بين الجديلة والنهر صرخةُ ضمير: قراءة في رواية رقصة الجديلة والنهر للكاتبة وفاء عبد الرزاق
د. وليد جاسم الزبيدي
كاتب وشاعر عراقي.
—————————
المقدمة:
كيف ينتقلُ الجسدُ، ويترك الروحَ في ثنيات أرضٍ يسعى اليها اليباب، جسدٌ (وعاء) تحتفلُ بهِ الأماكن الوردية الصاخبة بالأمل والسعادة، يظلُ متّصلاً بروحٍ تظلّ ترقصُ في جغرافية الجنون. لا يبهرك حديثي، حينما أقولُ، لستُ أتحدّثُ لك، عن الرواية بل عن الروائية (وفاء عبد الرزاق)، التي وظّفتْ روحها وفكرها وقلمها ونتاجها للعراق منذ أوّل حرفٍ زخرفتهُ في ديار الغربة، وها هي تطالعنا في روايتها (رقصة الجديلة والنهر) لتؤكّدَ لنا عمق هذا الاتصال المتجذر، لن ولم تستطعِ الغربةُ اجتثاثَهُ أو زرعَ الوهن فيه. اليوم نطالعُ روايةً، وكما هو أسلوبها تبحرُ مع الفانتازيا في رسم صورٍ وتُنتجُ لنا شريطاً مرئياً في الروح والذاكرة، تؤرّخُ أحداثاً قد يتناساها مؤرخٌ دفعتْ له قوىً ظلاميةٌ ليتجاهل هذه الفترة، أو أنْ يكتُبَ قلمُ السلطةِ تأريخاً مشوّهاً لشعبٍ وأمةٍ غُدِرتْ وقتَ ضحى وأمام الأشهاد، وعلى مرأى من العالم ومؤسساته (الأممية) و(الإنسانية) و(القمعية).
إنها الواقعة التي تؤسطرُها الكاتبةُ، في يومٍ تكوّرتْ فيه الوجوه والقلوب والعيون القمرية، والأرواح الشمسية فصار بعضُها حُفراً في غياهب الأرض، أو في مجرّاتٍ لا تتصالح مع النوم، أو في دنيا أخرى تحلُمُ أن يكونَ لها مكاناً بين النجوم لتظلّ ساطعةً يُشارُ لها وتظلّ معتقداً وموطناً للعشّاق، مثلما علّمتنا جدّاتنا أنّ نجمتين ساطعتين في كبد السماء هما (قيس وليلى).
أولاً: الجديلة/ هكذا عنونتها للإشارة الى الملحمة الأولى، وما جرى في الموصل، فالجديلةُ جذورها ومنبتها ومنبعها وفارستها هناك.
-الجغرافيا واللون/ المكان قاسٍ، فيه وعورة وقساوة، يتلبسهُ مناخٌ أكثر حدّةً من أزيز رصاص، لأنهُ ينخبُ العظم، بصقيعه وثلجه، كمشرطٍ وسكين، يقلّمُ أظفار السائرين ومنْ يرتقي جبلاً دون نعل. بين الجانب الأيمن (في الموصل) ثم، الجانب الأيسر، وصحارٍ وجبل، و(كوباني) و(سنجار). بمثل هذه الطبيعة اللاطبيعية كانت الرّقصة.
أمّا اللون، فهو ديني وقومي.
-الرّقصات/ في كل رقصة، بطلاتُها نساء، (ريحانة، شيرين، روهاني)، يقفن بالصّف الأول، نساءٌ عاشقاتٌ، لكل واحدة قصّتها، لتعيدَ تدوير عشقها من المعشوق الرّجل الى وطن. وراوي الرواية، مُذ فاتحتها وحتى منتهاها عازفُ ناي. تتعدّدُ الرّقصاتُ منها الرّقصةُ الصّريحة، والتعبيرية والايمائية، ففي الصريحة تندرجُ بظلالها رقصات المقاتلات والمقاتلين على نغمات النّاي (حامد)، والتعبيرية، رقصة الطفل والملاك، والايمائية هي حالات (الطيرُ يرقصُ مذبوحاً من الألمِ)، وتعني: حالات الذبح والموت بالرّصاص للنساء والأطفال حيث ترقص الجثث رقصتها الأخيرة في عالم الموت، وما تفعلها الأقدام للناجين والمشردين من رقصةٍ للوصول الى قمة جبل أو للعبور نحو الحدود.
-السّنابل/ لها لون الذّهب، ((هي الجديلةُ الشقراء السنبلية لـ-ريحانة-)) تنزلُ أحياناً مطراً على الناس وعلى سطوح المباني والدور، وأحياناً أخرى هي ورود الصباح على عتبات كل دار كان فيه ضحية، وعدد السنابل يتناسبُ مع عدد الضحايا والمغدورين. وتتجسّدُ روح (ريحانة) في صورة ملاك، يراهُ البعضُ وهي تشاركهم الحزن والليل والبرد والخوف، ودمها كان شجرةً مقدسةً مباركةً تمتد أذرعها لاحتضانِ العشّاق، وتكون أظفاراً قاسيةً لقتل (دواعش).
السنابلُ رسالةٌ للمحبة، والأمل، وأن الدنيا ليست رصاصاً، وموتا، بل هي حياة لآتٍ من الفرح، وصورة الطفل المهترئ ثوبه والمثقوب في الصدر، ما هو إلا صورة جيل شاهدٍ على ما واجهَ من أحداث وقتلٍ للطفولة وتدميرها من الداخل والخارج.
-الصرخاتُ: للصرخاتِ في سنجار وما حولها وفي جغرافية الموصل، لها أكثر من لون وثقافة ولغة، وموسيقى، ومقام، وكانت في الأعم الأغلب هي صرخات نساء، صرخات أنوثة، وعفّة، وحياء، تستصرخُ العالم الأصم.
-صوت النّاي: النّاي كان راوياً لكل حدثٍ وحادثةٍ، كان مؤرّخاً، ومستشرفاً للقابل من الأيام، كان حزيناً، حنيناً، باكياً، دموعهُ قصص عشقٍ أزلية.
ثانياً/ النّهـــــر: وهو إشارة الى الملحمة الثانية في الرواية للأحداث التي جرت في (تكريت) والمشهورة (سبايكر).
-الجغرافيا واللون: أرضٌ منبسطة، فضاءٌ رحبٌ، ونهرٌ (نهر دجلة) ـ يمتد شرياناً بين حقول ومزارع، وبيوت مرةً تتعانق، وتارةً تومئ على بُعد باستحياء. والنهرُ هو الرّمز والأيقونة لحادثةٍ بُنيت عليها الرواية، لا تقل أهميةً مما حدثَ في (الجديلة/ الموصل)، ولونُها: الذبحُ على الهُويّة/ طائفي.
-الرّقصات: هنا ومع النهر، الأبطالُ هم الرّجال، بعدما كانت رقصات الجديلة، للنساء في الأعم الأغلب، فمادام المجتمع كما يزعمُ علماء الاجتماع يُبنى على الشراكة المجتمعية للرجل والمرأة، فلابدّ أن ينال الرجل مثلما نالت المرأة في الجديلة.
رقصة الشهادة، على حافة المنصة لإحدى قصور(صدام)، رقصة أرواح الضحايا المغدورين من الشباب الجنود، على نهر دجلة، وتدور مع هذه الأرواح، ريحانة. والثانية، رقصة الجنون، حيث يضع (حامد) عازف النّاي، يده بيد (ريحانة)، وكوّنوا حلقة دائرية، مع الأرواح، يرقصون بلا هوادة.
-ملاحظة -المذبحة-: إذا كان القتل والاغتصاب والرمي بالرصاص مذبحةً للقتل الجماعي والفردي، والاغتصاب بأبشع صوره في (الجديلة/الموصل)، ففي النهر(تكريت) كانت الجريمةُ جريمتين، الذبحُ والغرق في النهر.
-السنابلُ: لأنها(ريحانة) تحبُ الجميع، ولا تفرّقُ بين عراقي وآخر، فلقد كانت سنابله ذات السنابل، لكنّ اختلفت هنا في العدد حسب عدد الضحايا وطريقة القتل والذبح، والغرق، وأضافت للسنابل، أن وضعت معها منديلاً أبيضَ.
-الصرخات: تنوّعت الصرخات هنا واختلفت عمّا في الجبل، فهنا، كانت صرخةُ النهر، ونَوْحُ الأرض، صرخةُ شباب، صرخةُ أطفال، صرخةُ نساء ثكالى، صرخة أرواح زُهقت غرقاً، وظلّت عائمةً.
صوت النّاي: بُحّ صوتُهُ، وكانَ ينعقُ كنعيق شؤم البوم.
الختام: هي ملحمةٌ شعبيةٌ خَلّدتْ تاريخاً مؤلماً وحزيناً، لكنك حين تقرأها ستأخذك الى أن تضعها في عناوين أو تبويب متنوّع حسب ثقافة المتلقي ورؤيته، فهي تأريخ، وتدرجها ضمن الروايات التاريخية، لأنها شاهد لمرحلة وفترة زمنية عصيبة مرّت بالعراق، بل وأرّخت لطائفةٍ مهمة ولها أثرها وتاريخها وسماتها وهويّتها العراقية ألا وهي (الأيزيدية)، وعن شجاعة المرأة ومواقفها التاريخية والبطولية، كذلك أرّخت لمذهب مهم من الشعب العراقي في قضية (سبايكر) التي لا تُنسى. كما يمكنُ أن تُدرجُ ضمن قصص العشق، فلكل بطلة من بطلاتها وأبطالها قصّة، وضعتها الكاتبةُ برومانسية وبلغةٍ شعرية جميلة. بل ولعلّ القارئ الكريم الذي قرأ الرواية سينبهر لبنائها أولاً وطريقة حبكها، ويظل في نفسه سؤالٌ…؟ لماذا كانت (الجديلة/ريحانة) وحكاية الموصل أطول وبعدد صفحات أكثر من صفحات (لنهر/ سبايكر)، أقول وحسب فهمي المتواضع، لقد تعمّدتِ الكاتبةُ ذلك، لأنّ الرواية رسمتها شكل انسان، فجعلت (الجديلة/ الموصل) بطولها، صورة الجسد، و(النهر/ سبايكر) صورة الرأس، لتكتمل صورة إنسانٍ عراقيّ مغدور، يشهقُ ويصرخُ الى السماء.
فضلاً عن المفتتح لكل فصل من جملٍ وعبارات شعرية ترقى من النثرية، .. هكذا عوّدتْنا الكاتبةُ المبدعةُ (وفاء عبد الرزاق) أن تأتي بالجديد، وما أن تبدأ بقراءة الرواية لا تنفصل عنها بل تتلبسُ فيك، أو تتعشق معها لتكون جزءاً منها. هي رواية مهمّة ليست لجيلٍ معين ولا لطائفةٍ أو جنس بل هي رواية تدخل العالمية لأنها تتحدّثُ عن مأساة سكتَ عنها العالم.
……………….. ***** ……………….