تجليات النسق العجائبي في رواية “رقصة الجديلة والنهر” للأديبة العراقية وفاء عبد الرزاق
أ / شهرة بلغول
جامعة باجي مختار- عنابة / الجزائر
—————————
مقدمة:
لطالما كان الخيال ملاذًا للذات الإنسانية تتجاوز من خلاله شحوب الواقع وإخفاقاته وتؤسس لرؤيا جديدة تنفتح على فضاءات الممكن وتنأى عن التقيد بنواميسه، لذا لا غرابة أن يكون المعين الأول للأديب في تشكيل عوالمه الشعرية أو السرديّة دون أن يعني ذلك انفصالا مطلقا عن معطيات الواقع والراهن المعيش.
وبالعودة إلى المدونة السردية العربية والروائية تحديداً نجد أن مصادر تشكل الخيال قد أخذت أبعادًا مختلفة كالأسطوري والديني والتراثي عمومًا، كما بلغت مستويات متباينة تماشيًا مع طبيعة الرؤيا والمرجعية التي يتبناها الأديب، ولعل أقصى هذه المستويات يتمثل في حضور العجائبي في ثنايا العمل وتناميه من خلال السرد.
يرى تودوروف في كتابه “مدخل إلى الأدب العجائبي” أنّ العجائبي/ الفانتستيك هو “التردد الذي يشعر به كائن لا يعرف سوى القوانين الطبيعية أمام حدث له صبغة فوق طبيعيّة “(1)، ويشترط له ثلاثة شروط حتى يتسنى الحكم على النص بأنه ينضوي ضمن دائرة العجائبي ألا وهي:
– ينبغي أن يدفع النص قارئه لاعتبار عالم الشخصيات كما لو أنه عالم أحياء وأن يحمله على التردد بين التفسير الطبيعي والتفسير فوق الطبيعي للأحداث المروية.
– قد تشعر إحدى الشخصيات والقارئ بهذا التردد على حد سواء مما يجعل القارئ يتوحد معها في قراءة ساذجة للأثر.
– على القارئ أن يتبنى توجها خاصا في القراءة يتجاوز من خلاله التأويل الشعري.
استنادًا على هذه التصورات يمكن أن نخلص إلى أنّ العجائبي يكمن في خرق نواميس الواقع وتجاوز قوانينه، مما يثير في المتلقي شعور الدهشة والخوف والترقّب نتيجة إدخال عنصر أو عناصر مخالفة للمألوف في تأثيث العالم الحقيقي، وينبغي أن نسجل في ذات السياق ملاحظة في غاية الأهميّة ألا وهي أنّ للمكون العجائبي ارتباطًا وثيقًا بنفسيّة الأديب وتجاربه، فهو يعكس بشكل جلي موقفه من الواقع عبر كسر نمطيته وإحداث قطيعة مع نواميسه، ولعل انتقال هذا الشعور إلى المتلقي هو ما يخلق جماليّة النص.
في نصها الروائي “رقصة الجديلة والنهر” تأخذ وفاء عبد الرزاق بيد قارئها لدخول عوالم أسستها على واقع حولته ممارسات البشر إلى جحيم أرضي بعد أن صار الموت هو المعنى الوحيد للحياة، إذ تقف قوانين الطبيعة وقدرات العقل البشري عاجزة عن استيعاب ما يحدث لذا يبرز العجائبي كقناع تنكري تحيل به الكاتبة إلى تناقضات الواقع وموقفها النقدي منه.
تؤرخ الكاتبة لمأساة اقترفتها يد الإنسان في حق بني جنسه في أرض شهدت أعرق الحضارات التي احتفت بالحياة “أرض العراق”، ليغدو التشظي قدر شعب عملت النعرات العرقية والطائفية على تمزيق لحمته، فراحت النصوص الدينيّة تُستنطق عنوةً بحثًا عن مسوغات شرعية للجريمة، لكن الكاتبة ورغم سوداوية الواقع تظل تترقب الأمل متمسكة بخيط النور الذي يلوح في الأفق ويمكن أن نستشف ذلك بدءً من العنوان.
1/ قراءة في عتبات النص:
ليس النص الروائي متنًا مستقلاً يفتح مغاليقه للقارئ من أول وهلة فهناك محطات مجاورة ومحايثة تبرز كعلامات دالة تحيط به تتيح للمتلقي الانخراط في مساءلة وتأويل الأثر الأدبي واكتشاف مقصديّة الأديب كالعنوان والتصدير وكذا العناوين الفرعيّة والنصوص الافتتاحية ذات الطابع الشعري.
تختار الكاتبة لروايتها عنوانًا يتكون من ثلاث ملفوظات “رقصة الجديلة والنهر”، سأحاول الوقوف عند دلالة كل منها على حدة لإبراز وظيفتها الإحاليّة على مضمون النص.
يعكس الرقص عند الشعوب القديمة طقسًا أسطوريا غايته تمجيد الآلهة وطلب عونها ومقاومة قوى الشر الخفيّة، لذا فهو شكل من مقاومة إرادة الموت وتمسك وثيق بالحياة، وقد تجلّت هذه الرؤيا الفلسفيّة حديثًا في رواية زوربا للروائي اليوناني نيكوس كازانتزاكيس، إذ يتحقق قهر الموت حين نتجرأ على التحديق في عينيه حاملين السعادة في ثنايا أرواحنا.
أمّا الجديلة فهي الضفيرة المحكمة الفتل من شعر المرأة، ومن معانيها أيضا “القبيلة” أي الجماعة المتآلفة، فارتباط الحياة بالمرأة يحيلنا على معطى أسطوري آخر مثّلته “عشتار”/إنانا رمز الخصب والنماء في انتصارها للحياة إذ ارتبط الربيع عند البابليين بطابع الاحتفال والابتهاج بعودتها وتحررها من العالم السفلي.
لم يكن هذا الرقص انفراديًا بل توحّد بمكون طبيعي كان سببًا في استمرار الحياة وقيام الحضارات وهو “النهر” رمز العطاء الدائم والخصب والسلام فكيف إذا كان نهر دجلة.
نخلص بعد قراءتنا لهذا المتن إلى أنّ الكاتبة أرادت لروايتها أن تكون صرخة في وجه الموت والصمت وتجذرًا في الحضارة لمواجهة قوى الظلام، إيمانًا بالإنسان في أسمى تجلياته النورانيّة.
تفتتح الكاتبة نصها بكلمة تتضمن تساؤلات تشد القارئ منذ الوهلة الأولى وتدخله في عوالم الخوف والترقّب “ماذا سيحدث بعد هذا الرأس المقطوع؟ وأين تلك الكلمة التي تهز السماء؟”، فرغم بشاعة الجريمة المقترفة يظل الصمت وغياب صوت الإنسانيّة الملمح الغالب على المشهد ويعزز ذلك وصفها لضبابية الرؤيا فالمساء يترنح كجريح والنهايات مدخنة، يتحول المطر عندها إلى عبء، لكن عن أيّ مشهد تتحدث؟؟
وقبل أن ينساق القارئ وراء تصور خيالي لما سيرد ذكره لاحقًا تضيف الكاتب ما من شأنه ربط العمل بسياق واقعي إذ تقدم شكرها لإعلاميين أسهما في تزويدها بمعلومات وحقائق خدمت مصداقية الحدث الروائي، وأمام هذا الطرح لنا أن نتساءل: هل تشترط المصداقيّة في جنس أدبي يقوم أساسًا على التخييل؟ ألا يوقع الأديب نفسه في دائرة التسجيل والتوثيق بشكل يفقد النص جماليّته؟ هذا ما لا يمكن اكتشافه إلا بعد إبحار عميق في ثنايا هذا العمل.
2/ سحر الأرقام وعجائبيته:
تنقسم الرواية إلى تسعة فصول تفتتح الكاتبة كل منها بما يشبه الرؤيا أو النبوءة المكثّفة، وقبل التطرق إلى دلالتها أرى أنه يجدر بي الوقوف أولاً عند رمزية هذا العدد الذي لم يكن اختياره-من وجهة نظري على الأقل- اعتباطيًا في عمل مشيّد على نمط الحضارات القديمة فما إن تحرك كلمة عن بعض مواضعها حتى تكتشف أثرًا خالداً، لذا فوحدها القراءة العميقة التي تتجاوز سطح النص قادرة على تفجير دلالته والكشف عن مكنوناته.
يعتبر الرقم تسعة من أكثر الأرقام غموضًا وحضورًا في الحضارات القديمة، ولعلّ أولى تجليات ذلك تكمن في المسمّى المتماثل له في مختلف اللغات القديمة (السريانية والعبرية والعربية)، أمّا من حيث دلالته الرمزيّة فنجده يحيل على معنى القداسة في الحضارة الهنديّة خاصة، وعلى إتحاد “إنكي” إله الماء العذب والحكمة في الحضارة السومارية بـ “ننخرساج” الأم أو الأرض والذي تولّد عنه بعد تسعة أيام”ننمو” إلهة النبات(2)، وبالعودة إلى الرسالات السماوية نجد أنّه ارتبط بالجانب المادي/ الدنيوي للإنسان فهو عدد القوة، الطاقة، الدمار، الحرب (3).
أمّا في المسيحيّة فيرمز إلى نهاية عمل الإنسان وخاتمته إذ ارتبط بموت المخلص على الصليب، لكنه موت مقدّس لكونه تضحية في سبيل خلاص الجماعة، في حين اكتسب في الإسلام دلالة المعجزات إذ ورد ذكره في قوله تعالى: “ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات”(4)، ففضلا عن معجزات سيدنا موسى عليه السلام تُبرِز السورة التي وردت الآية في ثناياها معجزة الإسراء والمعراج بسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.
إنّ كل هذه المعاني تلقي بظلالها على المتن الروائي وشخوصه ويمكن أن نلحظ أنّها تراوحت بـين: موت الجانب المادي-الدنيوي/القداسة/ المعجزة وهي ثيمات لها حضورها الطاغي في الرواية فالبطلة “ريحانة” تسير نحو حتفها حين اختارت المواجهة مع العدو “داعش” في سبيل خلاص قومها لتغدو كائنًا نورانيًا تحرر من سجن الجسد سعيًا لصنع المعجزة عبر بعث الحياة والانتصار لكل المعذبين في أرض العراق دون تمييز أو استثناء وقد مثّلت السنابل المعادل الموضوعي لهذا الانبعاث.
تشمل معظم فصول الرواية خطابين افتتاحيين يعكسان بناء ثنائيًا تقابليًا ماعدا الفصل السابع والثامن، إضافة إلى حضور مكثّف للثنائيات الضديّة: النور/ الظلمة، الصوت/ الصمت، الحجب/ الحقيقة، الحاضر/الماضي، الحياة/ الموت، فمثلاً في بداية الفصل الأول تحتفي الكاتبة بالحياة وتؤكّد على ضرورة الإشراق والتوهج في مواجهة روح الشر، كما يحضر الصوت في مقابل الصمت “من أجل أن يولد شيء ما في دواخلنا سنقف كل يوم دقيقة صمت واحدة”، عازف الناي أولى الشخصيات التي يعرض لها السرد بوصفه الخالق لسمفونيّة الحياة “أن ينحت إرادة أخرى…ويؤسس لغنائية جديدة، ويتوهج كي لا تبقى الحياة بكماء”(5).
يحفل القسم الأول من الفصل بالغرائبي والخارق للمألوف الذي يثير حيرة الشخصية في حد ذاتها، تقول الكاتبة: “كلّما أقترب الليل شعر بنور غريب يحيط به، نور منبثق من أعماق المياه، من سطح الأرض من السماء وراء الأثير ومن أعماقه”(6)، ويدفعها للدخول في حالة أشبه بالطقس الديني حيث يتنامى الشعور الروحي فيسمو بها في أجواء إلهيّة.
يتكثف هذا المعطى بظهور شخصيّة الصبي الذي تصفه الكاتبة بالغريب، وتتجلى غرابته من خلال بعدين فمن ناحية لا يعلم أحد من أين أتى ما جعله غريبًا بالنسبة لأهل القرية، أمّا الغرابة الثانيّة فيكتشفها القارئ من خلال وصف الساردة له “يدنو منه الصبي الغريب الأطوار ذو السابعة بملابسه الرثّة الممزقة من الأكمام وعند الصدر بثقوبها الثلاثة ويلتحمان معًا أخرس وناي”(7)، يحيل هذا الالتحام على أنّ ناي يعد صدى الأصوات المغيبة والعاجزة عن الانعتاق والتفجر، بعد أن أخرستها يد الموت، وحتى يعكس الجانب التراجيدي للقضيّة اختارت الكاتبة الناي لارتباطه بالحزن والشجن، وكلّما تقدم السرد توضحت حقيقة الصبي أكثر فهو إضافة إلى ما ورد ذكره عاجز عن اللعب مع أقرانه، عاجز عن إدراك الكلمات، قادر على اختراق الحائط، يختفي دائمًا مع ظهور قرص الشمس.
تدفعنا هذه الأوصاف إلى الاعتقاد بأنّ الصبي هو مجرد روح معذّبة لم تعرف خلاصها لذا تعود لعالم الأحياء شاهدة على حجم الفجيعة والمأساة، فالثقوب الثلاثة على قميصه علامة واضحة توحي بتعرضه للقتل، لكن أي وحش هذا الذي يغتال الطفولة؟
يسود جو من الترقب والانتظار سواء بالنسبة للشخصيات أو القارئ الذي يستشعر خرق أفق توقعه خاصة بعد الاطلاع على عتبة الشكر، فجأة تظهر قبل بزوغ الفجر شابة بملابس بيضاء وملامح نورانيّة مشرقة يتبعها الطفل حاملاً سنابلها ليسلكا الطريق نحو القرية من أجل توزيع السنابل على عتبات البيوت، وبدل أنّ نتعرف على حقيقة هذه الشخصية المحاطة بهالة الغرابة تزيد الساردة من الغموض حين تشير إلى الأثر السحري لتلك السنابل، إذ تروي على لسان إحدى الشخصيات أنه بسببها حصل زوجها على عمل يكفي راتبه متطلبات الأسرة، كما عاد ابنها بعد غربته وتزوجت ابنتها العانس.
يستنكر الجميع هذه الحكايات ما عدا ناي والصبي أخرس ما يوحي بأنّهما يشتركان معها في جانب يفتقده الآخرون (أهل القرية)، وقبل أن تختتم الكاتبة هذا الجزء تنقل القارئ إلى مشهد آخر مختلف مثّل الصبي والفتاة الشابة صاحبة السنابل الشاهدين عليه، إنّه مشهد ولادة الطفلة “ريحانة” التي كان من المقرر تسميتها “مريم” تيمنًا باسم جدتها لكن شيئًا غريبًا جعل والدها ينطق بهذا الاسم في آخر لحظة.
بعد التيه الذي يستشعره القارئ في هذه العوالم المتسمة بطابعها العجائبي سواء ما تعلق بشخوصها أو أحداثها تنتقل الكاتبة في الجزء الثاني إلى ماضي القريّة لتبرز الحياة المتدفقة في تفاصيلها، فتبدأ بوصف طيبة أهلها دون أن تغفل نقل المشاهد الحيّة عن المكان ” البيوت المتراصة، الورود التي يزدهي بها الفضاء، الألوان الزاهيّة، الأطفال الذين يلعبون أمام البيوت بشكل حلقات…كلها مشاهد تنبض بالحياة”(8)، فكل شيء مستقر في ظل السعادة التي تغمر المكان وأهله، لتتطرق لاحقًا إلى وصف بطلتها الشقراء صاحبة الضفيرتين وصفًا دقيقًا وتتنبأ لجمالها باستعباد قلوب العشاق.
يحضر الطفل الأخرس كعلامة على الموت الذي يترصد القرية إيذانًا بحدوث الكارثة، ويتضح ذلك عند الوقوف على مناجاته لأمه والتي تصفها الكاتبة بأنها مناجاة “في روحه” تأكيدًا لما أوردناه سابقًا “تعالي مع المساء يا أمي فالجو هنا تلفه سكينة الظلام، كل الظلام حياتي، والأيام كفن طويل، تعالي لأطوف معك فوق الأوديّة والأشجار وليكن جناحك جبّارا كجبروت من قتلك وأردى أبي مضرجًا بدمائه”(9)، يتنامى خيط الحزن في ما يشبه مرثيّة للحياة ويتكشف المسؤول عن إزهاقها شيئًا فشيئًا، إذ يورد الصبي صفة المتأسلمين الكفرة في إشارة إلى المتطرفين الذين تسببوا في الخراب الذي لحق القرية.
تشير الساردة إلى الخوف الذي يتملكه ويدفعه إلى حفر الأرض بأظافره بحثًا عن لحظة فرح أفلتت من قبضة الموت، لكنه ورغم محاولات أهل القريّة إحاطته بالحنان والرفق يظل يترقب لحظة بزوغ الصباح ليرافق صاحبة السنابل ويتلاشى في الغياب.
يختلف الفصل السابع والثامن في طريقة المعالجة عن بقية الفصول إذ تحضر تيمة واحدة في كل منهما بشكل نقيض للاحقتها وتمثلان معًا ذروة المسار السردي، يحيل الفصل السابع على معنى البطولة متجسدة في عادل المثقف الذي يختار الهروب من الجيش العراقي أيام الحرب العراقيّة الإيرانيّة حين يدرك أنّها حرب عبثيّة تنتصر للموت وهوس الطاغيّة، مفضلاً المخاطرة بنفسه وتقبل “علامة النصق” لأنها بالنسبة له دلالة على الكمال.
من ناحية أخرى تأتي الإشارة إلى المصير الذي تلقاه ريحانة في كوباني من قبل مقاتلي داعش، فبعد أن يتقرر إرسال فريقها للقتال في تلك الناحيّة تغيب أخبارها ليتولّى الإعلام الداعشي عرض صور لرأسها المقطوع وضفيرتها المتدليّة، لكنّ دماءها التي روت الأرض تتحول إلى شجرة مباركة تظلل بفيئها كل من اتخذها ملجأ وتتحولّ إلى غول ينكّل بالمعتدين.
يحضر في هذا المقطع البعد الرمزي من خلال الإشعاع الأسطوري المكثّف لعدة مكونات، إذ تمزج الكاتبة بين الغول/ الشجرة المباركة/ التناسخ لتبرز أن الموت ليس نهاية المطاف.
يدل الرقم سبعة في الميثولوجيا القديمة على الكمال والعظمة، إذ “يعتقد البابليون أن الدورة الحياتية تنتهي في العدد سبعة، فهو عدد الكمال وما زاد عن ذلك زيف سببه قوة الشر”(10)، وتماشيًا مع هذه الرؤيا يحمل الفصل الثامن صدى الفجيعة من خلال تسليط الضوء على مأساة الأيزيديين حيث يأتي الافتتاح كنبوءة للموت المتحقق “حين يحكم الانتقام والبطش العالم عليهم أن يختموا في الذاكرة أن الموت هو الوحيد الأقرب إليهم من الآخرين”.
تتوالى صور التهجير واللجوء إلى جبال سنجار والقتل والدّمار الذي لحق العوائل الأيزيديّة التي فرت بالقدر الأدنى من أرواحها في مشهد تتصاعد فيه الأنفاس وتضيق فيه الرؤيا كما لو أنّها نهاية العالم، وفي سياق آخر تستحضر الكاتبة جريمة لا تقل بشاعة عن سابقتها كان مسرحها قاعدة سبايكر إذ تقول: “في سبايكر أزيحت الأقنعة من الوجوه السود وتبين الأبيض من الرمادي، كما تبين صمت الضمير الإنساني على جريمة التاريخ”(11)، فبعد يوم واحد من سقوط الموصل في قبضة مقاتلي داعش لقي آلاف العراقيين مصير القتل على الهويّة في مدينة تكريت.
يمثل العدد ثمانيّة العالم في بعديه الروحي والمادي كما يرتبط بالقضاء والقدر الذي لا يمكن الحيلولة دون وقوعه، إذ تبقى قوى الطبيعة عاجزة عن تغييره وما من سبيل سوى انتظار المعجزة والخلاص الإلهي، ويتجلى ذلك من خلال رمزيّة قيامة المسيح في الفكر الكنسي ما يعني قيامة الإنسان في بعد أكثر تجريدًا.
انطلاقا من هذا الطرح لا تستقر الكاتبة طويلا أمام بشاعة الجانب المادي الذي يستند على أحداث واقعية بل تأخذ معولها الأدبي لتكمل تأثيث المشهد بإضفاء مسحة روحيّة ماورائيّة تتخطى حدود الواقع، إذ تحضر أرواح المقاتلات الكرديات اللواتي قتلن مع ريحانة كشاهدات على فظاعة وهول ما حدث، تنغمس “شيرين” في معاتبة السماء التي تظل صامتة أمام ما تراه من هتك للأعراض وإزهاق للأرواح، أمّا “روهاني” فتشهد وقائع محاكمة داعش للمعتقلين العراقيين بالاحتكام إلى “الوضوء والتشهد”، وفي مشهد آخر للقتل تمنت “بريفان” لو منحت الضحايا رصاصتها الأخيرة ليختاروا نهاية مشرفة قبل وقوع الخيانة التي أسلمتهم لقمة سائغة للعدو، لكن وحدها ريحانة من راحت تستجمع سنابلها استعدادًا لجريمة من نوع مختلف، فقد أعد مقاتلو داعش فريقًا من المعتقلين لتلقي مصير أكثر مأساوية وذلك بقتلهم وإلقائهم في نهر دجلة معصوبي الأعين مصفدي الأيدي حتى لا يبقى أي أمل للنجاة.
يتحول المشهد الجنائزي إلى ما يشبه المعجزة بفعل التأثير السحري للسنابل التي وضعتها ريحانة في أصفاد الجنود إذ نتطلق صرخة مدويّة من ضفاف النهر هزت السماء وراحت الأرواح تصعد لينغّمها عرش الله على إيقاع صرخة الجديلة والنهر (12)، مشكّلة فيما بينها حلقة رقص، إنّها رقصة الشهادة التي تنتصر للحياة.
نلحظ في هذا السياق أنّ النزوع الخيالي يتنامى كلّما زادت وطأة الظلم ومرارة الاضطهاد في ظل الإحساس بالعجز، فكلّما ضاقت سبل الخلاص “مال الناس إلى التماس النتائج من غير أسبابها واستبدال السببيّة الماديّة بالسببيّة الغيبيّة”(13).
3/ تجليات النزوع العجائبي في الرواية:
يستغرق المكون العجائبي مختلف مقومات العمل السردي حيث يمتزج الواقعي بالخيالي في رغبة لترويض الراهن وقهر المستحيل، وسأحاول فيما تبقى من أوراق رصد هذه الجوانب بالتركيز على كل من الشخصيات والفضاء المكاني والزماني واللغة.
أ- الشخصيّات:
تعتبر الشخصيّة مكونًا محوريًا لا غنى عنه في أي عمل قصصي وترتبط بوشائج عضويّة ببقيّة المكونات مما يجعل تشكلها متحددًا وفق الأبعاد التي يفرضها السياق الاجتماعي والثقافي المحيط بها وكذا البعد التخييلي بتجلياته المختلفة (الأسطوري والديني والتاريخي…) والذي يتضح من خلال الحدث والفضاء المكاني.
تعكس الشخصيّة العجائبية في الرواية جانبين، جانبًا واقعيًا بوصفها كائنًا طبيعيًا له حضوره المألوف في عالم الأحياء وجانبًا لا واقعي أو فوق طبيعي باعتبار المرجعيّة الخارقة المستلهمة في إعادة خلقها، ونسجل في هذا السياق أنّ النسج العجائبي للشخصيّة يمتح من معين متشعب فقد يتلبّس بالأسطوري والديني وهما البعدان الأكثر حضورًا في هذه الرواية.
– ريحانة:
مثّلت هذه الشخصيّة بطولة من نوع مختلف، إذ ارتبط حضورها بمختلف الشخوص التي عرض لها السرد لكن الكاتبة أحجمت عن بيان هيئتها ووصفها واقعيًا إلا في مرحلة متأخرة، إذ تم التركيز أولاً على المعطى العجائبي للشخصيّة بشكل عمل على إثارة دهشة المتلقي وجعله يشترك مع بقيّة الشخصيات في حالة الترقّب والانتظار.
تأتي الإشارة إليها في بداية النص بضمير الغائب على اعتبار أنّها كيان لا يمكن إدراك حقيقته إلاّ إذا توفرت شروط معيّنة، فظهورها مقيّد بتوقيت زمني محدد “قبل بزوغ الشمس”، وفي ظرف يتسم بالضيق والتأزم غالبًا كأن تُرتكب جريمة أو تبعث حياة جديدة، كما تحضر في كل السياقات مقترنة بعنصر من عناصر الطبيعة هو السنابل لا لذات تأثير السحري والتي ترتبط في بعد رمزي بالأرض والحياة، تتمثّلها إحدى الشخصيات بوصفها كائنًا نورانيًا حيث يقول ناي:” رأيتها تنزل من الغيمة، تطير بثوبها الأبيض رافعة ذراعيها المحملتين بالسنابل باتجاه أسطح البيوت وكأنها تريد أن تعلو السطوح لتقترب من السماء”(14)، تكشف هذه الرغبة في التسامي تنبيها ضمنيّا من الكاتبة إلى القارئ مفاده أنّ إدراك ما سيأتي ذكره يتطلب تجاوز التصورات المعهودة “الواقعيّة” وفتح المجال أمام الغيبي والماورائي.
يعود بنا السرد إلى الوراء في مشهد ولادة البطلة وكيف أنّ والدها أراد في البداية تسميتها “مريم”، ورغم أنّ مشيئته قد تغيرت في آخر لحظة إلا أنّ الحمولة الدلاليّة لهذا الاسم تظل تحيط بهذه الشخصيّة كهالة قدسيّة، إذ تعتبر مريم في الفكر المسيحي رمزًا للطهر والنقاء فهي أم المسيح و العذراء المقدّسة والمخلّصة وإليها ترفع أكف الدعوات، إنّ كل هذه الأبعاد تتجسد في تكوين شخصيّة البطلة، فمن ناحيّة تظل ريحانة عذراء لأنها تعطي الأولوية لنضالها على مسألة الزواج، كما أنّ حضورها يرتبط بفعل الخلاص والمعجزة بالنسبة للمقهورين من أهل العراق.
وفي جانب آخر نلمح الحضور المكثّف لأسطورة عشتار في تكوين ملامح هذه الشخصية لكنه حضور غير مباشر عن طريق الإشعاع حيث تتقاطع الشخصيتان في العديد من المحاور، فمن ناحيّة “لم تكن عشتار عند البابليين إلهة جمال الجسم والحب فحسب، بل كانت فوق هذا الإلهة الرحيمة التي تعطف على الأمومة الولود والموحية الخفيّة بخصب الأرض والعنصر الخلاّق في كل مكان”(15)، وهو ما يمكن رصده على صعيد الأثر الذي يخلفه حضور ريحانة في نفسيّة باقي الشخصيات، إذ يشعر الجميع بقوى روحيّة تبعث في أنفسهم الطمأنينة والسعادة وتزيل ما أثقل كاهلهم من هموم أو تخفف من وطأته.
لا يخفى علينا كذلك ما تحيل عليه الأسطورة من دلالة تتعلق بالحب إذ ترتبط عشتار عند البابليين بتموز وبمقتله تقرر النزول إلى العالم السفلي للعودة به وخلال فترة غيابها تفقد الأرض كل مباهجها ويحل القحط والجفاف والموت، لتكتسب عودتها لاحقًا أبعاد التوهج والانبعاث والحياة.
تشعر ريحانة بميول عاطفي يشدها إلى عادل المقاتل المثقف ورغم إدراكها بأنه يبادلها ذات الشعور من خلال ما يبديه من اهتمام بها إلا أنها تكبح جماح عاطفتها ملتزمة بواجبها الوطني في الدفاع عن أرضها، لتقرر روحها مع نهاية العمل العودة للبحث عنه بعد أن طوته يد الغياب، وهنا نلحظ التحوير الذي أحدثته الكاتبة في البنيّة المشكلة لهذه الأسطورة، ففي النص البابلي نجد أنّ تموز هو من يلقى حتفه بطعنة خنزير بري ، في حين أن ريحانة هي من تلقى حتفها من قبل داعش، كما تمثّل شخصيّة عشتار في جانب آخر “مستوى فكريًا مرموزًا ونظامًا هو في الحقيقة نظام كوني طبيعي بحت به وجدت المخلوقات واستدامت، وهو أيضا نظام أمومي”(16)، ومن خلال الرواية نجد أن ظهور شخصيّة البطلة قد ارتبط بالميلاد سواء الحقيقي أو الرمزي ففي الفصل الأول نقف عند مشهد ميلاد ريحانة الطفلة لنشهد في الفصل الأخير ميلاداً رمزيًا يتماهى مع قيامة المسيح بعد الصلب وانبعاث الأمل من جديد، ولا ننسى أنّ نسجّل أنّ البطولة في الروايّة قد ارتبطت بشكل عام بالمرأة في تأكيد على الطابع الأمومي من خلال مقاومتها لقوى الشر وتضحيتها في سبيل الأرض ويبدو ذلك من خلال تتبّع مسار المقاتلات الكرديات.
وفي سياق آخر تستثمر الكاتبة مفهوم التحول كمعطى غيبي في تشكيل أبعاد أخرى للشخصيّة بعد قتلها من طرف داعش إذ تتحول إلى شجرة مباركة مع الضعفاء وغول مع الأشرار وكل ذلك من خلال تكريس مفهوم تناسخ الأرواح في الديانات الشرقيّة القديمة.
– نــــاي:
هو الشخصيّة الأولى التي يعرض لها السرد في مشهد انتظار وترقب مجيئها (ولا ندري بعد من تكون) “يترقب مرور عطرها القادم من نفحات الجنة، ويختصر لهفته بحسرة عميقة، في كل المرايا يرى وجهها”(17)، كما أنّ حضوره يتسم بالتحدي فهو يعزف حتى لا تبقى الحياة بكماء، يقاوم الموت بالألحان والغناء لكن السؤال الذي يطرح هو: لم اختارت الكاتبة الناي دون غيره ؟
يعتبر الناي من أقدم الآلات الموسيقيّة ارتباطًا بالطبيعة، فهو في الأصل قصبة قادرة على الإتيان بالعجيب من الأصوات “وهذه القوى التي توجد في كل قصبة ولا تتغير تآلفت في نظر أهل ما بين النهرين في شخصيّة إلهية هي الإلهة نيدابة التي جعلت الأقصاب تمرع في المياه وإذا لم تكن بالقرب من الراعي عجز عن تشنيف الآذان بالناي “(18).
كما يمتلك صوت الناي خصوصيّة سحريّة تتمثل في قدرته على جعل السامع يتجاوز حدود الزمان والمكان فهو عادة يعيدنا إلى لحظات الماضي في جو مشحون بالشجن والأحزان، لذا يغدو في الرواية عين الكاتبة الراصدة للقطيعة والتحولات بين الماضي السعيد والحاضر المأساوي، وهو من ناحية أخرى نشيد الحياة الذي يصدح في وجه الموت، وصدى الأصوات المغيّبة، ويتجلى ذلك بصورة بارزة من خلال استحضار شخصية أخرس.
يسعى ناي لإزالة الحجب عن أهل القريّة وكشف الحقيقة في أسمى تجلياتها وسيلته في ذلك هي الألحان ذلك أنّ الكلمات تبقى عاجزة عن إدراك جوهرها “فكلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة”، وكما هو الشأن بالنسبة لشخصيّة ريحانة يرتبط حضور هذه الشخصيّة بتوقيت محدد إذ يختفي مع طلوع الفجر ما يعني أنّه كائن ما ورائي يفتقد لحضوره المادي الجسدي، أي مجرد روح ويمكننا أن ندرك ذلك من خلال تتبع تشكّل ملامح هذه الشخصيّة عبر الفصول، إذ نسجل في هذا المقام أنّ الكاتبة لم تتعامل مع هذه الشخصيّة وفق أبعادها الواقعيّة إلاّ في الفصل الرابع حيث عادت بنا إلى الوراء لرسم تفاصيله (تحديد الاسم، العمر، المكان) وإلقاء بقعة ضوء على حياته السابقة (قبل مجيء داعش):”حامد شاب تولّع بجنون بشرين منذ لحظة وطأت قدمه أرض كردستان هاربًا مع أمه من ظلم سلطة البعث وهو شاب في السابعة عشر، بعد إعدام أبيه على يد السلطة في السجون البائسة فبعد تعذيبه تم إعدامه في أصبوحة عيد ميلاد حامد “(19).
ارتبط الاحتفال في وجدان حامد بالحزن واقترن الميلاد بالموت بفعل الظلم والقمع السياسي الذي تعرضت له أسرته في زمن نظام صدام حسين حيث أضحى القتل والتهجير قدرها، لذا فالناي بمثابة الحبل الذي يوثّق ارتباطه بوالده الذي تلقاه كهديّة من أحد الفلاحين ما يعني في مستوى آخر الارتباط المتجذر بالأرض والأسلاف.
تقول الكاتبة في مستهل الفصل الخامس “البداية في أحد أعياد النيروز*” لكنها ليست البدايّة الحقيقية وفق المسار السردي الذي اختارته للأحداث بل استرجاع واستذكار يهدف إلى إضاءة ماضي المنطقة الحافل بالسعادة والأهازيج والحب فرقصات الأكراد بملابسهم الزاهيّة الألوان وحلقاتهم المتماسكة احتفاء جماعي بالفرح والحياة يرتبط بمجيء فصل الربيع، وهو ما تعيد أرواح القتلى تجسيده لاحقًا حين تتحلّق على ضفاف النهر في طقس سحري لمواجهة قوى الشر حيث تقول الساردة “وضع حامد يده بيد ريحانة وكونوا حلقة دائرية مع الأرواح، صاروا يدورون بلا هوادة ، رقص مجنون…كانوا هديلاً خافتًا” (20)، ويأتي التأكيد على استمرار صوت الناي الذي يملأ الآفاق انتصارً لثقافة الحياة وامتدادًا لحضارة بلاد الرافدين “بالغناء سنوقد الشموع وإن كنّا أرواحًا”.
– مختار القرية:
رغم أنّ الإشارة إليه في المتن الروائي كانت عابرة إلاّ أنّ الملامح التي رسمتها الكاتبة له كانت كفيلة بأن تعطي حضوره أبعادًا محوريّة، فهو أوّل من أطلق وصف المعتوه على صاحب الناي، تقول الساردة ” كلمة معتوه أطلقها عليه مختار القرية ذو العصا السوداء برأس ثعبان…وهو الوحيد لم يمت له أحد، ولم يقتل له قريب على يد أحد منهم”(21)، فهو شخصيّة يلفها الغموض من ناحيّة علاقته بداعش كما لو أنّ الكاتبة تلمّح إلى تواطؤ بعض الساسة والمسؤولين مع قوى الشر على حساب الوطن خدمة لمصالحهم الشخصيّة.
تستدعي عصاه ذات الشكل الغريب في الأذهان أصداء مكونات أسطورية ودينيّة مختلفة، فمن ناحية تحيل العصا على معجزة سيدنا موسى عليه السلام أمام سحرة فرعون إذ تحولت إلى حيّة عظيمة تلقف ما يأفكون وما أوهموا به الآخرين، لكن سوادها ورأس الثعبان يثير شعور التوجس بدل الاطمئنان، فحتمًا لا ترمز هذه العصا للخلاص والمعجزة.
وغير بعيد عن هذا السياق تشير الكاتبة إلى حدث مفزع رافق لحظة ظهور روح ريحانة فمع ظهورها ” انشقت السماء إلى رعود وبروق وظهر منها ثعبان أسود طويل طوّق القرية” (22)، ما يعني أنّ حضوره مقترن بالشر الذي يحدق بالقريّة، وبالعودة إلى الحضارة البابلية نجد أنّه يرمز إلى الصراع بين قوى الخير والشر.
ب- الفضاء المكاني والزماني:
بين المكان والشخصية في العمل السردي علاقة تأثير متبادل إذ نجد أنّ كل منهما يضفي دلالة على وجود الّآخر، كما أنّ المكان يأتي مقترنًا بالزمن والعكس صحيح فلا حدث إلا واقترن بزمن ومكان، كل هذا في إطار الرؤيا المعتادة للعمل الروائي، أمّا بالنسبة للرواية العجائبية فإنّنا نسجل تعددًا وتشظيًا للمكان والزمن بما لا يمكن إخضاعه للضوابط المعهودة ويعود ذلك إلى طبيعة الشخصيّة التي يخضع تشكيلها لأبعاد واقعية وما ورائية.
بالعودة إلى الرواية نجد أنّ أهم ما ميّز الفضاء المكاني هو التعدد والتنوع الذي ارتبط بحركة البطلة (ارتحالها)، كما أنّ حضورها يضفي عليه صفات غير مألوفة في الكثير من الأحيان، ويبدأ الطابع العجائبي من المكان الذي تأتي منه إذ لا نجد تحديدًا واضحًا له وما يزيده غرابة ارتباطه الدائم بالليل (قبل بزوغ الفجر)،وتكتفي الساردة بالإشارة إلى أنّها تهبط من غيمة بيضاء وتغيب لاحقًا في الضباب والفراغ فأبعاد الفضاء العجائبي تتعالى عن البعد المألوف للمكان، أمّا بقيّة الأماكن فهي في الأصل مناطق من أرض العراق وسوريا لكنها تكتسب بعدًا عجائبيًا بفعل حضور الشخصيّة المرتبط عادةً بحدث مأساوي( سنجار، كوباني، قاعدة سبايكر)، أمّا شخصيّة الطفل أخرس فلا يعلم أحد من أين أتى إذ يغيّر مكانه كل يوم، ويروق له عادة تتبع “الملاك” أو الانخراط في حفر الأرض بأظافره، ويأتي تفاعله مع باقي الشخصيات كممهد لانتقال الساردة إلى فضاءات أخرى شهدت هي أيضًا الكثير من الكوارث، من ذلك الإشارة إلى رغبة السيدة زينب في الاقتراب والحنو على الطفل وكيف أنّه هرب منها، الأمر الذي جعلها تتذكر ولديها اللذين فقدتهما في سنجار، فضلاً عن التعريف بشخصيات أخرى شكلّت صورة مصغرة عن العراق بكل مكوناته العرقية والدينيّة لتسليط الضوء على مآسيه، إذ يحضر المسلم والمسيحي، والكردي والأيزيدي دون تمييز أو إقصاء ويتجسد هذا المعنى في مشهد موت أحد الأطفال المهجّريين ” بسرعة انتهى وانتهت الحياة…بكت أم سميرة بحرقة : على أي طقوس سنغسلك وندفنك يا بني؟ على الدين المسيحي؟ أمسلم أنت؟ أيزيدي؟ أم صابئي؟” (23)، في تأكيد على أنّ مأساة العراق قد طالت الجميع دون استثناء وأنّ ثقافة التطرف ليست وليدة هذه الأرض التي لطالما جسّدت التعايش السلمي بين مختلف الطوائف والأعراق، لذا فليس أمام العراقيين سوى التوحد والالتفاف لمواجهة هذا الخطر الداهم، ويأتي مشهد تلقي هافال (الكردي) للسنبلة وهو في طريقه إلى المقهى رفقة القس موريس(المسيحي) والجار أبو علي (العربي)تأكيدًا على ذلك.
وإذا عدنا إلى الزمن وجدنا أنّه لا يمكن تحديده سواء وفق مسار خطي أو وفق نظام منطقي ذلك أن طبيعة الشخصيّة العجائبية تفرض تغييرًا جذريًا في مفهوم الزمن، الذي يكتسب بعدًا أسطوريًا يتجاوز حدود الواقع وقوانينه.
نرصد ذلك في مشهد دخول روح البطلة ريحانة رفقة أخرس إلى منزل المرأة التي توشك على الولادة ” تجلس أمامها وتمسد على رأسها وبطنها ما يجعل المرأة تشعر بوجود أحدهم بقربها إلاّ أنّ زوجها يطمئنها بأنّ ذلك من حمى الطلق، بعد خروج المرأة مع الطفل يسمع الجميع صرخة المولودة ويقرر الرجل تسميتها ريحانة”(24)، وهو ما لا يمكن حدوثه في نظام واقعي، إذ كيف للبطلة أن تجلس أمام نفسها في لحظة الولادة لولا أنّ الحدث يتأسس منذ البدء على خرق نواميس المألوف.
جـ- اللغة:
تعد اللغة الركن الأساسي الذي ينهض عليه بناء العمل الروائي، فكل المقومات الأخرى متشكّلة من خلالها ووجودها مرتهن بها، كما أنّ جودتها معيار للحكم على جودة النصوص وعمق رؤيته.
خضعت الكتابة في رواية “رقصة الجديلة والنهر” لمستويين من الخطاب، اتسم الأوّل بالمباشرة والواقعيّة إذ تعلّق بالجانب السياسي في ظل ما يمر به العراق من حرب على الإرهاب ومواجهة للمد المتطرف، وقد برز ذلك في شكل أحكام أو تعليقات توردها الساردة على لسان شخصياتها أو عقب التطرق إلى حدث مأساوي، من ذلك قولها “الوضع يدعو للرثاء والحالة مؤسفة جدًا، هكذا يضيع الشباب والأطفال وبلمح البصر يصبحون مجرد رماد”، وفي سياق آخر توجّه نقدها للطريقة التي تعامل بها الجيش مع الوضع “لم يكن عمل الجيش حماسيا سوى رمي الهاونات التي تقع على الناس وتصيبهم ومنازلهم بالضرر، إنّ من قاتل بشرف هم الشرطة”، دون أن تنسى تعريّة الواقع المأساوي للنازحين في ظل الصمت الدولي وتجرد البشر من إنسانيّتهم “النازحون تثقلهم المأساة وهول المفاجأة يدمي قلوبهم، يمشون بلا عنوان وقد خذلتهم الحياة وخذلهم الجيش والمتآمرون”، ” لا مفر في هذا الحال من وجود انتهازيي الفرص من مآسي الآخرين واللعب على وتر الدولار لاستئجار الشقق بأسعار مضاعفة “، وفي مقام آخر تورد الساردة ما يمكن أن يعد تفسيرًا منطقيًا وفق رؤيتها لما حدث “لم يأتوا من فراغ، هذه ترسبات الحكم السابق، وهؤلاء سجناء القتل الذين أطلقت(داعش) سراحهم ليذبحوا العراق أرضا وشعبا…وهي تتحرك الآن بخبرتهم العسكريّة وتتعرف على أمكنة الذخائر وتضاريس البلاد، فهم المرشدون والمخططون لحرق العراق” (25).
كما يعكس الحضور المكثّف للصيغ الاستفهاميّة سواء على لسان الشخصيات أو الساردة هول الفاجعة التي ألمت بالعراق، وهي في مجملها أسئلة وجوديّة يستعصي على العقل بقدراته المحدودة العثور على أجوبة شافية لها، من ذلك ما ورد على لسان عادل “هل الله هو مسبب هذه الحروب؟ (…) لماذا نحن الفداء الأكبر للحرية والسلام؟ ما الذي فعله الكرد، الأيزيديون، المسيحيون، الشبك، الشيعة، السنّة، السوريون، العراقيون؟”(26)
ومن هذا المنطلق يأتي المستوى العجائبي لتجاوز الصورة القاتمة للواقع، حيث تستعين الكاتبة في تشكيله بحمولة ثقافيّة متشعبة المشارب تمتح من التراث الأسطوري والديني لبلاد ما بين النهرين (أسطورة عشتار، نيدابة، إنكي..) وكذا التراث الإنساني بصفة عامة ( المسيح، العذراء، التناسخ…)، كما تتسم اللغة في هذا المقام بكثافة الدلالة واشتغال عميق على البعد الإيحائي، حيث تنزاح عن استعمالاتها المعهودة إذ ترد الخطابات الافتتاحية للفصول على سبيل المثال في نسج شعري عميق وكأني بالكاتبة تنحت من خلالها عالمًا جديدًا يتسلح بقيم السلام والحب والإنسانيّة في مواجهة الحرب والدمار والموت، دون أن تنفرد بسلطة الخلق إذ تتيح للمتلقي المشاركة الفاعلة في تحديد المعاني والرسائل المضمرة للخطاب، فنقاط الحذف(…) التي تتركها مبثوثة في بعض المقاطع دليل على هذا المسعى الذي يستفز القارئ لاستحضار طاقاته التأويلية في نص مختلف بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
……………….. ***** ……………….
الهـــوامش:
([1]) -Tezvetan todorov : introduction à la littérature fantastique, ed seuil, paris, 1970, p29.(2)- فراس السواح: الأسطورة والمعنى النموذج المستغلق،
(3)- العدد تسعة ، ويكيبيديا الموسوعة الحرة.
(4)- القرآن الكريم، سورة الإسراء، الآية 101.
(5)- وفاء عبد الرزاق: رقصة الجديلة والنهر، دار المعارف، مؤسسة المثقف العربي، استراليا،ط1، 2015.ص9.
(6)- المرجع نفسه.ص10،11.
(7)- المرجع نفسه.ص11.
(8)- المرجع نفسه.ص18.
(9)- المرجع نفسه.ص19.
(10)– www.yabeyrouth.com جولة مع العدد ثمانية
(11)- وفاء عبد الرزاق : رقصة الجديلة والنهر.ص118.
(12)- المرجع نفسه.ص122.
(13)- مصطفى حجازي: التخلف الاجتماعي، مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور، المركز الثقافي العربي الدار البيضاء، بيروت، ط9، 2005. ص139.
(14)- وفاء عبد الرزاق: رقصة الجديلة والنهر.ص16.
(15)- ول وايريل ديورانت: قصة الحضارة الشرق الأدنى، تر: محمد بدران، ج2 م1، دار الجيل للطبع
والنشر والتوزيع، تونس، الجامعة العربية، بيروت، 1988، ص215.
(16)- قسم الدراسات والبحوث في جمعيّة التجديد الثقافية الاجتماعية: الأسطورة توثيق حضاري عندما نطق السراة، دار كيوان، ط1، سوريا، 2009، ص139.
(17)- وفاء عبد الرزاق: رقصة الجديلة والنهر، ص10.
(18)- بهاء بن نوار: العجائبية في الرواية العربية المعاصرة مقاربة موضوعاتية تحليلية ، أطروحة دكتوراه مقدمة لنيل درجة دكتوراه العلوم في الأدب العربي الحديث، جامعة الحاج لخضر باتنة الجزائر، 2012-2013، ص41.
(19)- وفاء عبد الرزاق: رقصة الجديلة والنهر، ص61،62.
(*)- النيروز: من أعياد الفرس والأكراد ارتبط بالربيع(رأس السنة الشمسية 21 مارس)، يجسد معاني التجدد وعودة الحياة.
(20)- المرجع نفسه، ص123.
(21)-وفاء عبد الرزاق: رقصة الجديلة والنهر، ص56.
(22)- المرجع نفسه، ص57.
(23)- المرجع نفسه، ص52.
(24)- المرجع نفسه، ص17.
(25)- المرجع نفسه، ص78.
(26)- المرجع نفسه، ص102.