النوازع الإنسانيّة في أقصى توتراتها سناء الشعلان في قصة سداسية الحرمان

Vol. No. 1, Issue No. 3 (Special Issue) - July-September 2021, ISSN: 2582-9254

0
842
النوازع الإنسانيّة في أقصى توتراتها سناء الشعلان في قصة سداسية الحرمان

بقلم

د. حسين جمعة

————————————-

تبحر سناء شعلان في عالم الكتابة بمهارة وقوة لإنجاز أعمال جادة ورصينة، ممّا يشير إلى حمل عبء الكتابة ومكابداتها قد راودتها طويلاً قبل الولادة المتأنية التي آتت أكلها، وحققت غايتها بهدوء تام، فأتحفت القارئ بثيمات غير مطروقة وحكايات غير متداولة، وتأثيث في المقاربة والموضوعات، وإقامة صرح فني بأدوات ملائمة تتفق والمخطط المعماري المقصود.

أصبتُ بعد أن قرأت قصص سناء الشعلان بدفقة من الانبهار، ودهشت من قدرة الكاتبة على استنطاق الصامت والكامن وحثّه على الانفجار، ومن ثم الحراك والفعل، مستجيرة بحبكة غرائبية، تمتح من الخيال الفسيح، وتلتمس تشقيق الأفكار، كما تسعى إلى الجدة والإثراء في الشكل والمضمون ممّا يشفّ عن ذكاء حاد وفطنة نافذة وبصيرة رائدة.

وسأقصر حديثي على قصة “سداسية الحرمان” من مجموعة الشعلان الموسومة بـ” الجدار الزجاجي”[1]، وهي عبارة عن طبقات متراكبة تكشف عمّا يؤول إليه الحرمان على مختلف مستوياته من أفعال خارقة لا تخطر بالبال، تشكّل ست لوحات فرائد أثيرة، كلّ واحدة منها مستقلّة بانفرادها متكاملة في جمهرتها، منسوجة من الخيال القائم على واقع الحال، والمرتكز إلى فراسة معمّقة لجوهر الوجود البشري، وهي في مجملها تحيل إلى حالات إنسانية غريبة تتجلّى فيها النّوازع الإنسانية في أقصى توتراتها، لتكون على استعداد لشتى أصناف التضحية والفداء لتحقيق طموحاتها الداخلية، وجلاء المكبوت الفارق في غياهب النّفس، عندما تلوح الفرصة السانحة إلى ذلك.

يقال إنّ جميع النّاس بلا استثناء تحبّ وتكره، لكن لايعثر على الحبّ الحقيقي سوى الفنان الحقيقي، وهذا ما سعت إلى اجتراحه سناء الشعلان في سداسيتها عن حكايا الحبّ، الحبّ النزيه المفرغ من المصلحة، الذي أسعف جميع أبطال قصصها في الخروج من صمتها وسكوتها، واختيار الحلّ السليم باتباع الطّريق المستقيم، فالمتوحش في اللوحة الأولى يقضي حياته وحيداً في جزيرة نائية، بعيداً عن بني جنسه، فيأنس بيتئه الطبيعية، ويدافع عنها من أيّ وافد جديد، إلاّ أنّ سلوكه هذا آخذ بالتغير مع دخول امرأة إلى الغابة، وبعد أن أحسّ بتهييج عواطفه وأشواقه تجاهها بشغف وحرقة لم يعهدها من قبل، وحاول أن يعبّر عن ذلك إلاّ أن عدم قدرته على النّطق والكلام خانه فلم يفلح، وظلّ بعد فقدانها يعيش حرارة ذلك الشغف في منفاه الأبدي، وهذا التبدّل في سلوك الإنسان المتوحّش جاء نتيجة تأثّره بالحدث الجديد وتفاعله وإيّاه وانفعاله به، واستجابة لردة الفعل الفيزلوجي والمكابدات الذاتية، ممّا أدّى إلى تبدّل في جهازه العصبي والذّهني، وأحدث ما أحدث من تغير في السلوك لديه.

المؤثرات الخارجية لها دور كبير في الحفاظ على ثبات الاعتمادات الداخلية، ومداها ومقدارها، وقيمة دلالتها تحدّد طبيعة ردّة الفعل الانفعاليّة. فالمارد في اللوحة الثانية الذي بقي حبيس قمقمه آلاف السنين في انتظار من يفرج كربته، لم يفكّر بالحبّ يوماً إلاّ بعد أن فتح عينيه واستوى مارداً عظيماً على يد عذراء إنسيّة، أخلص لها وأقام على خدمتها ومدّها بكلّ أسباب الجاه والقوة، وأدّى اقترابه منها إلى اشتعال الأشواق في داخله، لقد تذكّر أو الأصح أحسّ بأنّه بحاجة إلى امرأة، ولمّا وقعت المرأة في عشق فتى من جنسها، قدّمت له كلّ ما يريد، ومايملك، مع أنّه لم يولها الاهتمام اللائق، وكان يصدّها ويتعب أعصابها، ويبالغ في همومها، وكانت طلباته لا تنتهي، وأسفرت عن طلبه بإرجاع المارد إلى قمقمه مع أنّه سبب سعادتها وصديقها المفضّل: ” بكلمة واحدة منها عاد المارد إلى قمقمه، أغلقت القمقم بحزنٍ من يشيّع جنازة، وأعطته إلى الحبيب الغيور، الذي طوح بالقمقم بعيداً في البحر، أحد بعد ذلك لم ير المارد، إلى أن نعاه البحر لأمواجه، لكن أسماك البحر سمعت صوت سكرات موته، فقد تحطّم قلبه العاشق، وغدا ألف شظية على يديّ الإنسيّة الجميلة”[2]

هكذا يفعل الحبّ، الاصطدام مع المؤثّر الخارجي، وتفاعلات الوسط المحيط دفعت بالفتاة إلى الاستغناء عن المارد من أجل الحبّ، والمارد الذي اندمج مع البيئة الجديدة وانفعل بها تمظهر وعيه على شكل مكابدة قاسية انتهت بموته كمداً في سبيل حبّه. وهكذا تشكّلت الدائرة واكتملت المنظومة.

وأبين من ذلك وأوسع دلالة وأثراً ما نجده في اللوحة الثالثة، فالخصي المحروم من الرجولة يدفع حياته ثمناً لتحرير إحدى الجاريات وهروبها مع من تحبّ، لأنّ جمرة الرجولة لم تنطفئ تماماً في أعماقه، وظلّ لا يشعر بها في داخله منذ جاءت تلك الجارية الخرزية. أي إنّ حضور الجارية أشعل مواقد الذّكورة المحتجبة عنده، وحرّره من مخاوفه ودفعه إلى التضحية في سبيل مؤثر داخلي مؤرّق حرم منه، وتمّ استئصالاً مصدر الخوف والحرمان باتخاذ الإجراء الفاعل.

أما شوشو في اللوحة الرابعة الذي لا يحظى بأية مواصفات تجذب النساء، مع أنّه كوافير”ذو أنامل ذهبية، إلاّ أنّ جسده الصغير وقدمه العرجاء جعلاه دون أعين النساء”[3] يسدّ حرمانه ويغلّب على قهره وضعفه بإحساسه بمسوؤلياته الخاصة عن إسعاد العروس وتزيينها على أفضل وجه: ” وتخرج بثوبها الأبيض وإكليلها السّاحر، تتوجّه إلى السّيارة المنتظرة لجلالة جمالها الأنثوي لتكون في حضن عريسها”[4] فهذه الأحاسيس أثرت الجوهر الداخلي للشخصية، وفتحت الطريق لها لاختيار حريتها الكاملة، وذلك طبقاً لميولها واستلهامها عبر تشابك سياق الحكاية، ممّا أفسح المجال أمام النّص للامتلاء الفكري، وأمام القاصة لشيء من التفلسف، وللشخصية بالتعويض عن حرمانها.

واتساقاً مع الحركة السابقة تجري أحداث اللوحة السابقة، التي تحكي قصة”فتى الزّهور” مع أزاهيره التي كان ينفر من رؤيتها ولايحبّها نظراً لفقره وارتفاع ثمنها. وبعد أن عمل في محلّ للزّهور شغف بها بعدما ألفها وأحبّها، وأضحى: “متقناً للغتها، فاكاً لأبجدية لغتها، يعرف اسم كلّ زهرة، ويدرك معنى كلّ لون، ويستطيع أن ينسّق الألوان والأشكال وفق المناسبة وبناء على طبيعة العلاقة”[5]

وما أن توطّدت علاقته بالزّهور حتى نسي أهم سبب لعمله في محلّ بيعها، إلاّ وهو توفير مبلغ من المال لدفع الأقساط الدّراسيّة، وانتهى به الأمر لشراء باقات متنوعة من الزّهور براتبه كلّه، وإهدائها لعدد من زبائن المحلّ، ليعود مبتهجاً فرحاً بفعلته تلك بدل أن يدفع قسط دراسته الجامعيّة[6]

والقصة لاتفتأ تذكّر بأنّ ما ضاع أو فقد نتيجة الحرمان لابدّ وأن يتبرعم وينبت من جديد في ظلّ الملابسات المستجدة، وأن ما يعتري الشخصية من مكتسبات مهما بلغ مدى الحرمان منها تبقى عالقة للأبد، لأنّ الإنسان ظاهرة حيّة نابضة وغير مصطنعة تعيش حياتها على وفق بيئتها الحيوية ومتغيراتها. يحمل الإنسان عبء الحرمان الذي يظلّ يجيش في النّفس ويضطرم في العقل، ويخبو مع زوال أسبابه، إلاّ أنّه يظلّ يذكّر بماضيه، ممّا يدفع الشخصية إلى دفع ثمن هذا الحرمان، ولو بعد حين، وتلبية حاجة داخلية ماسة للولوج إلى ينابيع الوجود الإنساني وكشف أسراره، والتطهّر ممّا علق بها من تراكمات ماكرة وحزينة كشفها الاقتران الصلب مابين الواقع وشخصية الفنان، وأتاح لها أن تتخلّص من عقالها، وتنطلق على درب السّمو والتعالي.

وفي اللوحة السادسة والأخيرة التي لم ترتق إلى مستوى أخواتها فنياً، سواء في انسيابية السياق أم في الغاية والقصد، تعالت البطلة “هي” على كلّ الأحقاد وأفانين الانتهازيين، وهتفت للثورة والحرية، ولم تنكسر إرادتها لأنّها: ” كانت مؤمنة، وألقوا باللائمة عليها، وشكّلوا جمعية لمناهضتها، واحتملت في سبيل التخلّص والانعتاق من قيودها الزّاجرة جميع ألوان التعذيب”[7]

تحتضن “سداسية الحرمان” إشكاليات تتناول قضايا إنسانية عامة ممتدة في الزّمان والمكان، وتقوم على مبدأ التناقض الرومانسي، حيث يضفي الجو العام هالته الرومانسية الحالمة، فيعزّزّ من قوة وأثر الخاتمة الفاعلة، والانتقال المفاجئ من حالة الصمت الهاديء إلى الفعل الصادم، من سدف الظلام إلى إشعاعات النّور بتكثيف عميق يتفق حيث منطق الحياة وجوهر القضايا المطروحة، والعطش إلى أنسنة الأشياء والموجودات بأسلوب متين يحمل فرادته الخاصة في التقاط وتوصيف أدقّ الظلام والانعطافات الحادة في الفكرة والمغزى الشّعري للحكاية في ضوء الموقف الأخلاقي والجمالي للكاتب الإنسان، الذي يتحكّم بخياله الإبداعي البناء لإنجاز شرف التواصل الثقافي في مجتمعه.

……………….. *****……………….

[1] شعلان، سناء: أرض الحكايا، ص 13-33

[2] المرجع السابق، ص 19

[3] المرجع السابق، ص 24

[4] المرجع السابق، ص 25

[5] المرجع السابق، ص 27

[6] المرجع السابق، ص 28

[7] المرجع السابق، ص 30

المرجع:

  1. شعلان، سناء: أرض الحكايا، ط1، نادس الجسرة الثقافي والاجتماعي، قطر، 2007.

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here