تمثلات الأدب العربي في شعر  محمد إقبال

Vol. No. 3, Issue No.1&2 - Jan-Jun 2023, ISSN: 2582-9254

0
273

تمثلات الأدب العربي في شعر  محمد إقبال

محمد توحيد عالم

باحث في الدكتوراه، قسم اللغة العربية، جامعة غوربنغا، مالده، بنغال الغربية، الهند.

ttdalam@gmail.com

—————————

الملخص:

تناول البحث موضوع “تمثلات الأدب العربيّ في شعر إقبال”. بدأ البحث بتعريف موجز للشاعر محمد إقبال الذي يحتل بجدارة مكانة مرموقة بصفته شاعر المشرق. عاش في بنجاب إلى آخر أيامه، ونشأ نشأةً إسلاميّةً. كان يتكلّم اللغتَيْن البنجابيّة والأرديّةمنذ طفولته، ثم تعلّم العربيّة والفارسيّة والإنكليزيّة، وكان له إلمام باللغة الألمانيّة. نظمالشعر باللغتَيْن الأرديّة والفارسيّة. مع أنّه لم يسافر إلى إيران ولا عاشر إيرانيًا عدّه الإيرانيّون أكبر شعراء الفارسيّة، ووضعوه فوق كثير من فطاحل شعرائهم. وبما أن الشاعر استقى العديد من أفكاره ومعانيه من النصوص اللغة العربيّة وآدابها، تناول الباحث هذه الجوانب متحدثا عنكيفية تأثره بالأدب العربيّوتمثلات الأدب العربيّ في شعره، وجماليّته اللغويّة التي اكتسبها من جمال اللغة العربيّةيهدف البحث إلى الكشف عن تمثلات الأدب العربيّ في شعر محمد إقبال، وبيان مدى قدرته على إعادة تشكيل ما استوحاه من الأدب العربيّ في صور شعرية جديدة. وذلك عن طريق تحليل نماذج عديدة من قصائده. والبحث متبوع بالخاتمة.

الكلمات المفتاحية: تمثلات الأدب العربيّ، شعرإقبال، خضر راه، محمد إقبال، مسجد قرطبة.

ولادة إقبال ونشأته:

هو محمد إقبال ابن الشيخ نور محمد بن محمد رفيق. ولد في مدينة سيالكوت في مقاطعة بنجاب سنة 1877م، وهو سليل بيت معروف من أوسط بيوتات البراهمة في كشمير. أسلم جده الأعلى قبل مئتَي سنة، وعرف ذلك البيت منذ ذلك اليوم بالإصلاح والتصوف، وكان أبوه رجلًا صالحًا يغلب عليه التصوّف.

نشأ إقبال في مدينة سيالكوت، وتعلّم في مدرسة إنجليزيّة في بلده، وفاز في الامتحانَ بامتياز. ثم التحق بالكليّة في ذلك البلد، حيث تعرّف على الأستاذ السيد مير حسن، أستاذ اللغة الفارسيّة والعربيّة في الكليّة، فأثّر في الشاب الذكيّ كلّ التأثير، وغرس فيه حبّ الثقافة والآداب الإسلاميّة، ولم ينس إقبال فضله إلى آخر حياته. سافر إلى لاهور، عاصمة بنجاب، وانضم إلى كليّة الحكومة، حيث حضر الامتحان الأخير في الفلسفة، وبرز في اللغة العربيّة والإنجليزيّة ونال وسامين، وأخذ شهادة البكالوريوس بامتياز. وحصل على شهادة الماجستير في الفلسفة بامتياز، ونال وساما، ثم عُيّن أستاذا للإنجليزيّة والفلسفة والسياسة في الكليّة الشرقيّة في لاهور. ثم أستاذا للإنجليزيّة والفلسفة في كليّة الحكومة التي تخرج منها. سافر إلى إنجلترا عام 1905م، والتحق بجامعة “كمبردج” وأخذ منها شهادة عالية في فلسفة الأخلاق، وحصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة ميونخ في ألمانيا، وبعد عودته إلى لندن لم يضع وقته بل نال شهادة “المحاماة” من جامعة لندن. ثم رجع إلى الهند سنة 1908م. عاش إقبال حياة امتلأت بالنشاط العلميّ والأدبيّ الذي وجهه لخدمة الإسلام والمسلمين إلى أن توفى سنة 1938م، بعد أن اشتهر بشعره وفلسفته، وقد غنت له أم كلثوم إحدى قصائده وهي “حديث الروح” (شكوى وجواب شكوى).

نظم إقبال أشعارًا كثيرةً يحثّفيها المسلمين منذ أول يوم من نشوئه الفكري والشعريّكما جاء في ديوانه “صلصلة الجرس” قصيدة ترجمها الشاعر المصريّ الصاوي شعلان تحت عنوان شكوى وجواب شكوى، وتبدأ الشكوى بكلمة حديث الروح ولذلك سمّيت أغنية أم كلثوم لأبيات مختارة من القصيدتين باسم حديث الروح. وهو لم يشعر إلا أنّه خلق للأدب الرفيع.

انعكاس الأدب العربيّ في شعره:

كان إقبال عارفًا خبيرًا باللغة العربيّة، وآدابها وفلسفتها، وتعلم اللغة العربيّة تعلّمًا عميقًا وتأثّر بها وبأدبها، وتأدّب بآداب القرآن الكريم على يد والده، ودرس آداب اللغة العربيّة على يد الشيخ مير حسن، وحصل على درجة الامتياز في مادة اللغة العربيّة ضمن شهادة التخرج من جامعة بنجاب، و”كتب عن نفسه رسالة إلى مهاراجا سر كشن بهادر رئيس وزراء ولاية حيد آباد دكن (الهند) ويقول فيها: لقد نلت الدرجة الأولى من اختبارات اللغة العربيّة في ولاية البنجاب كلها”[1]. و”تولّّى إقبال تدريس اللغة العربيّة في الكليّة الشرقيّة بلاهور ودرّس لمدة أربع سنوات”[2]، وفي إقامته في جامعة لندن، درّس اللغةَ العربيّةَ،فيقول أبو الحسن الندوي: “ومكث في عاصمة الدولة البريطانيّة ثلاث سنين، يُلقي محاضرات في موضوعات إسلاميّة، أكسبته الشهرة والثقة، وتولّى في خلال تلك المدّة تدريس آداب اللغة العربيّة في جامعة لندن، مدة غياب أستاذه أرنولد”[3].

كان إقبال معجبًا أشدّ الإعجاب بالشعر العربيّ القديم، وكان له باع طويل في الشعر الجاهليّ والكلاسيكيّ العربيّ الإسلاميّ، يقول عنه أبو الحسن الندوي: “تحدّث عن كل موضوع؛ تحدّث عن الشعر العربيّ القديم، وتحدّث عن إعجابه بصدقه، وواقعيّته، وما يشتمل عليه من معانيّ البطولة والفروسيّة، وتمثّل ببعض أبيات الحماسة…. وذكر أنّ العقل العربيّ كان أقوى على إساغته الإسلام إساغة صحيحة وأجدر بحمل أمانته”[4].

كان إقبال مولعا بالأدب العربيّ، في الحقيقة أنّ العربيّة كانت داخلة في روحه. العربيّة تتعلّق بالعرب وكان يحب العرب لكونه بلاد الحبيب، فكأنّ تلك الأرض لكونه بلاد الأشواق أصبحت تسكن في روحه وخياله، ولذلك السبب صار هذا العنصر جزءًا من بيئته الفكريّة والتخيليّة. ظهر انعكاس الأدب العربيّ في كلامه بعدّة طرق، منها ما ظهر ظهورًا واضحًا، ومنها ما أصبح علامة، ومنها الصور الخياليّة. وإنّه يرى أنّ العرب هم أهل الحضارة وخالقوها وخالقو دستور الحكم كذلك، وكان يرى أنّ العقل العربيّ كان أقوى على فهم الإسلام فهما صحيحا، وأجدر بحمل أمانته، وإنّه يسمّى العرب فاتحي العالم وحافظيه وحكامه ومزيّتي العلم. ونشأة العالم الجديد في رأيه مرهونةبهم.

يظهر انعكاس الأدب العربيّ في كلام إقبال بطرقٍ مختلفةٍ، ويوجد بكثرة، فبعضه واضح وصريح، وبعضه بالإشارة والتلميح، وبعضه الآخر يظهر من خلال الصور الخياليّة في الشعر, إنه تأثر بالأدب العربي مع أنّه شاعر باللغة الأرديّة والفارسيّة. وذلك لأن شعراء الفرس تأثروا من شعراء العرب، وبالتاليانتقل هذا الأثر من الفارسيّة إلى الأدريّة. فتأثره بالأدب العربي وقع عن طريق الفارسية أو الأردية.

كانمعظمُ أشعار الشعراءِ العربِ في المساكنِ المتروكةِ المهجورةِ وفي الأحياءِ المغادَرَةِ الضالَّةِ وفي الحبيباتِ الماضيةِ البعيدةِ المساكِنِ وفي القوافلِ الهاجِرةِ والمرتحلة وفي المَسافاتِ البائِدةِ وفي الوقوف على الأَطْلالِ والبكاءعليها وفي ذكر النار المنطفئة والخِيمِ والطنب المكسورة وغيرها.هذه بعض الموضوعاتالتيحبّبتإلىالشعراءالعرب وزيّنتفيقلوبهم،فتناولواهذهالموضوعاتبكثرةوأطلقواسراحفكرهمفيها. ونجد في شعر شاعرنا محمد إقبال من أمثلة وأساليبمأخوذة من المصادر الأدبية العربية ومنحوتة حسب البيئة العربية. ونجد في شعره سَرَيَان الروح الأدبي العربي، حيث ينقل تخيُّلَ القارئِ إلى البيئة العربية باستخدامه تشبيههم واستعارتهم وتلاميحهم وصورهم الخيالية.

مسجد قرطبة:

قصيدة “مسجد قرطبة” من أروع قصائد إقبال التي نظمها حينما زار إسبانيا سنة 1932م. دخل المسجد وزاره، فقد أعجب بجماله وروعته، وتركت هذه الزيارة للمسجد أثرًا عميقًا في ذهنه وقلبه فنظّم قصيدة باسم “مسجد قرطبة”. وفي هذه المنظومة يخاطب إقبال المسجد ويقول:

تیرا جلال و جمال، مرد خدا کی دلیل              وہ بھی جلیل و جمیل، تو بھی جلیل و جمیل

تیری بنا پائدار تیرے ستوں بے شمار                        شام کے صحرا میں ہو جیسے ہجوم نخیل[5]

(أيها المسجد!) جلالك وجمالك دليل على رجل الله، أنت أيضامثله جليل وجميل.

بناؤك محكم وأعمدتك لا تُحْصى، إنّها كثيرةٌ كأشجار النخيل في صحراء الشام.

فهذه القصيدة قالها في إسبانيا ولكنّنا لا نجد فيها ذكر الجو الإسبانيّ، إنّما نجد فيها الجوّ العربيّ البدويّ ويخاطب إقبال على طريقة الشعر العربيّ، وظهر النظم بمزاج عربيّ، فأصبح لونها لونًا عربيًا وشبّه الشاعر أعمدة المسجد بكثرة النخيل في بادية الشام. وقد اختار صحراء الشام لمناسبتها لهذا المقام، وقد خصّ صحراء الشام لأنّ مؤسّس المسجد الأمير عبد الرحمن الداخل كان ينحدر من بلاد الشام، الذي غرس أول شجرة من النخيل في أرض الأندلس، ومن ثمّ كان يبكي على نخل الشام في هذه الأبيات. ولقد خاطب إقبال المسجد على أسلوب العرب المغاربة الذين كانوا يخاطبون مسجد قرطبة هذا فيسمّونه “حرم قرطبة”. إنّ جوّ المسجد المحزن المبكي قد جعل إقبال يتعمّق في مبدأ الدهر من صروفه وعبره فيفكّر في إقبال الأمم وإدبارها وصعودها وهبوطها، فيرى أشعة من أمل المستقبل في هذا الجوّ المحزن اليائس.

حينما نظر إقبال إلى مسجد قرطبة، لم يصف بناءه فقط بل وصف الإيمان والعشق والجهاد وغيرها من المعانيّ التي حملها العرب المسلمون في أرجاء العالم، فقد شرح إقبال في هذه المنظومة فلسفة الحياة والموت، وفلسفة المجد والحضارة، وذكر المباني والآثار وسرّ البقاء والفناء للآثار والفنون بأسلوب بديع، وقد استعار من الشعر العربيّ أسلوب خطاب المباني وذكر الآثار والأطلال على طراز شعراء الجاهليين. وتنبّأ بعودة الحياة والمجد إلى المسلمين من جديد بعد إلقاء النظرة العميقة على الأحداث والوقائع الغابرة والحاضرة. ذكر إقبال أنّ هذا العالم خاضع للفناء والزوال، وأنّ الآثار التي تخلفها الأجيال، وأنّ البدائع الفنيّة التي تنتجها العبقريّة الإنسانيّة بين حين وآخر كُتب لها الاضمحلال والاندثار، إنّ جميع الموجودات والكائنات معرضة للفناء، فلم يبق من  آثار الأمم القديمة إلا النقوش والآثار التي تركها أهل الحقّ واليقين. فهم خالدون، وآثارهم خالدة مثلهم، ومن آثار أولئك الخالدين العظام هذا البناء الشامخ الذي مثله مثل المؤمن تماما، ثم يبكي إقبال على هزيمة المسلمين في إسبانيا، وانقراض آثارهم فيها تدريجيًّا، فتذكّر تاريخهم وحضارتهم، ثم بشّر بعودة المجد الإسلاميّ في بلاد الغرب، ونهضة المسلمين الشاملة من جديد. “ويختم محمد إقبال قصيدته البديعة هذه، بكلمة حكيمة مأثورة، مبنيّة على تجارب واسعة، ودراسات عميقة، واستعراض واسع للأدب والشعر والفنّ والأفكار، يقول: “إنّ كلّ مأثرة وكلّ إنتاج، لم تذُب فيه حُشاشة النفس، ناقص، وجدير بالفناء والزوال السريع، وكلّ رنّة أو نشيد لم يَدم له القلب، ولم تتألّم له النفس قبل أنْ يصدر، ضرب من العبث والتسلية، ولا مستقبل له في المجتمع وعالم الأفكار”. وهذا هو سرّ الخلود والبقاء للآداب والأفكار والإنتاج، وهذا سرّ تفاهة الأدب الجديد، الذي يولد سريعا ويموت سريعا، وهذا هو سرّ التأثير والخلود في شعر إقبال وإنتاجه”[6].

قد أكثر الشاعر المشرق محمد إقبال من استخدام كلمات عربيّة خالصة في هذه المنظومة، مثل:الحياة والممات، الأصل والأصيل، الأوّل والآخر، الظاهر والباطن، الحرف والصوت، الذوق والشوق، الجلال والجمال، الجليل والجميل، الكليم والخليل، الشرق والغرب، الصدق واليقين، الشفق والآفاق، الخلق العظيم، كأس الكرام، روح الأمم، ابن السبيل، كعبة أهل الفنّ، فقيه الحرم، ونفحة اليمن، وعين الغزال، السلطة والسلطنة، جبريل ونخيل، والدين المبين، العربيّ، والحجاز، والأندلس، الصهباء، والرحيق، والصيرفيّ، والمضراب، والعيار، والسيل، والعصر، والتقويم، والفاني، والقليل، والسر، والمقاصد، والمجاز، العشق والأذان، الصحراء والسحاب،  البحر والموج، الفارس والساقي، الانقلاب والجهاد، الحرير والدهقان، الله هو، ولا إله إلا الله، وغيرها.

قصيدة “خضر راہ”:

قصيدة “خضر راه” (خضر الطريق) هي قصيدة باللغة الأرديّة كتبها عام 1922م، ونشرت في ديوانه “بانگ درا”(صلصلة الجرس) عام 1924. وهذه محادثة خياليّة بين الشاعر وخضر، تناول موضوع المستقبل السياسيّ للمسلمين.

چھوڑ کر آبادیاں رہتا ہے تو صحرا نورد        زندگی تیری ہے بے روز و شب و فردا و دوش[7]

هذا البيت من قصيدة “خضر راه” التي توجد في ديوانه “بانگ درا”، يقول فيها: لقد تركت العمران وتقيم في الصحراء، فحياتك خالية من النهار والليل والأمس والبارحة.بصمة الأدب العربيّ، لأنّه يذكر ينابيع الماء والسلسبيل وقيد الأرض والنخيل والأرض الصحراويّة. وهذه كلّها لم تأت إلا تأثرا بالشعر العربيّ، مع أنّه لم ير هذه الأرض ولا هذه المناظر بعينه. فهذه المناظر كلها وتصويرها مناظر خياليّة وصور خياليّة أخذها من الشعراء القدماء للأدب العربيّ، لأن صلصلة الجرس في الجوّ الصحراويّ، وتلال الرمال، ومشي الغزال، وحياة الحضر من غير وسائل الحياة، والسفر في طريق غير ذات المعالم، ونزول قوافل على ينابيع، كل هذه النماذج تجذب ذهن القارئ إلى الشعر العربيّ ويلفت نظره إليها.

عندما يمعن الإنسان نظره أثناء الدراسة لشعر إقبال يحسّ بأنّ الهيام الدينيّ ازداد عنده مع تقدّم سنّه، وكلما ازداد هذا الهيام ازداد عنده استخدام الكلمات الأدبيّة العربيّة، مثل القافلة، والزمام، والناقة، والمقام، والسبيل، والمنزل، والأطناب، والخيمة، والنخل، والنخيل وغيرها من الكلمات العربية.

قد استعان إقبال باللغة العربيّة والشعر العربيّ والتاريخ العربيّ، فرمزيّة إقبال نراها في أشعاره بكثرة، مثل: إبراهيم ونمرود، موسى وفرعون، حسين ويزيد وغيرها، ههنا شعر في رمزيّة إقبال يقول:

آگ ہے، اولاد ابراہیم، نمرود ہے                   کیا کسی کو پھر کسی کا امتحاں مقصود ہے[8]

إن الرمز في شعر إقبال كثير، وقد حاول أن ينتج بمساعدة الرمز خيالا مرئيّا للعالم غير المرئيّ. وجمال رمزيّته يكمن أساسا في أنّها تختلف تركيبًا عن تلك التي استخدمها الشعراء الآخرون سواء في الأرديّة أو الفارسيّة.

خطاب بہ جاويد:

أدخل محمد إقبال الكلمات القديمة والتعبيرات القديمة في استعمالات حديثة وخاصّة عن الموضوعات الدينيّة وبهذا أحيا ألفاظًا ماتت في عالم الشعر الأرديّ مثل: طواف، حجّ، زكاة، أذان، جماعت (أي جماعة)، حرم، توحيد، جهاد، مسيح، جمال، جلال، نور كليم، ضرب كليم، خليل، معجزة، وحي، مصحف، جبريل وغيرها. وحينما نلقي النظرة في منظومة “خطاب بہ جاويد” (خطاب إلى جاويد أو حديث إلى الجيل الجديد) من ديوانه ” جاويد نامه”، نجد في النقطة الأخيرة لحديث إقبال إلى شباب الأمة الإسلاميّة أنه يتحدث فيها عن عن رجل الحق ويذكر صفاته:

مرد حق از آسماں افتد چو برق                     ہیزم او شہر و دشت غرب و شرق

ما ہنوز اندر ظلام کائنات                             او شریک اہتمام کائنات

او کلیم او مسیح و او خلیل                            او محمد، او کتاب، او جبریل![9]

“رجل الحق يهبط من السماء كأنّه البرق، هشيمه المدن والسهول في الغرب والشرق”. و”إنّنا ما زلنا في ظلام الكون، وهو شريك اهتمام الكون”. و “هو كليم، وهو مسيح وهو خليل، هو محمد، هو الكتاب أي القرآن، هو جبريل”.

يذكر إقبال في هذه الأبيات صفة رجل الحق، ويدعو الشابَ إلى التمسّك بأهداب الدين وسلوك سبيل العشق والسيطرة على الكون دون تعلّق القلب به. ولكنّ هذا كله لا يتيسّر للسالك دون السير في صحبة مرشد، وهو هنا يبين صفة رجل الحق أو المرشد الكامل. وفي الشعر الأول يقول الشاعر: إنّ رجل الحق يهبط من السماء مثل البرق فهو يطابق مشيئة الله، فإذا أراد الله تعالى إصلاح عباده أمر أحد الصالحين الأتقياء بالانطلاق هنا وهناك لإفناء الباطل والقضاء عليه. وفي الشعر الثانيّ يقول الشاعر: نحن في قيد الزمان والمكان، أمّا هو فيتحكم في الكون. إنّه يشبه ذلك الذي وصفته الله تعالى بقوله: ” فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَّدُنَّا عِلْمًا”[10]، (الكهف: 65). وفي الشعر الأخير ذكر أنبياء الله الكرام كليم الله موسى وعيسى وخليل الله إبراهيم عليهم السلام وحبيب الله محمد صلى الله عليه وسلم، وكتاب الله القرآن، وجبريل عليه السلام. “ففيه تنعكس صفات الأنبياء جميعا، ولكنه ليس بنبي – فقد ختمت النبوّة بمحمد صلى الله عليه وسلم – وفيه تمثّلت صفاتهم جميعا، وهو الأسوة الكاملة لرجال الحق في كل جيل”[11].

وقد برع إقبال في استخدامه للمفردات العربيّة في شعره ولنقرأ هذا البيت منظومة “خطاب بہ جاويد” (خطاب إلى جاويد أو حديث إلى الجيل الجديد) من ديوانه “جاويد نامه” بالفارسيّة:

صاحب قرآن و بے ذوق طلب         العجب ثم العجب ثم العجب[12]

يقول إقبال: ولكنّي أسائل نفسي بين الحين والحين: صاحب القرآن وخال من شوق الطلب؟ ما أشد عجبي، ما أشد عجبي، ما أشدّ عجبي. هل يمكن حقًا أنْ ينعدم الدافع إلى الرقي من قلب المسلم؟ مع أنّ هذا الدافع نفسه هو الذي دعا إليه القرآن الكريم وحضّ عليه واعتبره من أوجب واجبات المسلم[13].

فذكره للعجب هنا ثلاث مرات وفي شطر بالعربية يدلّ على رغبة في توكيد ما يقول: وهو هنا يميّز كلامه بالعربيّة ليكسبه الأهميّة ويخلع عليه فصاحة لغة الضاد لغة القرآن.

الخاتمة:

بدأ إقبال بنظم الشعر صغيرا، وقد كان ينظّم شعره بالأُرديّة والفارسيّة، ويرسل ما يكتب إلى الشاعر الكبير داغ، وهو أحد شعراء الهند النابغين، فيُقوّمه، حتى عاش داغ وقد بلغت أشعار إقبال الآفاق، فكان يفخر داغ بعد ذلك أنه من نقّح شعر إقبال في صباه. كان ذا سبع لغات، وأدخل في كلامه روحَ كلِّ ما تحيط به هذه اللغات من علم وأدب وفلسفة بعد أن تمتع منه وارتوى خلال سنين عديدة، ثم أفادنا بكلها حسب هدفه الخاصّ، ألا وهو إحياء الحضارة الإسلاميّة. ولا نجد في رجال الأدب عندنا غيره مَنْ ارتوى وتغذّى مِنْ مثل هذه المنابع الوفيرة.

وقد خَلّف إقبال دواوين شعريّة بالفارسيّة والأُرديّة وتُرجمت إلى العربيّة، وقد لاقت الترحيب اللائق بها بين العرب حين تُرجمت إلى العربيّة، لم ينشد إقبال الشعر مجردا، بل مزج مع الشعر أمورا أخرى من الفلسفة والفكر والخيال والفنّ جميعا، حتى بلغت ذُروة أشعاره في الأبيات التي ضمّنها رؤيته الفلسفيّة للوجود والكون ونظرته للحياة. وقد غلبت على بعض أشعاره الرمزيّة، واستخدم الرموز في عناوين دواوينه مثل ديوانه “الأسرار والرموز”. هذا المزج الواسع بين الفلسفة والشعر انتقل بهيئته إلى القارئ العربي، فعُرف إقبال بين العرب بأنّه الفيلسوف الشاعر، وعرف العالم العربيّ والإسلاميّ فلسفة إقبال من أشعاره أكثر مما عرفها من كتبه.

وما يُميّز شعر إقبال أنّه مُفعم بالحب، والطموح، والإيمان، وقد مزجه بقضايا الشرق والإسلام، وضَمّن فيه فلسفته الخاصّة، وشحنه بالشجن والتأمل في الذات، حتى انجذب له أرباب البيان العربيّ واعتبروه فيلسوف الإسلام وشاعره في القارّة الهنديّة.

إنّ دراسة شعر إقبال تزوّدنا بمعلومات وحقائق جديدة إذا تفحصنا في مضامين دراساته التاريخيّة، ورأينا إلى أي مدى تستطيع هذه الومضات التاريخيّة في شعره الحي، أنْ تسعف روّاد مناهل العلم والبحث الذين يريدون الاستفادة من التجارب الحضاريّة، وإنّه ليس أقلّ من اكتشاف إذا قلنا إنّ شعر إقبال يتضمّن بعض إشارات تاريخيّة دقيقة تتكّون منها مؤلفات تاريخيّة إذا شرحناها شرحًا وافيًّا. عندما يقرأ الإنسان شعر إقبال يجد فيه ذكرا لشعراء العرب مثل امرئ القيس، وزهير بن أبي سلمى، عمرو بن كلثوم، وكعب بن زهير، والمعرّيّ، والمتنبيّ، والمعتمد والبوصيريّ وغيرهم من الشعراء الكبار.

المصادر والمراجع

  • أبو الحسن علي الندوي: روائع إقبال، دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى، 1999.
  • عبد الماجد غوري: ديوان محمد إقبال، دار ابن كثير، دمشق-بيروت، الطبعة الثالثة، 2007.
  • محمد إقبال: كليات إقبال اردو، استقلال پریس، لاهور، 1990.
  • محمد اقبال: کلیات اقبال فارسی، فرہنگ وترجمہ: حميد الله شاه هاشمي، مكتبة دانيال، لاهور، دون تاريخ النشر.
  • محمد إقبال: رسالة الخلود أو جاويد نامه، ترجمة: محمد السعيد جمال الدين، مطابع سجل العرب، القاهرة، 1974.
  • نجيب الكيلاني: إقبال الشاعر الثائر، الشركة العربية للطباعة والنشر، القاهرة، دون تاريخ النشر.
  • عبد الوهاب عزام: محمد إقبال سيرته وفلسفته وشعره، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2012.
  • محمد إقبال: بدائع العلامة إقبال في شعره الأردي، ترجمة: حازم محفوظ وحسين مجيب المصري، المشروع القومي للترجمة، القاهرة، 2005.
  • سمير عبد الحميد إبراهيم: إقبال والعرب، مكتبة دار السلام، الرياض، الطبعة الأولى، 1413هـ.
  • ميرزا محمد منور: تأثير الأدب العربي في شعر إقبال، تعريب: محمد سميع مفتي، مجلة إقباليات، العدد العربي الرابع، 2003، أكاديمية إقبال باكستان.
  • حسين أحمد براجه: شعر إقبال وأثر الأدب العربي فيه، تعريب: محمد سميع مفتي، مجلة إقباليات، العدد العربي الرابع، 2003، أكاديمية إقبال باكستان.

……………….. ***** ……………….

الهوامش:

[1]حسين أحمد براجه: شعر إقبال وأثر الأدب العربي فيه، تعريب: محمد سميع مفتي، مجلة إقباليات، 2003،العدد 4، ص 140.

[2]سمير عبد الحميد إبراهيم: إقبال والعرب، مكتبة دار السلام، الرياض، الطبعة الأولى، 1413هـ، ص 10.

[3]أبو الحسن علي الندوي: روائع إقبال، دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى، 1999، ص 22.

[4]المصدر نفسه،ص 12.

[5]           محمد إقبال: كليات إقبال اردو، استقلال پریس، لاهور، 1990، ص 422.

[6]الندوي: روائع إقبال، ص 118.

[7]محمد إقبال: كليات إقبال اردو (ديوان بانگ درا)، ص 285.

[8]محمد إقبال: كليات إقبال اردو (ديوان بانگ درا)، ص 285.

[9]محمد اقبال: کلیات اقبال فارسی، فرہنگ و ترجمہ: حميد الله شاه هاشمي، مكتبة دانيال، لاهور، دون تاريخ النشر، ص 904.

[10]محمد إقبال: رسالة الخلود أو جاويد نامه، ترجمة: محمد السعيد جمال الدين، مطابع سجل العرب، القاهرة، 1974، ص 335.

[11]المصدر نفسه، ص 335.

[12]محمد اقبال: کلیات اقبال فارسی، ص 896.

[13]محمد إقبال: رسالة الخلود أو جاويد نامه، ص 325.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here