التقليد العربي في أدبيات دراسات الترجمة: من المركزية الأوروبية إلى اللامركزية
بقلم
آصف إقبال خان
iqbalasifpat@gmail.com
———————-
ملخص البحث:
ظلّ الحقل الأكاديميُّ المسمى بـ دراسات الترجمة منحصرا في مراكزها واتجاهاتها الأوروبية منذ نشأته إلى نهاية القرن العشرين. ومعظم من شاركوا في نشاطاته وأبحاثه أولاًً كانوا من أبناء اللغات والثقافات الأوروبية المختلفة، فكان من الطبيعي أن يغلب على المجال طابع أوروبي غربي. ولكن الوضع بدأ يتغير منذ بداية القرن الحادي والعشرين حين ارتفعت الأصوات في الأوساط الأكاديمية، وهي تنادي بتكامل وجهات نظر محلية وتجارب الثقافات المختلفة في الترجمة، وتطالب بتحرير هذا الحقل من انطباعات تفيد بأنه غربي اللغة والنزعة فحسب. وبفضل هذه الجهود والتطورات الجارية خارج المجال، نُشرت أخيراًً عدة دراسات تنظر في الفكر الترجمي عند الشعوب واللغات من كافة أنحاء العالم ما وراء العالم الغربي. في هذه الورقة، نسعى إلى رصد هذا التطور العلمي في دراسات الترجمة، ونقوم باستعراض بعض الآراء والكتابات التي لها أهمية في موضوع المركزية الأوروبية، كما نسلّط الضوء على الأبحاث التي تتعلق بظاهرة الترجمة في اللغة العربيّة لكي يتضح إلى أيّ مدى ينال التقليد العربي اهتماماًً في أدبيات علم الترجمة باللغة الإنكليزية.
الكلمات المفتاحية: الترجمة العربية، تاريخ الترجمة، دراسات الترجمة، المركزية الأوروبية.
مقدمة البحث:
“علم الترجمة” أو “دراسات الترجمة” أو “الترجميات” هو الاختصاص العلمي الذي يتولّّى دراسة الترجمة من حيث تاريخها وتنظيرها وممارستها وتدريبها. وعلى حد قول “جيريمي منداي” يُطلق مصطلح “دراسات الترجمة” على المبحث الأكاديمي الجديد المتعلق بدراسة نظرية الترجمة وظواهرها. ويتميّز هذا التخصص بأنه يشترك فيها عدد من المباحث الأكاديمية أي أنه مبحث بينيّ (interdisciplinary) يضم علوم اللغات والآداب، وعلم اللغويات (الحديث)، ودراسات الاتصال، والفلسفة، وضروبا منوّعة من الدراسات الثقافية.[1]
ظهر الاهتمام المتجدد بظاهرة الترجمة أولاًً لدى الأكاديميين المنشغلين بالدراسات اللغوية والأدبية في أوروبا خلال الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، وكان معظمهم يكتبون أبحاثهم باللغة الإنكليزيّة والفرنسيّة. لم يمض وقت طويل حتى أقبل عليها الباحثون من مختلف المجالات بسُرعة حيث وجدوا موضوعاتها جذابة للغاية ومُثيرة للجدل العلمي. والباحث الأمريكي “جيمز إس هولمز” طرح فكرة مبحث جديد باسم “دراسات الترجمة” لأوّل مرة، وقد سمّاه بهذا الاسم في بحثه بعنوان “اسم وطبيعة دراسات الترجمة” الذي عرضه في مؤتمر انعقد عام 1972 في كوبنهاجن.
في المرحلة الأولى من نشأة هذا الحقل غلب عليه الطابع الأوروبي وسيطر عليه العقل الأوروبي مع تصوراته وطرق تفكيره المتجذرة في تجربة الترجمة الأوروبية. ولكن الوضع بدأ يتغيّر منذ بداية القرن الحادي والعشرين حين تطوّر اتجاه جديد يدعو إلى تكامل وجهات نظر محلية وتجارب الثقافات المختلفة في الترجمة ويطالب بتحرير هذا الحقل من قيود المركزية الأوروبية. أوّلاًً ارتفعت هذه الأصوات في الدراسات الثقافية والدراسات ما بعد الاستعمار، وخاصة في كتابات الباحث الأمريكي إيريك شيفيتز والباحثة الهندية تيجاسويني نيرانجانا، ولكن لم يمض وقت طويل حتى توجَّه إلى هذا الموضوع الباحثون المعنيون بمجال دراسات الترجمة نقداًً ودراسةًً، وظهر منهم من انتقد الوضع الراهن في المجال ومنهم من أبرز تاريخهم وتجاربهم في الترجمة.
المركزية الأوروبية ونقدها:
نجد أن أنثولوجيات نظريات الترجمة التي وضعها شولت وبيغونيت أو ويسبورت وإيسترنسون تخلو من أي ذكر لظاهرة الترجمة في مختلف اللغات الشرقية عامة وفي اللغة العربية خاصة. ولا ينحصر هذا التحيز فقط على عدم ذكر التقاليد المختلفة ومساهماتها في تكوين ما نعرف اليوم بنظريات الترجمة الحديثة، بل إن من هذه الكتابات ما تَعرِضُ تقاليد الترجمة لدى الشعوب الشرقية بكونها تافهة علمياًً وخالية من أية قيمة نظرياًً، كما نجد ذلك على سبيل المثال في آراء بعض الباحثين عن تقليد الترجمة العربي.[2] وقد وصفتها الباحثتان منى بيكر وغابرييل سالدانها بأن هذه النتائج عن قلة الاهتمام النظري بالترجمة لدى العرب لا تمثّل إلا التعبير عن منظور يمنح الامتيازات لوجهة نظر غربيّة عن الترجمة.[3]
وانتقدت الباحثة ماريا تيموتشكو بأن دراسات الترجمة أو علم الترجمة مجال تطور أساساًً في الغرب ولذلك تشكلت طبيعته من ظروف غربية، وفي الممارسة يحدث غالباًً أنهم يغفلون هذه الظروف ويروّجون النظريات التي تنشأ من هذه الظروف باعتبار كونها نظريات عالمية يمكن تطبيقها على ثقافات أخرى، وتصبح في أذهانهم نموذجا يمكن القياس عليها الحقب الأخرى من تقليد الترجمة، ولكن في الحقيقة هذه النظريات الغربية أو أي نظرية أخرى تكون محدودة بالمنظور الإيديولوجي المهيمن في الفترة التي تنشأ فيها ولا يمكن تطبيقها على أخراها بصورة مطلقة.[4]
وكانت تيموتشكو قد دعت سابقاًً إلى “إعادة نظرية الترجمة من خلال تكامل أفكار غير غربية في الترجمة”[5] في ورقة بحثية نُشرت في الجزء الأول من كتاب Translating Others وضعه الباحث البلجيكي ثيو هيرمانز عام 2006. تناقش فيها بأن تصورات الترجمة التي تصف بالمركزية الأوروبية تتجذر أصولها في إعطاء القراءة والكتابة مكانة امتياز بالمقارنة مع الظاهرة الشفهية في ممارسات ترجمة النصوص المقدسة المسيحية وفيما بين اللغة والوطنية في أوروبا. وترى وهي محقة في رأيها أن مثل هذه التصورات تمثل مشكلة كبيرة حينما تُستخدم في مختلف أجزاء العالم حيث تمتلك النصوص الشفوية أهمية كبيرة تقليدياًً، وحيث المواقف تُجاه النصوص الدينية المحلية تعتمد على الأسس المعرفية المختلفة تماماًً، وحيث الوحدات دون الوطنية والروابط فوق الوطنية تحتل مكانة أكبر من صلة اللغة بالوطن.[6]
وانتقد الآخرون من مؤيدي هذه النزعة أن ما لدينا الآن في المجال هو مجرد سرد للأفكار الأوروبية فحسب من عصورها المختلفة، والمشكلة الكبيرة بهذه الأحادية أن تاريخ الترجمة يفقد الاستمرارية والاتصال بصورة واضحة، لأن التقليد الأوروبي إما قد استبعدت التطورات في التقاليد المختلفة تماماًً أو أخذتها بعين الاعتبار في الدراسات والأبحاث نادراًً جداًً. وبسبب هذا الانحياز المبين لصالح الأفكار الأوروبية وضد الأفكار غير الأوروبية، قد خلقت في المجال الكثير من “المساحات الفارغة” في تاريخ الترجمة التي يجب ملؤها لجعل المبحث مقبولاً على المستوى الدولي، ولذلك دعى اللغوي الإسباني جوليو سانتويو إلى اتخاذ إجراء بقوله، “قبل كل شيء وربما قبل أي شيء آخر، فإن المهمة العاجلة هي نزع الطابع الغربي عن تاريخ الترجمة”.
ويظهر جلياًً مما سبق أن المؤيدين لتكامل وجهات نظر محلية حول الترجمة يحاولون إلغاء سيادة المركزية الأوروبية في المجال، ولكنه ليس الهدف الوحيد مثل هذه الدراسات، حيث كما يمكن لهذه السياقات غير الغربية بجانب أن تعرض بعض المواقف الغربية للتحديات والإشكاليات، فهي بجانب آخر قادرة أيضاًً على أن توسّع المواقف الغربية الأخرى، على سبيل المثال الأساليب الترجمية (translationese) أو التصورات مثل التعادل، أو حتى تصور “الترجمة” والصور التي يمكن أن تأخذ باختلاف اللغة والثقافة.
ويعني ذلك أن المساعي نحو هذا الاتجاه يجب أن يُنظر إليها على أنها خطوة نحو تأريخ للترجمة يتصف بالشمول والتعددية بصورة حقيقية، وكذلك بكونها خطوة نحو إضفاء الطابع اللامركزي بدراسات الترجمة وإعادة تصورها من جديد. وهو تغيير تنظر إليه الباحثة الصينية مارثا تشيونغ أنه سيشكل تحولاً عالمياً في دراسات الترجمة.
إضفاء الطابع اللامركزي على دراسات الترجمة:
كما ذكرنا فيما أعلاه أن الاهتمام بالتجارب المتنوعة في الترجمة نشأ أولاً خارج المبحث، ولكن هذه الظاهرة كانت في طور التطور داخل المجال أيضاًً ولو كان منظوره مختلفاً مما كان في دراسات ما بعد الحداثة ودراسات ما بعد الاستعمار. نشرت دار روتلدج بلندن الطبعة الأولى من Routledge Encyclopedia of Translation Studies (موسوعة روتلدج لدراسات الترجمة) عام 1997 التي وضعتها الكاتبة وإحدى روّاد علم الترجمة منى بيكر، والموسوعة تحتل مكانة مرجعية في المجال منذ نشرها لأول مرة، وهي تُشير إلى وجود اهتمام الباحثين بمختلف التقاليد الترجمية على الصعيد الدولي آنذاك.
ينقسم هذا العمل إلى قسمين: القسم الأول يشتمل على موضوعات تتعلق بالقضايا والتصورات الرئيسية في نظرية الترجمة، والمقاربات الاجتماعية واللغوية في الترجمة وغيرها من المواضيع؛ أما القسم الثاني فهو يحتوي بكامله على تاريخ الترجمة في مختلف اللغات والثقافات، منها تقليد الترجمة في اللغة الروسية والفرنسية والعربية واليابانية والصينية والتقاليد الأخرى من البرازيل وكندا والهند وما إلى ذلك من لغات وبلدان من أنحاء العالم.
وشهدت بداية القرن الحادي والعشرين بعض الأعمال الرائدة التي تمثل هذا الاهتمام المتزايد بتقاليد الترجمة عبر اللغات والثقافات المختلفة حول العالم. ونذكر هنا بإيجاز ما احتوتها هذه المؤلفات من مواقف أيديولوجية تجاه الموضوع في أبحاثها ومنظوراتها.
صدر في عام 2000 كتاب بعنوان Beyond the Western Tradition (ما وراء التقليد الغربي)، وهو مجموع مقالات وأبحاث من التقاليد المختلفة ووضعته الباحثة ماريلين غاديس روز، وعبّرت في مقدمته عن أملها أن الكلمة “ما وراء” في العنوان لا تؤدي القارئ إلى اعتقاد أن الكتاب يحدث فقط عن التقاليد “الخارجة أو غير غربية”. ثم تقول إن نيتها بصفتها محررة للكتاب أن تساعد القارئ بفهم الفرق بين منظورات الترجمة من الثقافة الغربية والثقافات الأخرى من مختلف أنحاء العالم.
ومن هذه المحاولات كتاب Changing the Terms: Translating in the Postcolonial Era من تأليف الباحثة الكندية شيري سيمون والباحث الكندي بول سان بيير صدر لأول مرة عام 2000، وهو كتاب يتأصل في مباحث ما بعد الاستعمار بعمق ويشتمل على عدة تمثيلات جغرافية حيث عملت الترجمة بمثابة عدسة في كافة الأبحاث المضمونة في المؤلف. وتتركز المقالات على الظروف الاستعمارية ومنتجاتها الثقافية بين المستعمرات السابقة في أيرلندا والصين وكندا والهند والولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية.
وتسلط شيري الضوء في مقدمة الكتاب على الدور الذي يلعب به مصطلح ما بعد الكولونالية في سياق الترجمة وكيف يتعامل معها من جهتين: أولهما البُعد العالمي للأبحاث في دراسات الترجمة، وثانيهما الاهتمام اللازم بخطة عمل نفهم من خلالها علاقات القوة وعلاقات الغيرية. كما تؤكد على أن النظرية يجب أن تُفهم في سياقها الأيديولوجي والثقافي وعلينا أن نعترف أن كافة المباحث في أي تقليد الترجمة تتشكل في سياقاتها التي تنشأ منها ويتأثر استخدامنا لهذه المباحث من هذا التاريخ.[7]
ومن هذه الأعمال التي سعت إلى تكامل المباحث من التقاليد المختلفة في دراسات الترجمة يمكن أن نذكر أيضاً كتاب Less Translated Languages (اللغات أقل مترجماً) أخرجه الباحثان الإسبانيان من ذوي الأصول الكاتالونية ألبرت برانشاديل وويست لوويل مارغاريت عام 2004. ويعرّف برانشاديل هذا الكتاب بأنه يشتمل على أبحاث أجريت داخل إطار أعمال مبنية على اللسانيات والتخطيط اللغوي والدراسات الأدبية والفلسفة والدراسات الثقافية، حيث تعالج كل مقالة عمل المترجم والأعمال المترجمة داخل سياق محدد من الهيمنة والتبعية الثقافية وتسعى من خلالها إلى الخوض في الحديث عن نظريات الترجمة الحالية ومدى تطبيقها على الظروف الثقافية المختلفة.[8]
أصدرت الباحثة الصينية إيفا هونغ والباحثة الأمريكية في اللغة اليابانية وآدابها جودي واكاباياشي عام 2005 كتاباًً بعنوان Asian Translation Traditions (تقاليد الترجمة الآسيوية)، ووصفتا هذا الكتاب بأنه استجابة للانحياز في مجال دراسات الترجمة، ورحّبتا بعلامات الوعي المتزايد بحاجة إلى معالجة هذا الاختلال بالتوازن، وأكدتا على ضرورة الاعتراف بأن تقاليد الترجمة “غير الغربية” توفر فرصة لتجديد دراسات الترجمة في الغرب ونقدها من وجهات نظر خارجية، ولكنها ذات قدر واهتمام في حد ذاتها أيضاً ويعني ذلك أن أهميتها لا تنحصر فقط في كيفية نفعها لوجهات نظر غربية بل يجب أن يُنظر إليها كوحدة قائمة بذاتها وليس بالسياقات الأجنبية.
في مقدمة الكتاب ناقشت الباحثتان أن الأفكار وممارسات الترجمة في الثقافات المختلفة تختلف من مكان إلى مكان، وإن نماذج الترجمة الغربية ونظرياتها لا يمكن أن تُطبق بدون فحصها على السياقات الأخرى، وتحدثتا عن تجاربهما في أبحاث الترجمة في الصين واليابان وكيف تكمن العوامل التاريخية والنُظُم المعرفية المختلفة وراء ممارسة الترجمة ومعاييرها في هذه المناطق، وما لها من خصائص ومميزات لا يمكن قياسها من معايير غربية أو غيرها.[9]
ومن هذه المحاولات كتاب Translating Others (ترجمة الآخرين) وضعه ثيو هيرمانز عام 2006 في مجلدين وأبحاثه تقوم بتحدي التفكير المهيمن فيما يتعلق بالترجمة. يعالج الكتاب قضية التمثيل الجغرافي واللغوي وينظر في ظاهرة تصنيف الناس ضمن الآخر. يسجل هذا العمل، الوعي المتزايد بفكرة أن فئة الآخرين هم الذين يسكنون في معظم أنحاء العالم ويترجمون أيضاً وكثيراًً ما بطُُرق تختلف تماماً مما تتحدث عنها مباحث الترجمة الغربية. وتعالج أبحاث الكتاب نطاقاً واسعاً من اللغات والثقافات عبر القارات الأفريقية والآسيوية والأوروبية والأمريكية وتتمثل هذه الأبحاث مقاربات بينية من الأدب والنقد واللغويات والأنثروبولوجيا والدراسات الثقافية والتاريخية وما إلى ذلك من المجالات المختلفة.
في مقدمة الكتاب يشرح هيرمانز فكرته في هذا الكتاب التي تظهر في التناقض مع المعارضات الثنائية التي كانت ولا تزال تسود التفكير العلمي الغربي، فتبدأ فكرته من الإيمان بأن “الترجمة تفاوض على الاختلاف”، ولذلك يختار عنواناً يفيد بهذا الاختلاف الذي يوجد لدى “عدد لا يحصى من الآخرين الذين يترجمون بطرق خاصة بهم، لأسباب خاصة بهم، وفي عالم خاص بهم”، وهذه ممارسة الترجمة لدى هؤلاء “الآخرين” التي تندمج في نظرية الآخرين عن الترجمة، ثم يتحدى هذا الاندماج المنهجيات الحالية في المجال والتي تتجاوز حدود المجالات.[10]
ونريد هنا أن نذكر كتاباً مهماً لعالم الترجمة الأمريكي الشهير إدوين جنتزلر أصدره عام 2008 بعنوان “الترجمة والهوية في الأمريكان: اتجاهات جديدة في نظرية الترجمة”، ولو يتحدث الكتاب عن قضية الهوية والترجمة في القارة الأمريكية جنوباً وشمالاً، ولكن له أثر عميق في الموضوع الذي نناقش هنا عن أهمية تقاليد الترجمة خارج نطاق المركزية الأوروبية، وكان لهذا الكتاب شأن كبير في تنويع دراسات الترجمة وفتح آفاقها للجميع حتى يسهُل للثقافات واللغات المختلفة مشاركة بمداخلاتها التي لم تُعنى بها سابقاً إلا نادراً.
يقوم جنتزلر في كتابه بدراسة أهمية الترجمة في خلق وتحويل وتمثيل الهويات للشعوب التي تسكن في مختلف أنحاء القارة الأمريكية، مؤكداً فيها على المجموعات الأقلية والمهمشة وعلى التنوع الثقافي في مختلف بلدان القارة، ويتحدى التعريفات الثابتة للترجمة باحتضان المعاني المتعددة للترجمة كما يستخدمها المعنيون بها، في كندا والبرازيل والمناطق الكاريبية على سبيل المثال. وبالإضافة إلى ذلك، عندما يصف جنتزلر الاستراتيجيات التي يستخدمها المترجمون في القارتين مثلاً ضد الترجمة وعدم الترجمة والترجمة الخاطئة المتعمدة للتعبير عن هويتهم أو لاستبعاد الآخر، فكأنه يتحدى النظريات التي تقول إن الترجمة تُنقل كافة جوانب النص.[11]
في كتابهما Decentering Translation Studies: India and beyond من إصدارات عام 2009 انتقدت كل من الباحثة الأمريكية جودي واكاباياشي والهندية ريتا كوتاري هذا الانحياز الغربي في دراسات الترجمة الذي في رأيهما يُنكر الثراء الكامل لنشاطات الترجمة ومباحثها التي توجد لدى أبناء اللغات والثقافات الأخرى في مختلف أنحاء العالم. وتصفان العمل بكونه ممثلاًً لتقاليد الترجمة المختلفة حيث يشمل الكتاب أبحاثاً ومقالات من الباحثين الذين ينتمون إلى لغات وثقافات متنوعة من داخل الهند وخارجها. فما كتبته كوتاري يمثل الانعكاسات التي ترجع إلى تجربتها الهندية في الترجمة، وما كتبته واكاباياشي يمثل أفكارها المتأصلة في تاريخ الترجمة اليابانية.[12]
وتقدمان أمثلة من تجاربهما التي تبيّن كيف يمكن أن تختلف مفاهيم الترجمة في التقاليد اللغوية والثقافية المختلفة، وتتحدثان عن فكرة “الأصل” و”الترجمة” كما كان لها شأن كبير في التقاليد الغربية وكيف يختلف تصورها في التقليد الهندي. وتطرحان مثال الكتب المقدسة الهندوسية رامايانا ومهابهاراتا لما كانت لهما من أهمية كبيرة لدى الشعوب الهندية، ولكن رغم وفرة نُسخها لا يوجد جدال ملحوظ حول من يمتلك نسخة أصلية لهذه الكتب، وتخلو المباحث الهندية في هذا الموضوع من أية هموم عمّا جاءت أولاً وما تبعته من هذه النُسخ.[13]
كلُّ هذه المحاولات عملت في تمهيد السبيل إلى إضفاء الطابع العالمي على دراسات الترجمة من خلال النظر في التقاليد خارج المنطقة الأوروبية والأمريكية وتكامل مباحثها وأفكارها في المجال. كما أدت هذه النشاطات إلى ظهور كتب وبحوث قيمة تعالج ظاهرة الترجمة في تقليد منطقة خاصة أو لغة وثقافة خاصة. ومن خلال هذا التطور نال تاريخ الترجمة اهتماماً بالغاً من قبل الباحثين في المجال ليس فقط في الإنجليزية بل في سائر اللغات التي توجد فيها دراسات تتعلق بالترجمة.
التقليد العربي في أدبيات دراسات الترجمة:
أما بالنسبة للغة العربية، فقد احتوت بعض هذه الأعمال التي ذكرناها فيما أعلاه على أبحاث تتعلق بتقليد الترجمة العربية، ونقدم فيما يلي بياناًً موجزاًً بأهم مداخلاتها.
يشمل كتاب ماريلين غاديس روز (2000) مقالتين عن الترجمة العربية وقد كتبهما كل من سعيد فائق وجون ماير، وتعالج المقالتان إشكالية تدنّي أهمية الترجمة والمترجم في الحقبة المعاصرة مقارنة بمكانة المترجم العربي في العصور الوسطى الذي كان يُعتبر عضواًً مهماًً من المجتمع، وكان الحكام ينفقون عليه أموالاً طائلة لترجمة الأعمال الأجنبية مع هدف الحفاظ على سيطرة اللغة العربية. وتُشير مقالة سعيد إلى أهم جوانب الحركة الترجمية في العصور الوسطى ويذكر أن معظم الأعمال المترجمة في هذه العصور كانت كُُتُب العلوم والحساب، ولم يُترجم الأدب الأجنبي إلا قليلاًً، ولأسباب دينية كانوا يعتقدون أن استيراد الأفكار من الثقافات الأخرى يُشكل خطراًً على الثقافة العربية الإسلامية، كما يشكو الكاتبان أن العرب لا يشجعون دراسة الترجمة في جامعات الشرق الأوسط ولو أنهم يعتبرون الترجمة صورة موسعة للتعددية اللغوية.[14]
ويقدم كتاب برانشاديل ومارغاريت (2004) الاثنين من المداخلات التي تتعلق باللغة العربية وكتبهما كل من الباحث العربي حسان حمزي والباحث الإسباني نوبيل بيردو هونيمين. تتحدث مقالة حمزي عن نفوذ اللغة الإنكليزية (والفرنسية) على لغة أقل ترجمة منها مثلاًً العربية، ويلاحظ فيها بأن اللغة العربية مثل اللغات الأخرى من عالم ثالث تستورد مصطلحات كثيرة من اللغات الأوروبية مثل الإنكليزية والفرنسية بصفة خاصة. أما مقالة نوبيل بيردو فهي تعالج قضية اللغة الإنكليزية كلغة وسيطة في الترجمة غير المباشرة إلى اللغة العربية، ويتحدث على سبيل المثال تجاربه الشخصية في ترجمة “كتاب الأقدس” إلى اللغة الإسبانية من النسخة الإنكليزية مستخدماًً النص العربي الأصل كمرجع ويناقش ملاءمة الترجمة غير المباشرة في بعض الحالات المعينة.[15]
يضم المجلدان من كتاب هيرمانز المذكور (2006) بعض الأبحاث عن تقليد الترجمة في اللغة العربية ومن أهمها مقالتان للباحثة مريم سلامة كار، في إحداهما تقوم بدراسة مدرسة الترجمة في بغداد خلال القرن العاشر من وجهتين: من وجهة نظر مقارنة تصورات الترجمة عبر الزمان والمكان، ودور لغة الوصف. تدعي في مقالتها أن دراسة هذا المحيط من جديد من منظور الممارسات والخطابات المعاصرة لا تساعد فقط في التعرف على التقاليد التي يكاد يطويها النسيان، بل تعطي أيضاً أهمية للغة الترجمة الاصطلاحية التي خلقها المترجمون والأدباء والمؤرخون عبر العصور. وتتحدث الباحثة في مقالتها الثانية عن قضية الفصحى والعامية في اللغة العربية كما ظهرت من جديد في القرن التاسع عشر. يعالج البحث هذه القضية بخصوص ترجمة المسرحيات من اللغة الفرنسية وما ظهر على إثرها جدال حول استخدام اللغة الكلاسيكية أو اللغة الحديثة بجانب واستخدام اللغة الفصحى أم العامية بجانب آخر.[16]
بغض النظر عما إذا كانت هذه الأعمال شملت الدراسات عن الترجمة العربية أم لا، إنها لعبت دوراًً مهماًً في تمهيد السبيل للباحثين للنظر في التقليد العربي وزوّدتهم بمقومات نظرية وأيديولوجية لمثل هذه الدراسات. وإن الأعمال التي ظهرت أخيراًً في اللغة الإنكليزية عن الترجمة العربية تبين مدى فاعلية هذه المحاولات داخل المجال وخارجه. وهي تدل أيضاًً على ازدياد انشغال الأكاديميين والباحثين بتاريخ الترجمة في التقليد العربي مما يُشير إلى بداية فصل جديد من مستقبل الدراسات العربية المعنية بالترجمة والمكتوبة باللغة الإنكليزية.
وفي النهاية، نذكر بعض الأعمال الحديثة التي قد وضعت بالفعل أسسا متينة لهذا المستقبل من خلال فتح الأبواب الجديدة من التراث العربي للباحثين وتزويدهم بالمصادر القيمة التي لم تكن متاحة لهم من قبل.
ومن هذه الأعمال دليل روتليدج للترجمة العربية Routledge Handbook of Arabic Translation وضعه كل من سامح حنّا، وحانم الفرحاتي وعبد الوهاب خليفة عام 2019. يشتمل هذا الكتاب على سبع وعشرين مقالة بحثية بأقلام الأكاديميين البارزين وتتوزع على سبعة أبواب كما يلي: ترجمة النصوص المقدسة، الترجمة والوساطة والإيديولوجيا، وكالة المترجم، تاريخ الترجمة وعلمها، تنظير ممارسة الترجمة الشفوية، الترجمة التقنية: قضايا وتحديات، اللغة والنوع الأدبي والترجمة.[17]
ومنها كتاب Translation in the Arab World: The Abbasid Golden Age من أعمال الباحث عدنان خالد عبد الله نُشر في النسخة الإنجليزية عام 2021 من روتليدج. يشتمل الكتاب على تسعة أبواب بالإضافة إلى مقدمة وخاتمة، وتعالج أبوابه تاريخ الترجمة العربية في العصر العباسي مع أبعادها اللغوية والثقافية والاجتماعية، كما تسلط الضوء على أهم القضايا التي شغل بها المترجمون العرب في هذه الفترة، على سبيل المثال، الترجمة وقضية الثقافة، ترجمة النقد الأدبي والآداب والعلوم، ترجمة الشعر وأثر الترجمة على اللغة العربية.[18]
ومن هذه الأعمال كتاب Anthology of Arabic discourse on translation وضعه كل من الباحث طارق شما والباحثة مريم سلامة كار ونُشرت طبعته الأولى باللغة الإنجليزية من روتليدج بلندن في بداية السنة الجارية أي عام 2022. كما يظهر باسم الكتاب فهو مجموعة النصوص العربية المعنية بالترجمة التي قام بجمعها فريق عمل الباحث تحت مشروع دولي شارك فيها عدد من الأكاديميين والباحثين من جامعات مختلفة واستغرق عدة سنوات من بدايته إلى نهايته. وفي مقدمة الكتاب يصف المؤلف طارق شما هذا العمل بكونه “محاولة لتقديم خطاب الترجمة العربي من مصادره الأولى، من خلال انتقاء نصوص تتناول الترجمة وتناقشها وتبحث فيها من الاتجاهات المختلفة وفي مراحل مختلفة من تاريخ الفكر العربي.”[19]
الخاتمة:
على الرغم من كونها حديثة النشر، احتلت بعض هذه الأعمال المكانة المرجعية في الموضوع وتستحق بأن يُدرس كل واحد منها بانفراد حتى يبرز ما يشتمل عليها من أبحاث قيمة وما يكمن فيها من إمكانيات لفتح آفاق جديدة للباحثين.
تبينت مما ذُكر أعلاه نقائص المركزية الأوروبية في حقل الترجمة كما برزت أهمية التقاليد المحلية في الترجمة، ورأينا أن هذا النقاش أدى إلى محاولات هادفة إلى إبراز حركة الترجمة في مختلف اللغات والثقافات ودراسة تاريخها من حيث الممارسة والتفكير والتنظير. وأخيراًً، أفادتنا نظرة سريعة على نتائج هذه المحاولات في سياق الترجمة العربية بالإنجازات التي حققتها هذه البحوث الأولية فيما يتعلق بالموضوع، كما تجلت أهميتها لدراسات مستقبلية في هذا المجال.
الهوامش:
[1] Munday, Jeremy: Introducing Translation Studies: Theories and Applications (London; New York: Routledge, 2001) p: 1.
[2] ومنهم المستشرق الألماني ماكس مايرهوف (1874-1945) والبروفيسور الألماني فرانز روزنتال (1914-2003)، حيث ذهب الأخير منهما في كتابه “التراث الكلاسيكي في الإسلام” إلى أن المترجمين العرب أعطوا القليل من الاهتمام نسبياً بالمباحث النظرية عن تقنية الترجمة (1975: 15). وتبعهما البروفيسور الأمريكي ديميتري غوتاس (م 1945) فحكمَ بأن المفكرين العرب لم يأتوا بتأملات نظرية عن الترجمة باستثناء عدد قليل من التعليقات البسيطة والمقتبسة (1998).
[3] Baker, Mona, and Gabriela Saldanha: Routledge Encyclopedia of Translation Studies (London; New York: Routledge, 2nd ed., 2009) p: xx.
[4] Tymoczko, Maria: Enlarging Translation, Empowering Translators (London: Routledge, 2014) p: 5.
[5] هنا تظهر إشكالية استخدام كلمة “غير الغربية” للإشارة إلى الوحدة المتنوعة التي تشمل فيها كل ما توجد خارج الثقافة الغربية، لأن المصطلح “غير الغربية” كما ناقشت تيموتشكو تستخدم “الغرب” كمركز ونقطة انطلاق، فكأنه يتعارض مع أساس فكرنا الذي يقوم على إخراج دراسات الترجمة من محدودية الغرب. وبما أن المصطلحات الأخرى مثلا “الشرقية” أو “الآسيوية” تتضمن أيضا مشكلات عملية مماثلة، ولكن حيث احتلت هذه التركيبات الاصطناعية مكانة الحقائق في اللغة الأكاديمية، نضطر الآن إلى استخدامها حتى نصل إلى اتفاق على بعض المصطلحات الأخرى ويقبلها الجميع.
[6] Tymoczko: Enlarging Translation, Empowering Translators, p: 7.
[7] Simon, Sherry, and Paul St-Pierre: Changing the Terms: Translating in the Postcolonial Era (University of Ottawa Press / Les Presses de l’Université d’Ottawa, 2001) p: 12.
[8] Branchadell, Albert, and Lovell Margaret West: Less Translated Languages (John Benjamins Publishing, 2005) p: 11.
[9] Hung, Eva Tsoi Hung, and Judy Wakabayashi: Asian Translation Traditions (Routledge, 2014) pp: 1-16.
[10] Hermans, Theo: ed. Translating Others (Manchester: St. Jerome Publishing, 2006) Volume 1, p: 9.
[11] Gentzler, Edwin: Translation and Identity in the Americas: New Directions in Translation Theory (New York: Routledge, 2007) p: 16.
[12] Wakabayashi, Judy, and Rita Kothari: Decentering Translation Studies: India and Beyond (John Benjamins Publishing, 2009) p: 3.
[13] Ibid, p: 3-5.
[14] Rose: Beyond the Western Tradition, pp: 1-10.
[15] Branchadell, and West: Less Translated Languages, pp: 49-74.
[16] Hermans: ed. Translating Others, volume 1, pp: 120-131.
[17] Hanna, Sameh, Hanem El-Farahaty, and Abdel-Wahab Khalifa: eds. The Routledge Handbook of Arabic Translation (London; New York: Routledge, 1st ed., 2019).
[18] Abdulla, Adnan Khalid: Translation in the Arab World: The Abbasid Golden Age (London; New York: Routledge, 2020).
[19] Shamma, Tarek, and Myriam Salama-Carr: eds. Anthology of Arabic Discourse on Translation (London; New York: Routledge, 2021) p: 9.
قائمة المراجع والمصادر:
المراجع العربية:
- بدوي، عبد الرحمن: دراسات ونصوص في الفلسفة والعلوم عند العرب (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1981).
- شما، طارق وسلامه كار، مريم: أنثولوجيا الترجمة العربية (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، 2022).
- عبد الله، عدنان خالد: قراءات معاصرة لتراث الترجمة في العصر العباسي (الشارقة: مطبعة جامعة الشارقة، الطبعة الأولى، 2018).
- عصفور، محمد: دراسات في الترجمة ونقدها (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2009).
- مرحبا، محمد عبد الرحمن: المرجع في تاريخ العلوم عند العرب (بيروت: دار الجيل، الطبعة الأولى، 1998).
- هونكه، زيغريد: شمس العرب تسطع على الغرب (بيروت: دار الآفاق الجديدة، الطبعة الثانية، 1986).
المراجع الأجنبية:
- Abdulla, Adnan Khalid: Translation in the Arab World: The Abbasid Golden Age (London; New York: Routledge, 2020).
- Baker, Mona, and Gabriela Saldanha: Routledge Encyclopedia of Translation Studies (London; New York: Routledge, 2nd ed., 2009).
- Branchadell, Albert, and Lovell Margaret West: Less Translated Languages (John Benjamins Publishing, 2005).
- Gentzler, Edwin: Translation and Identity in the Americas: New Directions in Translation Theory (New York: Routledge, 2007).
- Hanna, Sameh, Hanem El-Farahaty, and Abdel-Wahab Khalifa: eds. The Routledge Handbook of Arabic Translation (London; New York: Routledge, 1st ed., 2019).
- Hermans, Theo: ed. Translating Others (Manchester: St. Jerome Publishing, 2006) Volume 1.
- Hung, Eva Tsoi Hung, and Judy Wakabayashi: Asian Translation Traditions (Routledge, 2014).
- Munday, Jeremy: Introducing Translation Studies: Theories and Applications (London; New York: Routledge, 2001).
- Rose, Marilyn Gaddis: Beyond the Western Tradition (Binghamton, USA: State University of New York, Center for Research in Translation, 2000).
- Schulte, Rainer, and John Biguenet: Theories of Translation: An Anthology of Essays from Dryden to Derrida (University of Chicago Press, 1992).
- Shamma, Tarek, and Myriam Salama-Carr: eds. Anthology of Arabic Discourse on Translation (London; New York: Routledge, 2021).
- Simon, Sherry, and Paul St-Pierre: Changing the Terms: Translating in the Postcolonial Era (University of Ottawa Press / Les Presses de l’Université d’Ottawa, 2001).
- Tymoczko, Maria: Enlarging Translation, Empowering Translators (London: Routledge, 2014).
- Wakabayashi, Judy, and Rita Kothari: Decentering Translation Studies: India and Beyond (John Benjamins Publishing, 2009).
- Weissbort, Daniel, and Astradur Eysteinsson: Translation Theory and Practice A Historical Reader (London: Oxford University Press, 2006).
……………….. ***** ……………….