أكاذيب مباحة
(قصة قصيرة)
بقلم
د. سناء الشعلان/الأردن
ناقدة وقاصة وروائية أردنية
(1)
أكاذيب مشرعنة
المسيح الفلسطينيّ
يمدّون أياديهم الصّلفة ليصافحوا اليهود الصّهاينة، يعاهدونهم على مدّهم بالسّلاح والدّعم كي يبيدوا الفلسطينيين الثّوار، يزعمون أنّهم مسيحيون مؤمنون، ويعدّون العدّة لليهود كي يقتلوا مسيحيي فلسطين قبل مسلميها.
يعلنون في الإعلام من البيت الأبيض إنّهم في دعم اليهود الصّهاينة، ويقرعون كؤوس الخمر فرحاً بانتصارهم لقتلة المسيحيين، يديرون ظهورهم لتمثال المسيح الفلسطينيّ الذي يذرف دموعه سخيّة حزناً على قتله من جديد على أيدي مسيحيي العالم، ويظلّ مصلوباً في باحة البيت الأبيض.
في اليوم الثّاني يُعلن عن موت تمثال المسيح الفلسطينيّ الذي تمّ اغتياله من جديد في غرفة من غرفة البيت الأبيض.
بطل
لم يسعَ يوماً إلى أن يكتب اسمه مع الأحياء أصحاب الأضواء؛ لأنّه آمن بفطرته القرويّة النقيّة الأصيلة بأنّ الأبطال يموتون بصمت، ولا حاجة لهم بالضّوضاء والإضاءة الفضّاحة.
الأبطال كلّهم الذين آمن بهم، ورافقهم في درب الدّفاع المسلّح عن فلسطين قد رحلوا بصمت كما يرحل الأبطال جميعهم، إلاّ هو استبقاه الموت بإصرار لسبب يجهله.
يرفض أن يمدّ يده إلى أيّ جهة رسميّة أو إنسانيّة ليقول لهم: “أنا فدائيّ عتيد من الفدائيّين الأوائل، وقد هجرتني صحتي بعد تقدّمي في العمر، ولا مال أو معين لي، وأحتاج إلى راتب أو عون موصول”.
يمرّ من أمام بيوتهم الفارهة، هو لم يرَ وجهاً من وجوههم في درب البطولة والفداء، تنبح كلابهم عليهم نبحاً موصولاً، ويدفعه حرّاسهم عن أبوابهم الحديديّة العملاقة، وهو من يمرّ بقصورهم في درب عودته إلى بيته الكئيب الذي يفضّله على مبانيهم المشيدة.
يعاتب يده التّي تفكّر في أن تستجدي، ويهدّدها بالقطع إن فعلتْ ذلك، وينذر صياماً للأبد دون إفطار، ويمضي متعملقاً على الجوع والكلاب والحرب والأبطال الورقيين الذين صنعتهم الأقدار على حين غرّة.
ثمن
كلّ ما فعله في حياته كان لسبب واحد، وهو تحرير وطنه، لكنّه منذ أن أصبح مسؤولاً رسميّاً يلبس البذلات الفرنسيّة، وينتعل الأحذية الإيطاليّة، ويسكن الدّارات ذات المداخل الرّخأمّية، ويركب السّيارات الفارهة المظلّلّة النّوافذ بالسّواد الحاجّب، ويتبختر في بلاد الدّنيا على نفقات المعونات العالميّة لتحرير وطنه، ويتاجر بنكبات شعبه المعذّب، غدا يفعل كلّ شيء ليقبض ثمن ما فعله لأجل تحرير وطنه.
(2)
أكاذيب مشروعة
اللّعنة
قالت العرّافة لأمّها عندما ولدتها: “إنّها مصابة بلعنة لن ترحل”، ثم مضت العرّافة مبتعدة نحو البعيد دون أن تعرّفها بسرّ تلك اللّعنة.
كمنت اللّعنة في الطّفلة الوليدة ذات العينين اللّغز دون حراك إلى أن استيقظتْ مع أوّل كلمة كتبتها في حياتها؛ فأصبحت اللّعنة كابوساً عندما شرعت كلماتها تصبح حقيقة عندما تكتبها؛ كتبت عن الألم والوحدة والجوع والحرمان والعذاب، كما كتبتْ عن الحرّيّة والعدالة والفرح والحبيب والعدل والسّعادة والمحبّة، استيقظت كلماتها جميعاً، امتلأ العالم بالمزيد من الجمال والقبح، وكثرت الصّراعات فيه، لكنّها ظلّت تمارس لعنتها، تكتب دون توقّف حتى تنتصر الحكايات الجميلة، وفي لحظة رضا كتبت نهاية جميلة تليق بها، ودخلت إلى قصّتها الحلم، وعاشت فيها منتظرة أن تصبح حقيقة، وظلّت ملعونة بكلماتها.
سِيَر
هو يجيد أن يعيش حياة غيره لا حياته، يحفظ السّير بإتقان، ويخلق منها عوالم لا يمكنه أن يعيش فيها لينسى عوالمه القاتمة؛ يحفظ سيرة بطل خارق مجيد لينسى أنّه يُصفع ليل نهار في عمله وبيته ووطنه، يحفظ سيرة شاعر مجيد مفوّه يصطنعه الملوك، وتعشقه الشّعوب؛ لينسى أنّه أبكم نفسه بنفسه كي ينجو من جرائر السّؤال والجواب، يحفظ سيرة عاشق يتنعم بالحبّ، لينسى أنّه يكسر عينيه أمام أيّ امرأة كي لا تلاحظ ضآلة جسدة، وقتامة فقره، وقلّة حيلته، يحفظ سير الأنبياء والصّالحين ليتوهّم أنّه مقرّب أثير من السّماء ورضاها، يحفظ أوهام الموهومين لعلّه يظفر ببعض الصّبر حتى ينتقل إلى عالم الموت الذي يحفظ سير أبطاله وأسياده الذين لا ينتمي لهم كذلك.
أقوال مأثورة
حياته مجموعة من الأقوال المأثورة التّي يعلقها على حائط غرفته؛ “الجنون هو منطق العالم المخبول”؛ ولذلك لم يمارس فعلاً واحداً عاقلاً في حياته،”الحيرة هي السّيرة المشتركة للباحثين عن الحقيقة”؛ ولذلك هو يجيد الضّياع والتّسكع،”الفنّ هو صوت الحرمان”؛ ولذلك يحترف رسم ألمه على شكل ألوان بهيجة،”ما أعدل الظّلّ؛ إنّه مكان حنون للمنكودين”؛ لذلك يصمّم على الحياة اللّيليّة، ويبتعد عن الضّوء،”الإبداع الحقيقيّ لا يصنعه إلا حبّ عظيم”؛ فيحبّها بصمت،”أن تتألّم كثيراً يعني أنّ قلبكَ كبير أكثر ممّا يجب”؛ يعزّي نفسه بيأسه من القرب من المرأة التّي يحبّها،”جبان من يقبل بغير الحياة التّي يشتهيها” يطلق الرّصاص على نفسه؛ لأنّه أشجع من أن يعيش حياته المهزلة.