النقد الثقافي الجمالي عند محمود خليف الحياني قراءة لمعارضة المشروع الاستطيقي عند كانط
بقلم: أ.د. هيثم عباس سالم
dr.haithamabbas@gmail.com
…………………………………………..
الملخص:
لاشك أن الجمالي والثقافي لا يمكن أن يلتقيا في الخطاب النقدي لكون ولادة النقد الثقافي أعلنت عن موت النقد الأدبي، وعلى ضوء ذلك فإن موضوع النقد الثقافي هو الأنساق الثقافية المضمرة، وموضوع النقد الأدبي القيم الجمالية، وهذا الحظر أو السور ما بين هذين العالمين؛ العالم الثقافي، والعالم الجمالي يحتاج إلى طفرة جينية في الخطاب النقدي، والتي حاول الحياني في مشروعية للنقد الثقافي والجمالي أن يبحث عن هذه الطفرة في الخطاب النقدي لكي يعمل على عملية انصهار للجانب الثقافي في الجمالي عن طريق إجراء تشويه أو تعديل على أطروحة كانط الفلسفية، فالقراءة الضدية ضد استطيقية كانط ساعدت الحياني في إجراء التمازج ما بين النقد الثقافي والجمالي والتي احتاجت منه تحويلا في المعادلة القديمة للنقد الثقافي بدلا من أن يكون الجمال معيارا ثقافيا فقد أصبحت الثقافة معيارا جماليا.
كلمات مفتاحية: النقد، الثقافة، الجمال، الضدية، العبقرية، المنزه.
المقدمة:
شكل الجمال قبل مرحلة كانط لحظة اندماج ما بين ثلاثية الحق والخير والجمال، والتي يمكن أن نتلمسها في الطقوس الدينية القديمة من حيث الارتباط ما بين” الرقص والجمال والأهداف الدينية” ([1]) ولكن هذا الاتحاد تم انتهاكه في الفلسفة اليونانية في عصر سقراط وأفلاطون وأرسطو الذين حولوا مسالة الجمال إلى حقل انطولوجي وعملوا كذلك على ربطه بالجانب الأخلاقي([2]) والذي أصبح من بعدهم الجمال ماهية مطلقة أو كما أطلق عليه الجمال المطلق([3])، والتي أصابها بعد ذلك نوع من التغيير في المنظور في عصر التنوير مما أدى إلى أن يتحول الجمال إلى قضية “نسبة” فأصبح الجمال نسبيا ([4])، والتي احتاج إلى منهج علمي فاحدث كانط وبوجماتين نوعا من التغيير في لحظة البحث عن علم الجمال ولكن هذا التحول الذي يبحث عن علمنة الجمال([5]) كانت بمثابة إعلان عن التفريق ما بين الشكل والمضمون والتي أصبحت قضية الجمال من بعده قضية الشكل وأصبحت مشروعية الجمال هو التنزيه عن الغرض .
المبحث الأول
كانط وعبقرية الجمال
تسجل معظم الكتب التي بحثت في الجمال والفن أن الجمال أو العمل الإبداعي قبل كانط كان يرتبط بالحياة الإنسانية أو الواقع وحتى ارتبط مفهوم المحاكاة الوسطية بهذا الاغتراب وبمعنى آخر فإن الفن أو العمل الإبداعي لم يكن يعاني من الاغتراب أو الانفصال عن الواقع والذي بدوره كان ينهض على اتصال الشكل بالمضمون، وبذلك كانت معايير الجمال تخضع للذوق، ولكن حين بحث الجمال على المنهج العلمي المتأثر بالمناهج الطبيعية حدث نوعٌ من الانتهاك والتغيير والذي تجلى في فكرة “مفاهيم علمية ووضعية قدمت طريقة جديدة لمقاربة الجمال في الفن أو الأدب قائمة على أساس علمنة الجمال أو الجمالية عند بومجارتن، والتي سبقتها محاولة مفهمة الجمال عند الفيلسوف كانط في كتابه نقد ملكة الحكم “([6])، ويجسد هذان المساران علمنته والبحث عن المنهج العلمي المناسب في البحث عن موضوعية الجمال في الفن، ” وبمعية تعالي البعد الجمالي عند كانط الذي حاول أن يقوم بوضع مفاهيم عقلية للجمال وموضوعية ذات بعد مفاهيمي أدت إلى تجريد الوعي الجمالي وتحويله إلى شكل خال من المضمون يمكن مقاربته موضوعيا أي ماديا عن طريق اختباره بالملاحظة”([7])، وأن هذه المحاولات يمكن القول إنها حاولت العمل على تشكيل تصور معرفي يجرد الفن ويحوله إلى نموذج علمي يفصل بين الموضوع الشكل الجمالي والذات العارفة المتلقي أدت إلى نوع من الاغتراب الجمالي وتشكيل مفاهيم جمالية تدور في فلك لا واقعية الفن، و شكلية الفن، و الفن للفن التي حولته إلى حالة شكلية تجلب السرور أو المتعة بعيدة عن الحياة والمعرفة مقدمة مبدأ جديدا قائما على أساس أن الفن للفن وهو ما رفضه الفيلسوف التأويلي غادامير عندما انتقد التعالي الجمالي واغترابه في كون الوعي الجمالي الحديث حسب غادامير لا يمكن اختزاله في المعنى الفني والجمالي إلى المتعة الذاتية والخاصة لنمط شكلي فحسب، أو للمتعة المتعلقة (بالتلاعب الحر بالملكات) فالعمل الفني يفقد سلطته المستقلة لتربيتنا عندما يُختزل إلى مثل هذه الأفعال الخاصة من المتعة، رابطا الوعي الجمالي بموضوع الفن ([8]). مشيرا الى الإشكالية التي عملت على إضعاف لقيم الجمال في الفن والعمل الإبداعي منتقدا غادامير هذا الانفصال والاغتراب بين الشكل والمضمون باحثا عن السبب الرئيسي الذي أدى إلى ذلك عن طريق إجراء قراءة نقدية لفلسفة كانط الجمالية ولاسيما مراجعة كتابه ( نقد ملكة الحكم) الذي كان بداية لتحويل الوعي الجمالي من وعي جمالي واقعي له علاقة بالخير والحق والجمال، إلى وعي لا واقعي متعال شكلي ومفهوم عقلي، إذ شهدت فلسفة كانط الانتقال من استطيقا الذوق إلى استطيقا العبقرية التي دشنت لمرحلة خطاب فني و جمالي يقوم على فن العبقرية وفن الخبرة الذي أصبح له حضورا مكثفا على صعيد الوعي الجمالي ما بعد الكانطية([9]) .
وثمة حقيقة تاريخية تتبلور في أن الفن الذي انبثق أثناء عصر العقلانية في القرن الثامن عشر خضع إلى قوة جديدة من التعبير، جعلته رمزا للعواطف والمشاعر وليس وصفا للواقع التجريبي، ومن ثم تصبح الرؤية الفنية مماثلة لرؤيتنا لموجودات العالم المحيط بنا، مع فارق أساس أن هذه الرؤية تتميز بأنها تدرك الصورة المعبرة عن الجانب الوجداني، لأن الفن هو المظهر المرئي عن شعور الفنان اللامرئي، فالفنان من منظور المدرسة الرومانسية – التي تؤمن بنرجسية الفنان وعبقريته – لم يعدّ يعبر عن الأشياء بل عن شعوره بها وتفاعله معها وصورته الوجدانية عنها، وبذلك فقد فتح هذا المجال الذاتي او النرجسي للفنان الحرية التي انعتقت من قيود الواقع، وأصبح الفن منذ ذلك الوقت يمثل خريطة سيكولوجية للفنان ـ تفرض على المتلقي أن يتخطى الجانب المادي للعمل والنفاد إلى البيئة الداخلية للفنان فأصبحت الأعمال الفنية هي إسقاطات ذاتية تعبر عن شخصية الفنان العبقرية أو النرجسية أكثر مما تؤدي إلى تذوقه والاستمتاع به([10]) .
وبمعية هذا الانتقال فإنه ارتبط بمفهوم العبقري الذي حاول فلاسفة القرن التاسع عشر تفسيره على ضوء قدرة الذات في خلق الأشياء أو قدرة المبدع على تكوين الكلمات الجميلة، فالتركيز على العبقري ساعد على ظهور العناية بالمؤلف والذي يقابل العبقري وقدرته في تكون النصوص الإبداعية والتي بدورها احتاجت إلى مناهج نقدية تبحث عن حياة هذا المؤلف وكيف يمكن أن تساعد في تكوين النص الإبداعي([11])، لذلك فإن معظم المناهج النقدية التي ظهرت في القرن التاسع كانت تقوم على المنهج النفسي والمنهج الاجتماعي والمنهج التاريخي وهذه المناهج بحثت عن عبقرية المؤلف ولكنها لم تمارس دورا كبيرا في أن تعكس الواقع والمضمرات الثقافية([12])، ولكن مع بداية القرن العشرين وتحت تأثير فلسفة كانط التي اهتمت بالجانب الشكلي الجمالي من خلال مقولته المعيارية التي حددت الشيء الجمالي تم التحول إلى مقصدية النص ومحاولة علمنة العمل النقدي عن طريق التأثر بالشكلانيين الروس ولسانيات دي سوسر التي مثلت العمود الفقري للمنهج العلمي الذي دارت حولها المناهج التي اهتمت بالنص وقاربته على أساس علمي قائمة على علاقة الموضوع بالذات العارفة([13]) والتي تمثلت في كل من البنيوية والأسلوبية والنصية والسيميائية.. الخ إلى أن حدث الانقلاب الجذري في ثورة الطلاب في عام 1968 معلنة موت البنيوية.
المبحث الثاني
موت النقد الأدبي وولادة النقد الثقافي
يعد النقد الثقافي من المقاربات التي ترتبط بالخطاب النقدي الحديث الذي ظهر كردة فعل على الحداثة، فما بعد الحداثة أفرز مقاربات نقدية تعتني بالمتلقي وقدرته في إنتاج المعنى([14])، وهناك من يعد مصطلح ما بعد النقد الثقافي يتماثل مع مصطلح ما بعد الحداثة، ولكن عبد العزيز حمودة والذي يتفق معه الحياني في أن ممارسة النقد الثقافي من المناهج التي ظهرت في ما بعد بعد الحداثة ([15])، ولكن ما يهمني هي لحظة الانفصال التي أحدثها هذه الممارسة ما بين النقد الأدبي والنقد الثقافي، إذ أن المرجعيات أو المصادر التي ارتبطت بالممارسة الثقافية في مقاربة الجانب الإبداعي تعود إلى مرحلة سابقة لما بعد الحداثة فقد كانت الجينات الأولى للنقد الثقافي أو الدراسات الثقافي الجمالية تتمثل في مدراس التحيل الثقافي التي ظهرت في بداية القرن العشرين والتي يمكن أن تختزل في أربعة اتجاهات والتي كان روادها بالترتيب بيتر بيرجر، وماري دوجلا، وميشيل فوكو ن وهابرماس، والتي يمكن أن نحددها في النظرية الاجتماعية النقدية أو مدرسة فرانكفورات، والذي تنوع ما بين الاتجاه الظاهراتية والبنيوي عند فوكو والأنثروبولوجيا الثقافية والنظرية النقدية إضافة إلى أن هناك تجارب فردية عملت على ربط علم الاجتماع بالنص الإبداعي منها تجربة جورج زيمل ومدرسة برمنجهام وانطوني جيدنز الذي يعد من أعلام العلوم الاجتماعية التي مارست التحليل الثقافي([16]).
وتتجلى البداية الحقيقة في المقاربة الثقافية للنص الإبداعي إلى عام 1964 وتحديدا بمجموعة برمنجهام ومدرسة التحليل الثقافي إذ أنها عملت على مقاربة الآثار الثقافية مثل السينما والإعلام والغناء عاملة على كسر مركزية النص والعناية بالخطاب([17])، ولا يمكن أن نسلم بأن النص أصبح فقط من الثقافة إنما انفتح على أطر واسعة مثل التحليل الثقافي والتاريخية الجديدة والشعريات والجماليات الثقافية عند غربيلات([18]) والمادية الثقافية والماركسية الجديدة والنقد النسوي والتي جمعها فنست بوصفها مشروعا للنقد الثقافي([19])، ولعل المسألة الرئيسة التي يمكن أن نثبتها في أن النص الأدبي لم يعد نسقا قاريا إنما تحول إلى نقطة تمركز يجذب باتجاه كل الأنساق التي تتلاحم في متن النص مشكلة نسقا ثقافيا مضمرا يجمع الأيديولوجيات المتنوعة السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية والفكرية.
وبذلك فإن النقد الثقافي أصبح حالة خاصة تخالف النقد الأدبي ولكل واحد منهما خصوصيته من حيث المصطلح والمفهوم والوظيفية والتطبيق ([20])، ويعد هذا التدجين والتهجين للنص بمثابة طريقة وممارسة أبعدتا النص عن القيمة الجمالية وحوله إلى وثيقة ثقافية وأنساق ثقافية، فالمعايير التي اشتغل عليها النقد الثقافي تقوم على مقولة الجمال باعتباره معيارا ثقافيا والتي أجرى عليها الحياني نوعا من التغيير لكي يصبح نقد الثقافة معيارا جماليا.
المبحث الثالث
النقد الثقافي منزه عن الغرض عند الحياني
استعان الحياني بالقراءة المضادة لكانط لكي يعيد للنقد الثقافي القيم الجمالية، فالامتزاج ما بين موضوع الثقافة وموضوع الجمال احتاج من الحياني ممارسة قراءة جدلية لكانط تهدم مفهوم الاغتراب الجمالي أو الجانب الشكلي للجمال ومحاولة إعادة الحيوية الى الوحدة العضوية ما بين الشكل والمضمون. والمسار الثاني تركز على إجراء تحوير في تعريف كانط للجمال الذي عرّف الجمال بأنه المنزه عن الغرض، والذي يمكن أن يتوسع حسب الحياني في أن يتم تعريف الثقافة بانها المنزهة عن الغرض، ولقد انطلق الحياني من ثيمة رئيسة في البحث عن التبرير الذي يمكن أن يخدم هدفه في الدمج ما بين الجانبين؛ الثقافي والجمالي.
ولكن ما تم طرحه إلى الآن في هذا البحث أعمق من معضلة الرؤية الثقافية للنص التي حاولت أن تقصي الجانب الجمالي لصالح الرموز أو المعاني، أي فضاء الشكل الجمالي والابقاء على المضمون، و المحتوى، والأنساق الثقافية التي تعكسه، ولعل هذه المشكلة، والمعضلة التي تبحث عن العلاقة بين المجتمع والفن، قد حاول هيغل،، وغادامير، وشلير، والفلسفة الماركسية وأصحاب أطروحة علاقة الفن بالمجتمع أن يعالجوها([21])، وكلٌ بطريقته الخاصة والتي قد أصابها المبالغة، أو القصور، أو الجمود، إذ إن ما يهمنا فيما طرحناه إلى الآن في هذا البحث من أطروحات بعض هؤلاء الفلاسفة في نقدهم لفلسفة كانط الجمالية، وتجاوزهم الرؤية الأحادية للشكل، والوعي الجمالي المجرد في بحثهم عن طريقة لتجاوز الاغتراب الجمالي والغور في السيرورة التاريخية الجمالية، والفنية، والبحث عن العلاقة بين الحق، والخير، والجميل، أو العلاقة بين الفن والمجتمع، والتي تم التوصل إليها عن طريق نظرية الانعكاس في الماركسية، والخبرة والتجربة الجمالية في الفلسفة الوجودية عند هيدغر، والانطولوجية الهرمينوطيقية عند غادامير، وإننا في أطروحتنا أشرنا إلى ما اقترحه هؤلاء الفلاسفة من حيث مفهوم الانكشاف والتوهج عند هيدغر، والتعرف أو المعرفة عند غادامير، من حيث أن عملية الكشف عن المعرفة في النص الإبداعي تختزل في إظهار ماهية الشيء والتعرف عليه عن طريق تجاوز الظروف والعلاقات المحيط به المألوفة لنا، وأن هذا الاكتشاف للشيء، ومعرفته، تكون عن طريق البحث عن وجوده، وأصالته، وماهيته بعيدا عن العلاقات الخارجية، وروابطه الاجتماعية، وتعطيل الأسباب والنتائج ([22])، ولو وسعنا الرؤية في طرحنا للعلاقة بين الجمال والثقافة وحاولنا أن نعيد للجمال أو الجميل في النص الإبداعي، و الفني مكانته بعد أن تغلب عليه الجانب الثقافي في أطروحة النقد الثقافي ([23])، فتغيير المعادلة من كون الجمال معيارا ثقافيا إلى الثقافة بوصفها معيارا جماليا، فضلا عن توسيع الرؤية من مفهوم معرفة الشيء في اللغة أو ماهية الوجود حسب مشروع غادامير اللغوي أو السرد في أطروحة ريكور التي تتبلور في كون الانسان يولد وهو محاط، أو مسبوق باللغة، أو السرد وهي ما تحدد ماهيته، فالإضافة التي يمكن أن نتوسع فيها في هذا الطرح في أن نجعل من الثقافة ايضا ماهية وجودية للإنسان يتم اكتشافها في العمل الجمالي وتسجل الثقافة حضورها في النص وهي منزهة عن الغرض والنفعية.
ولكي نعمل على الحافظ على توازن العلاقة بين ما هو نسق ثقافي، وما هو جمالي، احتجنا إلى إجراء اجترار جديد لمفهوم الثقافة الذي يعمل في النص الجمالي، و الإبداعي، فالمعادلة الجديدة بين الجميل في الفن، والمضمون الثقافي، أو النسق يتم التعرف عليه عن طريق إجراء خبر فينومنولوجية ( ظاهراتية )، إذ إن خبرة القصدية أو المقصدية الظاهراتية التي تتجه إلى النص الجمالي([24])، و العمل الفني تبحث عن اكتشاف الشيء الثقافي في النص منزه عن الغرض والنفعية، وأن عملية تسمية الشيء الثقافي في العمل الإبداعي، و الفني هو في الأصل عملية انصهار الثقافة في الجمال، ولعل طريقة تتبعنا لكينونة الثقافة في هذا البحث التي أظهرت لنا أن من خاصيات الثقافة بأنها نسبية، وغير محددة، ولا يمكن أن تستقر في حدود ورسوم قارية، ولكنها في الوقت ذاته متوازنة ومستقرة يتقيد بها الفرد والمجتمع، فلكون الثقافة لها هذه الخاصية النسبية بمعية التحديد الاجتماعي الذي يفرض مقصديته، و منطقيته عن طريق سلطة الاتفاق الجماعي أو المجتمعي، وسلطة السيرورة التاريخية المتوارثة عبر الأجيال، فتذوق الشيء الجميل الذي يقوم على الاتفاق الاجتماعي يعمل على إنشاء نوع من التنافر([25])، والتناقض داخل العمل الإبداعي، ودخول عناصر الثقافة وأنساقها في العمل الإبداعي تؤدي إلى حصول نوع من التشويه أو إعادة إنتاج لها لأنها تتم على وفق اقتطاعها من النسق الثقافي الواقعي وعلاقاته ومحيطه إلى حضور جديد يعمل على تغييب النسق الثقافي، وإحالاته إلى الواقع واقامة حضور نسقي جديد له في النص الإبداعي بفعل سلطة اللغة، وعبقرية الأسلوب التي تمارس دورها في تحويله إلى رموز، و دلالات ترضخ لمنطقية الشعر أو الشعرية والجمالية، ولمنطقية الإشارة، و الدلالة، والأيقونة التي تحيله إلى الواقع الخارجي ([26]).
فمثلا حضور المرأة في الشعر حسب أطروحة النقد الثقافي تتحول إلى وطن أو عنصر مضطهد أو مقموعة …إلخ، من مسائل النقد الثقافي والنقد النسوي، فهذه العملية النقدية هي في الحقيقة تكشف عن عملية تغيب لعنصر الجمال في النص لحساب الدور الثقافي([27])، وإذ أردنا أن نعيد الاعتبار للجمال أو الجانب الجمالي في النص الإبداعي، فإننا نحتاج إلى التقرب أكثر من العلاقة بين الجميل والثقافة، فالعلاقة الجديدة التي يمكن أن تقوم بين الجميل والثقافة تخضع لمنطقية العامل الجمالي في النص الإبداعي، فعندما يستقر أو يوضع الشيء الثقافي في العمل الإبداعي، فإن الجانب الجمالي في الثقافة أو الشيء الجميل ينشط لأنه في هذه الحالة يفقد إحالته وعلاقته بالعالم الخارجي الذي كان فيه، ولقد تم إفراغه من براجماتيته ومصلحيته وقيمته وخيره وشره ([28])، فأصبح عنصر الجمال أو الجميل هو المسيطر والمهيمن على النسق أو الشيء الثقافي في العمل الإبداعي، عاملا الجمال أو العنصر الجمالي بمعية سلطة الإبداع الأدبي ([29])، والفني على إقامة علاقة حضور أصيل للثقافة منزهة عن الغرض والنفعية منصهرة ومنظمة ومنسقة بفعل مثالية الجمال الذي فرض قوانينه من حيث البراءة وعدم النفعية والبراجماتية والمثالية، فكل شيء في النص الإبداعي يدور في فلك القيمة الجمالية، وأن ارتباط وانصهار عالم الثقافة في عالم الجمال يمارس دورا في أن يحدث نوعا من عملية إعادة إنتاج الثقافة يأخذ مسارا جديدا عن طريق إعادة الاعتبار للجمال وطريقته في الرؤية التي كان يتمتع بها عندما كان له علاقة بالمعرفة وعملية الاكتشاف، فعملية اكتشاف الدلالة الثقافية أو الشيء الثقافي للنص الإبداعي يخضع لمنظور جديد يقوم على أساس أن وجود النسق الثقافي([30])، والشيء الثقافي في النص هو بحد ذاته عملية خلق أو إنشاء ثقافي، أو حدوث ثقافي جديد، فتجلي الثقافة في النص الإبداعي هو انفتاح على حقيقة الثقافة، أو الأصل الثقافي للشيء في النص، إذ أن الثقافة في الواقع تقوم على علاقات متشابكة، ومتداخلة المصالح، والقيم، والسلطات، وعلاقات والقوة، فعملها في الواقع يخضع للبراغماتية، وللمصلحية، وللنفعية، وللشر، وللخير وتفتقد العنصر الجمالي، إذ أنها تعمل على إفراغ الثقافة من العنصر الجمالي، الذي يخضع لإرادة الأذواق التي تسيطر عليها استهلاكية وبراجماتية المجتمع، فاكتشاف الشيء الثقافي في النص من جديد يمارس دورا في فضحه، واكتشاف العلاقات، والارتباطات وسلطة القوة الزائفة في الواقع التي كانت تمثل عالمه، والتي كنا مخدوعين بها ونظن أنها هي الشيء الثقافي بسبب قانون العادة، والتكرار، والبداهة، ولكن حضوره (الشيء الثقافي) في النص الإبداعي([31])، و إخضاعه لإرادة عالم الجمال يضفي عليه نوعا من العلاقة الجديدة التي تساعدنا في اكتشاف ماهيته التي تتجاوز العلاقات، والارتباطات، والعللية، والظروف التاريخية، وكأننا أمام اكتشاف، وتعرف جديد على الشيء الثقافي بعد أن انصهر في مثالية العنصر الجمالي الذي أبعده عن الغرضية والنفعية، فالجمال عمل على تحويل العلاقات النفعية للثقافة إلى علاقة مثالية لها قانون جمالي، فكل شيء في العمل الإبداعي يصبح جميلا حتى القبيح، فالقبح والجمال لا يخضعان لإرادة البراجماتية الثقافية الواقعية، إنما في العمل الإبداعي هو إعادة انتاج ثقافي جديد له يظهر ماهيته الأصلية أو البراءة التي افتقدها في عالم الواقع، إذ هي عملية تعرف جديدة لماهية القبح والجمال بعيدا عن الأحكام الثقافية بعد أن تجاوز علاقاته وارتباطاته وظروفه الخارجية. ([32]) وبذلك يكون النقد الثقافي الجمالي هو عملية اكتشاف أو تجلٍّ معرفي يبحث عن ماهية ومثالية الشيء الثقافي في العمل الإبداعي بعيدا عن غرضيته ونفعيته([33]).
ومما تقدم في هذا البحث فإن النقد الثقافي الجمالي مصطلح تم اجتراره من قبل الحياني لكي يتم عن طريقه احتواء الجانب الجمالي بالثقافي محاولا الحياني أن يتجاوز هذا التناقض ما بين الثقافي الجمالي عن طريق إجراء ينهض على أساس مسارين الأول يتجلى في نقض مفهوم كانط الذي حاول عن طريقه تحويل مشكلة الجمال إلى مشكلة الشكل والمسار الثاني الإفادة من تعريف كانط للجمال بأنه المُنَزّه عن الغرض وذلك عن طريق تحويله إلى التوظيف الثقافي في النص الإبداعي وبأن الثقافة تصبح منزهة عن الغرض والتي بدورها تتحول الأنساق الثقافية إلى لحظة من التجلي والانكشاف التي تعمل على البحث عن ماهية ومثالية الشيء الثقافي في العمل الإبداعي بعيدا عن غرضيته ونفعيته.
المصادر والمراجع:
- التأويلية مقاربة وتطبيق، مشروع قراءة في شعر فاضل العزاوي، د. محمود خليف خضير الحياني، دار غيداء، الاردن، ط1، 2013.
- التأويلية والفن عند هانس جيورج غادامير، هشام معافة، منشورات الاختلاف، ط1، 2010، الجزائر.
- تجلي الجميل ومقالات اخرى ن جيورج جادامير، ترجمة سعيد توفيق، المجلس الاعلى للثقافة، 1997، القاهرة.
- جادامر مفهوم الوعي الجمالي، في الهرمنيوطيقا الفلسفية، ماهر عبد المحسن حسن، دار لتنوير للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 2009.
- الحقيقة والمنهج، الخطوط الاساسية لتأويلية فلسفية، هانز جورج غادامير، ترجمة د. حسن ناظم، علي حاكم صالح، راجعه عن الالمانية د. جورج كتوره، دار اويا للطباعة والنشر والتوزيع، ليبيا، ط 1، 2007.
- الخروج من التيه، عبد العزيز حمودة، عالم العرفة، ط1، 2003، الكويت.
- علم الجمال قضايا تاريخية ومعاصرة، وفاء محمد ابراهيم، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2012، القاهرة.
- قصة الفلسفة، ول ديورانت، ترجمة فتح الله حمد المشعشع، مكتبة المعارف، ط2، 2004، بيروت.
- ما الجمالية، مارك جيمنيز، ترجمة شربل داغر، ترجمة شربل داغر، المنظمة العربية للترجمة، ط1، 2009، بيروت.
- ماورائية التأويل الغربي، الاصول والمناهج المفاهيم، د. محمود خليف خضير الحياني، منشورات الاختلاف، الجزائر، ط1، 2013م.
- المطابقة والاختلاف، عبد الله إبراهيم، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 2004، بيروت.
- المناهج النقدية والنص الأدبي، القبعة والساحر، د. محمود خليف خضير الحياني، عالم الكتب الحديث، اربد الاردن، ط1، 201.
- النسق الثقافي، يوسف عليمات، الاهلية للنشر والتوزيع، ط1، 2015، بيروت.
- نظرية التلقي مقدمة، عز الدين اسماعيل، النادي الأدبي الثقافي، ط1، 1994، جدة.
- النظرية الثقافية وجهات نظر كلاسيكية ومعاصرة، تيم ادواردز، ترجمة محمود احمد عبد الله، المجلس الثقافي الاعلى للترجمة، مصر، 2010.
- النقد الثقافي من النص الأدبي إلى الخطاب، سمير الخليل، دار الجواهري، ط1، 2012، بغداد.
- النقد الثقافي من منظور جمالي، د. محمود خليف الحياني، دائرة الثقافة، دولة الإمارات العربية المتحدة، ط1، 2019.
- النقد المعرفي للنص الأدبي مقاربة في النظرية والأصول والمفاهيم، د. محمود خليف خضير الحياني، عالم الكتب الحديث، ط1، 2018.
……………….. ***** ……………….
الهوامش:
[1] ــ علم الجمال قضايا تاريخية ومعاصرة، وفاء محمد إبراهيم، ص: 167 ــ 168
[2] ـ قصة الفلسفة، ص: 18
[3] ـ ما الجمالية، مارك جيمنيز، ترجمة شربل داغر، ص: 57
[4] ـ المصدر نفسه، ص: 65
[5] ـ الحقيقة والمنهج، الخطوط الأساسية لتأويلية فلسفية، هانز جورج غادامير، ترجمة د. حسن ناظم، علي حاكم صالح، راجعه عن الألمانية د. جورج كتوره، دار اويا للطباعة والنشر والتوزيع، ط 1، 2007، ليبيا، ص: 98
[6] ـ جادامر مفهوم الوعي الجمالي، في الهرمنيوطيقا الفلسفية، ماهر عبد المحسن حسن، دار لتنوير للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 2009، ص: 153
[7] ـ التأويلية والفن عند هانس جيورج غادامير، هشام معافة، منشورات الاختلاف، ط1، 2010، الجزائر، ص: 127
[8] ـ ينظر جادامر مفهوم الوعي الجمالي، ص: 152
[9] ـ المناهج النقدية والنص الأدبي، القبعة والساحر، د. محمود خليف خضير الحياني ن عالم الكتب الحديث، اربد الاردن، ط1، 2019، ص: 38
[10] ـ ينظر التأويلية والفن عند هانس جيورج غادامير، هشام معافة، ص: 120 ـ 121
[11] ـ تجلي الجميل ومقالات أخرى ن جيورج جادامير، ترجمة سعيد توفيق، ص: 223
[12] ـ التأويلية مقاربة وتطبيق، مشروع قراءة في شعر فاضل العزاوي، د. محمود خليف خضير الحياني، دار غيداء، الأردن، ط1، 2013، ص: 97
[13] ـ ماورائية التأويل الغربي، الأصول والمناهج المفاهيم، د. محمود خليف خضير الحياني، منشورات الاختلاف، الجزائر، 2013، ط1، ص: 128
[14] ـ نظرية التلقي مقدمة، ص: 143
[15] ـ الخروج من التيه، ص: 99
[16] ـ النظرية الثقافية وجهات نظر كلاسيكية ومعاصرة، تيم ادواردز، ترجمة محمود أحمد عبد الله، ص: 71
[17] ـ النقد الثقافي من النص الأدبي إلى الخطاب، سمير الخليل، ص: 11 ــ 12
[18] ـ النسق الثقافي، يوسف عليمات، ص: 7
[19] ـ الخروج من التيه، ص: 221
[20] ـ المطابقة والاختلاف، ص: 539
[21] ـ النقد الثقافي من منظور جمالي، د. محمود خليف الحياني، دائرة الثقافة، الشارقة، ط1، 2019، ص: 178
[22] ـ النقد المعرفي للنص الأدبي مقاربة في النظرية والأصول والمفاهيم، د. محمود خليف خضير الحياني، ص: 108
[23] ـ النقد الثقافي من منظور جمالي، د. محمود خليف الحياني، ص: 6
[24] ـ المصدر نفسه، ص: 27
[25] ـ المصدر نفسه، ص: 188
[26] ـ المصدر نفسه، ص: 189
[27] المصدر نفسه، ص:19.
[28] ـ المصدر نفسه، ص:
[29] ـ المصدر نفسه، ص:191
[30] ـ المصدر نفسه، ص: 192
[31] ـ المصدر نفسه، الصفحة نفسها
[32] ـ المصدر نفسه، والصفحة نفسها
[33] ـ المصدر نفسه، والصفحة نفسها