بقايا الوميض
بقلم: د. مديحة بلاح
أستاذة محاضرة، قسم العلوم الاجتماعية، في جامعة سكيكدة، الجزائر.
—————————-
كان الوقت صيفًا من أيام يوليو الحارة، وقرص الشمس يبعث بأشعته الذهبية الحارقة على المدينة البيضاء من أحياء الجزائر العاصمة العتيقة، مع نسمات البحر الأبيض المتوسط تلطف الأجواء برذاذ شفاف موشحًا سماءها بغيوم سابح كقطن مرشوش يظلل البهجة في موسم أفراحها، وهي تستقبل الألفية الثالثة من عامها الأول، والعالم يعد بحلول موسم آخر، كانت ليالي البيضاء الصيفية تصدح بالأغاني المنبعثة من شارع موزاي عيسى من سهرات حفلات الزواج، ومعها تتعالى أصوات الساهرين السامرين من المقهى المجاور، حيث كانت شذى تقضي إجازتها الصيفية في بيت جدها الكائن في آخر الشارع.
في ليلة مقمرة خرجت شذى لتستنشق الهواء النقي في الشرفة، بعد أن اختنقت من حر الغرفة طلبًا لتغيير مزاجها، ومن حين لآخر تتعالى حناجر الشباب المتسامرين الجالسين جماعات جماعات على أضواء الطريق العمومي، فيما تتناوب الأنغام تباعًا، وتناهت إلى سمعها أغنية راغب علامة الصادحة في الشارع العتيق المشيد على الطراز الفرنسي الكلاسيكي، سهروني الليل عيونك…وأنا صبر قلبي قليل يا غالي…وأخرى للشاب ببلال وخالد وغيرهم من أغاني الراي والأغاني الأجنبية، وليل العاصمة أكثر زهوًا ومفخرة بعد أن أرخت سنوات العشرية السوداء سدولها.
في أحد الأيام وصلت بطاقة دعوة لحضور حفل زواج أحد الجيران، واستعدت شذى للذهاب بمعية خالتها الصغرى إلى العرس بكل فرح وسرور، لبست فستان سهرة محتشمًا إلى حد ما، بعد أن أمضت بعد الظهيرة عند المزينة تصفف شعرها، ووضعت لها رتوشات المساحيق اللامعة لتزين شعرها الأسود وذهبوا في فرح غامر، علقت بعض الحبات الفضية المتساقطة من شعرها على وجنتيها وظلت ملتصقة ببشرتها الجميلة، لتحمل الصبية بقايا لمعة لم يستطع الماء والصابون غسل ما علق من رقاقات فضية متناهية الصغر، لتعطيها وميضا غامضًا على محياها، وأضفت على وجهها الناصع البياض لمسة مميزة، على بشرة لم يكدرها سهر أو ضجر الحياة.
في اليوم الموالي للعرس قررت شذى الذهاب مع أختها وابنة خالتها إلى إحدى ضواحي العاصمة لزيارة بيت خالتها الأخرى عبر القطار من المحطة المركزية، قطعت الفتيات التذاكر وتوجهن إلى الرصيف الخاص بالرحلة المتجه إلى الضاحية الشرقية، وتقدمت الفتيات إلى القطار وإذ بها تلمح شابًا وسيمًا قوي البنية تتعلق يداه إلى المعالق المتدلية من داخل المقصورة قبالتها تمامًا، لديه شامة من الشعر الرمادي في مقدمة رأسه أعطته وقارًا بشكل ما، ومشت الفتاة بهدوء، لحظة فارقة حين التقت ناظريهما وتشابكت العيون وانتبه للجمال المتقدم نحوه، على حد قول الشاعر: الهوينا كان يمشي، كان يمشي فوق رمشي، اقتلوه بهدوء وأنا أعطيه نعشي، حينها ارتبكت وشرعت بإيجاد أحاديث عادية مع رفيقاتها لتلملم الموقف، وصعدت الفتيات لنفس مقصورة الشاب الوسيم الذي بقي ساكنًا بيدين مرفوعتين، شارد الذهن قليلًا لكن عينيه تتابعان تحركات شذى، وبدا كأنه بحاجة لعناق إحداهن…جلست أخت شذى وابنة خالتها معًا، وجلست وحدها أمام كرسي شاغر والشاب متدليًا يراقب.
هناك جلس قبالتها وقال: الله يبارك ما هذا الجمال…تصرفت بعدم اكتراث مفتعل، عرف بنفسه اسمي عدنان ضابط في الجمارك بالمطار، ولمزيد من المصداقية استخرج هويته، وصوته الرخيم يعد بأكثر مما يقول، وبالرغم من كل إلحاحه عليها، إلا أنها لم تستوعب صوت عدنان وهو يقول: أنا قلبي أبيض وفتحته لك…عندما رأيتك قادمة دق قلبي لك…
كان عدنان في بداية العقد الثالث من العمر من أصول شاوية[1] يعمل ضابطًا بالجمارك الحدودية في الدار البيضاء بمطار هواري بومدين الدولي…وأخبرها عن بعض تفاصيل عمله وأنه تعب من حياة العزوبية بعيدًا عن أهله، وله شقة يريد أن يتزوج فيها، لكن عبثًا كان يحاول، فشذى ابنة الثامنة عشر ربيعًا والحياة بأكملها بانتظارها تفتح عينيها لتوها على الحياة الجامعية، التي لطالما أغرتها المحافظ الجميلة للطلبة، والمستقبل الواعد المنتظر في مدرجاتها، لم تكن أبدًا لتلتفت إلى حارس حدود على الجغرافيا أو الاقتصاد الوطني؛ فهي تبحث عن اختراق حدود المستقبل، خلال الحوار الدائر بينهما لاحظ عدنان البريق على وجنتيها لتساقط حبات المكياج المتبقي على طرفي وجنتيها، وهنا علق.
– فقال لها: هل كنت في عرس؟ فهزت رأسها بالإيجاب أما هو فتأملها وهو يلحظ خطوط تناوب الضوء من جراء حركة القطار وأشعة الشمس المنعكسة على ذلك الوميض الغامض على محياها ثم أضاف قائلًا: العاقبة لنا، قالت: لا…أنا لازلت صغيرة لا أريد الزواج.
إن ذلك اللمعان على خديها جراء البريق الفضي، والوميض الأجمل في عينيها وهي تتطلع لما وراء الحدود قد جعلاها الفتاة الأجمل في عيني عدنان، حينما وقعت عيناه على جوهرة ثمينة، لكن الجوهرة لم تعرف يوما قيمة نفسها، وأكملت الفتاة دراستها ولم تجد حلمها الواعد كانت كأنها تطارد سرابا، وتزوج عدنان بأخرى ولم تبق سوى بقايا لمعة من بريق على خدها لم يغسله صابون الأيام، في ذاكرة عدنان.
……………….. ***** ……………….
[1] – الشاوية: هم منطقة الأوراس في الوسط الجزائري والمعروفون بشهامتهم ورجولتهم وهي نفسها جبال الأوراس التي اندلعت منها الثورة التحريرية المظفرة في 1 نوفمبر 1954م، ويتحدثون اللهجة الشاوية وهم أيضا من القبائل العربية الذين يمتلكون كرما وعنفوانا عربيا واضحا.