريات ” وهل يفتن إلا المحب الولهان، وحبك الشيء يُعمي ويُصم ؛ ” بل إنه يتخيل فيه عشرات النساء العاريات كأقمار في ليلة صيف، وإنه يناجيهن ويستمتع برؤيتهن وبمداعبتهن ” إنه خيال العاشق، عاشق يضفي مسحاً جمالية على محبوبه، أحب التراث وعايشه، وأسقط عليه ما تخيله أيام كان الصرح صرحاً حضارياً، ينبئ عن عظمة بانيه، واستمراره على امتداد عصور وعصور مع ما أضافه كل آت لمن سبقه، وظل إلى يومنا هذا شاهداً على عظم بُناته، وحق لنا أن نفخر بهم، وبما شادوا.
القيمة الحضاريّة – وبخاصة التراثية – عادة ما ينظر إليها الدارسون نظرتين متضادتين ؛ إحداهما : على أنهّا بالية ولا تستحق العناء والجهد اللذين يبذلان في دراستها، والأخرى : على أنها محترمة ومقدمة وهي الأصول والجذور التي حملتنا فروعاً لها، ولذا فإنها تستحق العناء والجهد والدراسة المعمقة.
” هاجر ” بطلة القصة، قيمة حضاريّة، فلذلك سمتها، لا يعي قيمتها إلا فنان حاذق، رسمها من كل جوانبها، درسها درساً عميقاً بوعي، وعرف قيمة تعريها، عرف صلتها بما هو كائن الآن من عدم معرفتها، ومعرفة ارتباطها بالتراث، ففي البداية نراها ” نعم، تستهويه بكل ما فيها بملابسها القذرة، بأطرافها المتسخة، بأظافرها القذرة، بشعرها الأشقر المتطاير بفوضى مسحت أي أثر لتمشيط حدث في الزمن الغابر – دراسة التراث – بدموعها التي تذرفها وهي تستجدي المارة – لدراستها – بحالات الجنون التي تنتابها – بالنظر المعمق لفهمهما – فتجعلها تتعرى من ملابسها – مما يسترها عن أعين الدارسين وبحث الباحثين – وتنصب نفسها إلهة مجنونة ترقص عارية في سبيل الحوريات – إلهة – تستحق الإجلال والاحترام.
وتشرك القاصة الجميع في النظر إلى ” هاجر ” القيمة التراثية الحضارية التي نفزع إليها عندما تنوبنا نائبة ؛ ” الصغار يتصايحون، والرجال يحوقلون، وبعض النساء تتبرع لسترها بملابسها من جديد ” هي جزء من الحضارة، هي ذاكرة الحضارة ” نهاراتها تقطعها بين آثار سبيل الحوريات، وفي الليل تتكور في ركن منه وتنام ملء شواردها والسياح يقصدون الأماكن الأثريّة ليلتقطوا لهم صوراً معها، أو : صوراً لها، وروح حضارتنا ” كانت تفرح عندما تلمع في عينيها أنوار كاميرات السيّاح – وهي في عز جنونها وقذارتها – علّهم يعرفون عنها – عن حضارتنا – شيئاً، علّهم يعرفوننا حق المعرفة، ولكن …. .
قابلها لأول مرة وهي في نوبة من نوبات جنونها … لكنها كانت جميلة … لحظتها شعر بأنا إلهة مسحورة ينفك سحرها في ماء مقدس … كان نفساً تتذوق نفساً”.
هو المهندس المعماري الذي يعرف عن وعي ودراسة ما حوله في سبيل الحوريات، وما تضفيه هاجر على فنّه وعلمه، وما هي بحاجة إليه من مسح ما علق بها من قاذورات وأوساخ، وما أن ” أهداها مشبكين للشعر ” حتى بذلت محاولة جادة لتمشيط شعرها ” وعكر صفو عمله ” أول قطرات مطر من الشتاء ” وما جعلها تتفاعل مع تداخل الألوان في اللوحة ” يا … خسارة … فسدت اللوحة ” واصطحبها إلى شقته في ” الحي اللاتيني ” التي تذكرنا برواية الدكتور سهيل إدريس في مطلع الخمسينيات، والتي رسم فيها العلاقة بين الشرق والغرب ” ولكن في عالم جديد، عالم نسعى إليه نكون فيه إنسانيين لا شرقين فقط، عالم تتغير فيه مفاهيمنا عن الإنسانية والحريّة والمسؤولية، عالم هو البداية التي انتهت بها قصة ” الحي اللاتيني ” لسهيل ادريس.
” وأعادت أمه بالسؤال عليه :
- لقد انتهينا الآن إذن يا بني ؛ أليس كذلك ؟
فأجابها دون أن ينظر إليها :
- بل الآن نبدأ يا أمي. ” [2]
“واختفت هاجر، وافتقدها سبيل الحوريات، … كذلك اختفى الفنان الذي ظهر من جديد في مدينة أخرى … ” وإن كان زوجها الوحيد الذي يعرف أنه يملك زوجة ساحرة عيبها الوحيد – عندما تحل نائبة في الشرق، وتتفاعل مع الأحداث ” تتعرى عندما تغضب، وتشرع في البكاء.”
وكثيراً ما نسمع في هذه الأيام الصيحات التي تنطلق من الغرب أن الكثرة الكاثرة من الغربيين لا يعرفون عن الإسلام شيئاً، ولا عن الحضارة العربية الإسلاميّة شيئاً، فيعود ” الاستمرار التوتر القديم في تحديد موقع الجماعة الثقافيّة العربية في العالم، أي : ما اصطلح عليه بفكرة الهُويّة من نحن ؟ من الآخر ؟ واشتداد ميول الانغلاق ( الخصوصيّة، الأصالة ) القائمة على نظرة ميثولوجيّة – أسطوريه – أو : نظرة أيدولوجيّة – عقديّة – إلى الذات والآخر. ” [3]
. . . . . . . . *****. . . . . . . . .
الهوامش:
[1] عمان تاريخ وصور، أرسلان رمضان بكج ؛ منشورات أمانة عمان ؛ 2002 ؛ ص (87). وعمان الكبرى تاريخ وحضارة ؛ د. فوزي زيادين، موسوعة عمان 2، منشورات أمانة عمان ؛ 2004، ص (126-127).
[2] مشكلات ونماذج في ” الحي اللاتيني ” ؛ رجاء النقاش ؛ الآداب ؛ ع 6 ؛ حزيران – يونيو 1954 ؛ ص (46-9 ).
[3] كتاب في جردية ؛ ع 107، في الأحوال والأهوال من المنابع الثقافيّة والاجتماعيّة للعنف ؛ فالح عبد الجبار؛ 4 تموز 2007.
المراجع:
- أرسلان رمضان بكج: عمان تاريخ وصور، منشورات أمانة عمان ؛ 2002 .
- د. فوزي زيادين: عمان الكبرى تاريخ وحضارة ، موسوعة عمان 2، منشورات أمانة عمان ؛ 2004.
- رجاء النقاش: مشكلات ونماذج في ” الحي اللاتيني ” ؛ الآداب ؛ ع 6 ؛ حزيران – يونيو 1954 .
- فالح عبد الجبار: كتاب في جردية ؛ ع 107، في الأحوال والأهوال من المنابع الثقافيّة والاجتماعيّة للعنف ؛ 4 تموز 2007.