جدلية الحب والحرمان في المتخيلات السردية قراءة في مجموعة (أرض الحكايا) لــ سناء شعلان

Vol. No. 1, Issue No. 3 (Special Issue) - July-September 2021, ISSN: 2582-9254

0
837
جدلية الحب والحرمان في المتخيلات السردية
قراءة في مجموعة (أرض الحكايا) لــ سناء شعلان

 بقلم

د. فيصل غازي محمد النعيمي

كلية التربية، جامعة الموصل، العراق.

————————————-

تجربة الحب على المستويين الحياتي والثقافي تجربة شديدة التعقيد والبساطة في الآن نفسه، وهي ممارسة مصاحبة في الغالب للتجربة الثقافية للإنسان مهما كان نوع ومستوى هذه التجربة. ولهذا فهي تعكس في بعض تجلياتها شكل التجربة الثقافية ومن ثم الفنية وتمثل مرحلة مستمرة ومتنامية لا سيما في المتخيلات السردية بأشكالها المختلفة والمتعددة، وهي تثير وتحاول أن تجيب في أسئلة لطالما حاولت المدونات السردية التعبير عنها. وأي عملية فهم لتجربة الحب ستكون قاصرة إن لم يتخللها فهم للوجود الإنساني، ففعالية الحب في هذا الوجود تنبع من كونه ليس إحساسا عاطفيا فحسب بحيث يمكن للإنسان الانغمار فيه بسهولة، بل هو فعالية تطور الشخصية الكلية للإنسان لكي يحقق أهدافا كلية.[1]

وإذا كان الحب والكراهية أو الحب والحرمان من الأحوال النفسية والوجدانية التي يصعب على الإنسان تحديد معناها بدقة، لذلك فهذه الثنائيات من الاحوال التي يشعر بها الإنسان ولا يستطيع التعبير الصحيح عنها.[2]

إلا أن هذا لا يعني عدم إمكانية رصد هذه الفعالية على مستويات المعرفة والعلم والأدب، لأن هذا لا يغض من القيمة العليا للحب. ((بل يحولها من معرفة متعالية تتحرك في السقوف البرهانية العليا للعقل البشري أو مابعد ذلك إلى معرفة بشرية قابلة للتداول والممارسة والفعل والاحتفاء والتكوين والشيوع، تبدأ بالشعور التعبيري البسيط والعفوي والبريء ووتنتهي بالحدس)).[3]

وتتجلى ثنائيات الحب والحرمان الروحي والجسدي في النصوص الأدبية المختلفة بوصفها ركائز ومفاهيم معرفية قائمة على مباديء فكرية لعل من أهمها مباديء الضرورة والدافع. فمنذ المتخيلات الحكائية الإنسانية القديمة وحتى المتخيلات المعاصرة، وقضايا الحب المتنوعة والمتدانية الجذور والدوافع أو المشحونة بالدلالات والقيم والمتأسسة على مرجعيات تاريخية ودينية وأسطورية واجتماعية، تشغل المشاهد الفنية في المدونات الفنية وتحتجز لنفسها حيزا واسع المدى.

تحتفي الكاتبة الأردنية (سناء شعلان) في مجموعتها القصصية (أرض الحكايا) بقضية مركزية مؤطرة للحكي بأكمله وتشتغل على وفق رؤية مركبة تتوزع ما بين الفكري والفني وهي جدلية الحب والحرمان التي تأتي بأشكال ومستويات مختلفة إلا أنها تمثل الثيمة المركزية لأغلب قصص المجموعة.

تنتظم قصة (سداسية الحرمان) على المستويين المضموني والبنائي على وفق منظومة فكرية/ثقافية/سردية، فالقصة عبارة عن ست قصص تختلف في العنونة الفرعية وفي شخوصها وفضاءاتها وربما أحداثها، إلا أنها تعبر عن قضية مركزية واحدة وبطرائق تعبير سردية متنوعة، هذه القضية أو الإشكالية تدور حول جدلية الحرمان من الحب ومن ثم البحث عنه على وفق تصورات إنسانية وفكرية. إلا أن ما يميز هذه القصص الطابع المأساوي الذي يربط بين إشكالية الحب من جهة والنهاية المأساوية لشخوص أو أحداث القصة.

في القصة الفرعية الأولى (المتوحش) تبرز ثنائيات مركزية وأخرى متفرعة عنها ضمن جدلية سردية، فكرية تؤسس لحوارية تعبر عن الجانب المسكوت عنه في القصة الإطارية بأكملها. فثنائية الحرمان/الحب، يتناسل عنها ثنائيات أخرى لعل من أهمها: الذكورة والأنوثة ومن ثم الحضارة /التوحش، فالأنثى في القصة هي أصل الحب والحنان والمأوى والعائلة ومن ثم تتحول إلى أصل الحضارة والتمدن((غدا الحيوان صديقه المفضل الذي يقاسمه كل شيء، وبدأ يعتاد عليه، وعلى تكور بطنه الذي يفرز حيوانات صغيرة لزجة كسمكة مهروسة، كان ينوي ان يأكل تلك الحيوانات، لكنه وجد نفسه يحبها بشدة، ويدافع عنها إذا ماتعرضت لأي هجوم من حيوانات الجزيرة، كما وجد نفسه يعامل الحيوان الكبير برقة، ويألف جسده الغريب ذا الأعضاء الغريبة، ويعطف عليه، ويحضنه ليلا بكل شغف. تعلم بعض الكلمات من الحيوان الذي لم يعرف من أين جاء أبدا أبدا، فعرف أن اسمه رجل، وأن اسمها امرأة)).[4]

تأخذ القصة شكلا انثروبولوجيا وهي تعبر عن التجربة الإنسانية في التحول من الحياة البربرية والتوحش نحو الحب والتمدن والحضارة، وتاخذ الأنثى الدور المركزي في هذه العملية وتصبح الصنو الآخر للحضارة، ويحاول الرجل أن يقهر الانفصال والوحدة القهرية التي يعيشها عبر الاندماج بتجربة الحب مع المرأة ((إن أعمق حاجة عند الإنسان هي الحاجة إلى قهر انفصاليته. هي ترك سجن عزلته)).[5]

إن جدلية الحب/الحرمان تشتغل بفاعلية تعمل على توجيه أحداث القصة ضمن رؤية سردية/ثقافية ترى بان الحب والأنثى ما هما إلا وجه آخر للحضارة والتمدن وقهر الانفصال والعزلة ((كاد يخترع كلمة تعبر لكيلا عن أشواقه، وعن فرحته بها، واعتياده على رائحتها (…) لكن ذلك لم يكن، فقد جاء رجال كثر بملابس غريبة(…) ثم اختطفوا كيلا والطفلين، وتركوه وحيدا بعد معركة خاسرة، كان مثخنا بجراحه، ولكن حزنه على كيلا كان أعظم، لزمن طويل فكر في الكلمة التي كان من المناسب أن يخترعها لكي يقولها لكيلا، ثم انقطع عن بحثه الحزين إذ لم يكن هناك حاجة لأي كلمات بعد غياب كيلا)).[6]

تأخذ جدلية الحب/ الحرمان شكل الثيمة المركزية التي تربط بين القصص الفرعية الست ولكن على أشكال ومستويات فردية مختلفة، في قصة (المارد) يأخذ السرد شكل الإيقاع الزمني المعتمد على تقنيتي (الخلاصة والحذف) التي تتجاوز مديات زمنية أسطورية وطويلة جدا، ويتساوى عند الشخصية الرئيسة (المارد) عزلته في قمقمه منذ آلاف السنوات، وحرمانه من الحب والاتصال مع الموجودات (إنسية اوجنية).

الا الحب يتحول إلى فعل وتضحية وإيثار لأجل المحبوب وهي من تدفع بالشخصية (المارد) إلى عودته إلى عزلته من جديد ((بكلمة واحدة منها عاد المارد إلى قمقمه، أغلقت القمقم بحزن من يشيع جنازة، وأعطته إلى الحبيب الغيور، الذي طوح بالقمقم بعيدا في البحر، أحد بعد ذلك لم يرَََ المارد، إلى نعاه البحر لأمواجه لكن أسماك البحر سمعت صوت سكرات موته، فقد تحطم قلبه العاشق، وغدا ألف شظية على يدي الإنسية الجميلة)).[7]

إن ارتباط بالتضحية لأجل المحبوب ومن ثم الموت أو الخسارة هو مايميز باقي القصص الفرعية لقصة (سداسية الحرمان) في (الخصي وفتى الزهور) أما باقي القصص (إكليل العرس والثورة) فتأخذ بعداً رمزياً حيث يدفع الحرمان بالشخصيات أما نحو الإبداع أو التغيير والثورة على المرأة. ((نسوا تماما جمعية مناهضة هي، ونادوا بصدق بسقوط الفقر والظلم والحرمان، جابت الثورة كل البلاد، وهتف الكل باسم الثورة، في المساء كانت هي والأصدقاء حيث يكون كل الثائرين، كانت مؤمنة بعدالة قضيتها على الرغم من وقع السياط المؤلم، أما هم فكانوا يلعنون (هي) التي أوصلتهم إلى هذا المكان، وفي هدأة الليل وضعوا البنود الرئيسية لجمعية مناهضة (هي)، كما قسموا حقائب الجمعية، وسموا الأعضاء الدائمين فيها)).[8]

تلتزم الكاتبة في قصة (أكاذيب البحر) بذات المنظومة السردية والفكرية التي قامت عليها قصة (سداسية الحرمان) فالقصة تأخذ شكل القصة الأولى (ست قصص فرعية يجمع بينها عنوان واحد وفضاء واحد ومن ثم ثيمة مركزية واحدة تستقطب باقي الثيمات)، الا الحرمان من الحب ومن ثم الوقوع فيه يتواشج ضمن حساسية سردية مع قيم الكذب والصدق والتضحية مما يعطي القصة بعدا رمزيا وأسطوريا يعمق من دلالاتها.

وما يميز هذه القصة الفضاء الواحد الموحد لأحداثها وشخصياتها والمرتبط بالحب والخيانة والتضحية والكذب وهو البحر حيث تتضح دلالات الانفتاح واللاثبات والتغيير((يتجشأ البحر وهو ينسحب في الجزر، فيبتلع نفسه، وتعلوه رائحة الأسماك، فتبرز سارية السفينة الفارقة منذ مئات السنين قبالة قريته الصغيرة، ومن بين أراضي الشاطيء الرطبة المنكشفة التي عراها البحر تبرز هي، تأتيه راكضة بسرعة موجة، وبأسرار غيمة، تكتسي باردية من زرقة البحر، تملك الاردية التي اشتهاها لسنوات ثلاث، يرهف مشاعره وعينه متأملا ورودها الذي يؤنس رجولته.

يفتح ذراعية، ويعدر صدره العري لاستقبالها، ترتمي بكل زرقتها بين يديه، تتمنى أن تجد متسعا من الوقت لتقول له كم تعشقه)).[9]

تكشف أدوات التعبير السردي ولا سيما (اللغة) في المقطع السابق عن تواشج وتقاطع في الوقت نفسه بين الحب والحرمان من جهة والحب الرغبوي الجسدي والحب الطهراني من جهة ثانية، مما يساعد على هدم الحدود بين هذين العالمين، وبذلك ترتفع قيمة الأنثى/المعشوقة وتتماهى تماما مع صفات الفضاء المكاني (البحر) وتغدو إحدى تجلياته وصوره المعبرة عن الحب والخديعة والحرمان والتضحية.

وتبرز ثنائية فرويد في الحياة (ايروس) والعدم (ثاناتوس) وهي تشتغل في النص السردي ضمن رؤية فنية تنتصر للحياة والحب وتختار طريق التضحية لأجل المحبوب ضمن أجواء طقوسية، ويتحول الخوف من الموت والاندثار والعزلة والحرمان إلى تأكيد للحياة وللحفاظ عليها.[10]

فالحرمان القسري الذي يفرض على الشخصية ويمنعها من أشياء كثيرة من أهمها (الحب) يدفع بالشخصية إلى التضحية بإمامة الطائفة التي تتساوى مع العزلة والموت والكذب لأجل البحر والحبيبة، ((وتزوجا لساعات لأيام فقط كانا زوجين، تسكعا في أرجاء مدينة القطط، مارسا العشق في كل أرجائها، اختزلا في ساعات حبهما كل مراحل الحب وقصصه(…) وسافر سليل الأساطير والعمامات السوداء، ولم يعد بعد أن كتب على عجل على بوابة صحرائها: كانت مدينة القطط طيلة سنوات ثلاث مدينة لا تطاق، كنت أتمنى الخلاص منها، وتركها في أسرع وقت، لكن عينيك صيرتا القفر واحة يهوي القلب إليها، ليستريح فيها من عناء الدنيا)).[11]

تشكل جدلية الحب والحرمان في قصة (الجدار الزجاجي) على وفق تصورات ورؤى ومرجعيات مخالفة لما موجود في المجموعة القصصية، إذ تبرز الدلالات الاجتماعية للحضارة المادية التي تغيب تماما النزعة الإنسانية القائمة على المودة والمحبة، مما يجعل منها تؤسس لمرجعية اجتماعية قائمة على مباديء القمع والانتهاك والحرمان. ويربط (هربرت ماركوز) بين التقدم الصناعي وبين الإحساس بزيادة الاستعباد لدى الفرد والجماعة، هذا الاستعباد المتلازم بهمجية الإنسان وبعده عن إنسانيته.[12] تبدو شخصيات هذه لقصة وكأنها تنتمي إلى عالمين متناقضين تماما ولا يمكن لهما أن يلتقيا، عالم الطفولة والبراءة والمحبة حيث وجود الأم، وعالم القمع والانتهاك والتعذيب ومن ثم الموت المرتبط تماما بغياب الأم القسري عن البيت، وتبدو الجملة الافتتاحية للوحدة السردية الأولى وكأنها شحنت بالدلالات الرئيسة للقصة وهي تعبر عن لوعة الحرمان بسبب فقدان الأم ((جدار زجاجي رقيق كما رقاقة كنافة هو أول من أذاقه الحرمان، وعرفه لوعة التنائي، لا يزال يذكر للآن زجاج نافذة سيارة الأجرة التي أقلت أمه بعيدا، ومنذ ذلك اليوم لم يرها أبدا، كانت طيبة كالسماء، طاهرة كدمعة، بنيتها صغيرة تصلح للدلال والمداعبة، ملابسها قديمة، ومنديل أصفر قديم يحيط برأسها، ويطوق رقبتها، اعتاد أن يراها كسيرة تستمريء الذل بدمعة صاغرة، لم يسمعها يوما تسب أحدا، لم يسمعها يوما تحلم بغد جديد)).[13]

تنبثق علامة الحرمان في المقطع السردي السابق وترتبط بسرد ذكريات حزينة تحتشد فيها الصور الدالة على الأسى والفراق وذكرى الأم الغائبة/الحاضرة. ولاتتوقف تجربة الفتى عند حدود تذكر القمع والانتهاك الذي عانت منه الأم بل يمتد ضمن تجربة قاسية عانى منها. لترتبط مع الأخت الصغيرة التي فضلت أن تعبر عن احتجاجها على الحرمان والذل الذي تعانيه بالموت ليتحول الموت إلى طريق للخلاص من الآلام التي تعانيها هذه الفتاة الصغيرة ((بقي يحلم بتحطيم الجدار الزجاجي، الذي حطمه أمام وهيج النار التي أكلت عيشة حد القرمشة، دلقت عيشة الكاز على نفسها من الوابور النفطي، أحرقت بجسدها كل جدران الدنيا، وأطعمت نفسها للنسيان، كان محبوسا بين الزجاج والقضبان عندما حاصرتها النار بشهية (…) ومن جديد فصله عنها جدار زجاجي آخر، قال الأطباء إن حالتها خطيرة، وان عظامها المعراة دون جلد الا من مزق محترقة عرضة للجراثيم والبكتريا، فوضعوها عارية في صندوق زجاجي معقم، كان يتمنى لو أنه يستطيع أن يمسد بيده على رأسها ذي الشعر المتلبد المتفحم، حلم بأن يضمها إلى جسده، لكن الجدار الزجاجي حرمه أيضا منها، ووقف سدا منيع يحصر آهاتها، ويأسر احزانه (…) ردد الأغنية مع عيشة عشرات المرات، كان متأكدا من أن عيشة تحلم بحضن أمها التي ابتلعها النسيان، عندما توقفت حركة شفتيها، أدرك قد ارتاحت للأبد، وأن الجدار الزجاجي قد كفنها خلف صمته، وابتلعها كما ابتلع أمه دون رجعة. لم يحضر دفن عيشة؛ لأنه كان يخشى جبروت الجدار)).[14]

تتشكل أكثر من علامة في فضاء هذا النص لعل أهمها الجدار الزجاجي الذي عنونت به القصة، وهو فعالية وسلطة على تاريخ شخصيات القصة بدءا بزجاج نوافذ السيارة الذي غيب حنان الأم إلى الأبد وجعل منها مجرد ذكرى للحنان المفقود والحرمان الحاضر، ومن ثم زجاج نافذة الدار الذي كان يسجن خلفه، وبعد ذلك زجاج القفص الطبي الذي احتضن جسد شقيقه. العلاقة الثانية البارزة في فضاء النص السابق ارتبطت بالطريق الذي رسمته الفتاة للخلاص من القهر والذل والحرمان وهو طريق الموت الاختياري. وهو ذات الطريق الذي اختاره الفتى للخلاص وإعادة الاندماج من جديد مع من فقدهم للوصول للحب والأمان، الا أن الفارق بين الطريقين، إن الموت بوصفه طريقا للخلاص كان عند الفتاة اختياريا أما مع الفتى فقد كان قسريا بسبب الفقر والبرد ومن قبلهما فقدان المحبة (الأب – الأم – الأخت) ((ذهب في إغفاءة لذيذة، تكور على نفسه حد الالتصاق، كان البرد في اشتداد، وبعض قطع الثلج القطنية تهبط على رقبته التي انكشفت بوضوح من تحت سترته الجلدية القديمة التي حصل عليها من النجار، رأى في حلمه كل جدران الدنيا وقد دكت شظايا وحطاما، استيقظ من إغفاءته، كانت أطرافه متيبسة باردة، بصق في يديه، لعله يهبهما دفعة دفء منعشة، عزم على أن يتحدى الجدار وأن يقرعه طلبا للدفء والمأوى، ولكن أطرافه المتجمدة قهرت إرادته، استسلم بذل للجدار الزجاجي الذي رأى ابتسامة سخرية تندى من برودته الصفيقة، وغاب في أحلامه…

في الصباح كان المكان يزهو بثوب أبيض من الثلج الجميل، وإلى جانب الشرفة الزجاجية كتلة متجمدة اسمها شاهر، الذي كُسيَ وجهه بالثلج، وبابتسامة عميقة غريبة… تدل على راحة أبدية)).[15]

مثل الجدار الزجاجي علامة فارقة في نص القصة وفي حياة الشخصيات، إذ إنه رسم الخط الفاصل بين عالمين وحياتين ومفهومين قد لا يلتقيان الا ليكمل احدهما الآخر، وبقدر مامثل هذا الجدار رمزا للحرمان والقهر وسببا لاختيار الشخصيات الموت للخلاص منه ومن الحياة، فإننا نجد في قصة أخرى نقيض هذه التمثيلات السردية، وهذا مايمثل رؤية فنية انقلابية للرؤية الأولى، وترتكز على رسم مقولة إن الحب هو الطريق للخلاص عبر خلق عالم لا زماني وسياج عبر (الحب) بين عوق الشخصية وبين عالمها الخارجي، نواجه في قصة (الطيران على ارتفاع 1000 دقة قلب) شخصيتين معاقتين لأسباب مختلفة، الفتاة بسبب عشقها الطفولي للطيران والرجل بسبب حادث ((تحب الطيران، تحب ان تأخذ شهيقا عميقا، ثم تغمض عينيها، وتنزلق في الهواء، تنزلق فيه كسمكة منسربة بأجنحة من نور، تواجه الريح بجسدها المشروخ وعينيها المستكينتين، وابتسامتها الفارقة في الهواء، وتفكر كثيرا في أن تقابل الريح بنظرة متحدية تشمل الفضاء والأرض وطيورهما، تتمنى أن ترصد من علٍ تكور جسدها، واستسلام عضلاته للريح الخاضعة لجبروت الجاذبية، تزداد دقات قلبها، تعجز عن تحمل فكرة التحديق في جبين الأرض، ليته كان يمسك يديها، ليت نظراته المذلفئة في الكتاب تطالعه بلا ملل تمتد أيد تمسك بيديها، وتنطلق معها في الفضاء… ليته يفعل ذلك، ليته، وتسقط من أعلى قمة… وتهوي بسرعة جنونية إلى الأرض يتقلص قلبها الصغير، ويستسلم للانسحاق)).[16]

تنبع المفارقة الدرامية/السردية في المقطع السابق وفي القصة بأكملها من أن عشق الفتاة الصغيرة للطيران هو المسبب الفعلي للعوق الجسدي الذي عانت منه طيلة عمرها، إلا أن هذا العشق تحول إلى طاقة ايجابية وقوة روحية مكنت الفتاة من التغلب على عوقها واختيار الحب طريقا للخلاص، وتتضح قيمة الحب والحنان ودورهما في بناء الشخصية الإنسانية على الرغم من عوقها، ولا تتجلى في هذه القصة حاجة الإنسان للحنان فقط، بل((الحاجة إلى أن تظهر الحنان للآخر)).[17] على وفق متوالية تبادلية تعلي من شأن الحب والتضحية والجانب المعنوي للإنسان على حساب الحرمان وإهمال الجانب الشكلي، وبذلك تظهر الحاجة إلى الحب والاندماج والاتحاد مع العالم لقهر العزلة التي تعيشها الشخصية على مستى عالميها الداخلي والخارجي((وطالت القصة… أو قصرت… بالتحديد أصبحت بطول وقفتهما بالقرب من جرف عال، استطاعت منه أن تريه سنديانتها القاسية، وأن يريها المستشفى الذي رقد فيه اشهر إلى أن اقعد، حدثها طويلا، فحدثته مدة أطول، سمعها وسمعته، وأحيانا لم يسمعها، وفي بعض المرات لم تسمعه… كان قلب كل منهما يخفق بمعدل 1000 دقة في الدقيقة. استند على كرسيه الرمادي وعلى مساعدتها لينتصب بصعوبة، ثم تهالك في حضنها الصغير، الذي كان أضعف من أن يحتمل جسديهما، انهارا ضاحكين على الأرض، قرب الجرف تماما… غرقا في عيني بعضهما أومأت بخجل، ثم سقسقت، وقالت: أحبك. سقسق على منوال مافعلت، وقال: ((احبك)).

انتصب من جديد بمساعدتها بصعوبة بالغة، اشرعا أيديهما التي أنهكها التعب ليطيرا، حدقا في البعيد، حيث مسقط الشمس، تحديا الجاذبية والريح، أخذا نفسا عميقا، ملأ رئتيهما بشيء لذيذ اسمه الحب، وطارا… طارا على ارتفاع ألف دقة قلب)).[18]

وتتكرر هذه الثيمة المركزية (الحب طريقا للخلاص) من العزلة والانفصال والقهر والموت في قصص أخرى وبطرائق تعبيرية سردية مغايرة(صديقي العزيز/اللوحة اليتيمة/دقلة النور/الصورة).

إن الخطاب السردي الأنثوي لـ سناء شعلان انتصر لقضايا إنسانية مصيرية وحاولت الكاتبة من خلال هذه القضايا أن تبرز الجانب الإنساني المفقود لشخصياتها الهامشية وأن تمارس العشق عبر الكتابة السردية ضمن سياق ثقافي في الكتابة النسوية يعلي من قيمة الإنسان والحب والعطاء والتضحية والأمل.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .  *****. . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الهوامش:

[1] إريك فروم، ت: مجاهد عبدالمنعم مجاهد: فن الحب، دار العودة، بيروت، 2000م، ص 9

[2] ينظر: الأهواني، أحمد فؤاد: الحب والكراهية، دار المعارف/القاهرة/ط3/1991، ص 44.

[3] عبيد، محمد صابر: المغامرة الجمالية للنص الروائي، عالم الكتب الحديث (سلسلة مغامرات النص الإبداعي 3)/اربد/ط1/2010، ص 229.

[4] الشعلان، سناء: أرض الحكايا، نادي الجسرة الثقافي والاجتماعي، قطر، 2007م، ص 15.

[5] إريك فروم، ت: مجاهد عبدالمنعم مجاهد: فن الحب، ص 30.

[6] الشعلان، سناء: أرض الحكايا، ص 16-17.

[7] م. ن/19.

[8] الشعلان، سناء: أرض الحكايا، ص 32.

[9] م. ن/32.

[10] ينظر: فروم، إريك، ت: سعيد زهران، مراجعة: لطفي فطيم: الإنسان بين الجوهر والمظهر، ص 33

[11] الشعلان، سناء: أرض الحكايا، ص 42.

[12] ينظر: ماركوز، هربرت، ت: مطاع صفدي: الحب والحضارة، دار الآداب، بيروت، ص 40

[13] الشعلان، سناء: أرض الحكايا، ص 61.

[14] الشعلان، سناء: أرض الحكايا، ص 66-67.

[15] الشعلان، سناء: أرض الحكايا، ص -69.

[16] م. ن/81.

[17] بارت، رولان، ت- الهام سليم حطيط وحبيب حطيط: شذرات من خطاب في العشق، سلسلة إبداعات عالمية، (324) المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2000، ص 204.

[18] الشعلان، سناء: أرض الحكايا، ص -88.

مكتبة الدراسة:

  1. إريك فروم، ت: مجاهد عبدالمنعم مجاهد: فن الحب، دار العودة، بيروت، 2000م.
  2. الأهواني، أحمد فؤاد: الحب والكراهية، دار المعارف/القاهرة/ط3/1991.
  3. بارت، رولان، ت- الهام سليم حطيط وحبيب حطيط: شذرات من خطاب في العشق، سلسلة إبداعات عالمية، (324) المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2000.
  4. الشعلان، سناء: أرض الحكايا، نادي الجسرة الثقافي والاجتماعي، قطر، 2007م.
  5. عبيد، محمد صابر: المغامرة الجمالية للنص الروائي، عالم الكتب الحديث (سلسلة مغامرات النص الإبداعي 3)/اربد/ط1/2010.
  6. فروم، إريك، ت: سعيد زهران، مراجعة: لطفي فطيم: الإنسان بين الجوهر والمظهر، سلسلة عالم المعرفة (140)، الكويت 1989.
  7. ماركوز، هربرت، ت: مطاع صفدي: الحب والحضارة، دار الآداب، بيروت.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here