الترجمة وأدوارها الفاعلة في بناء المجتمعات
بقلم
رفيق أختر
باحث في الدكتوراه، قسم اللغة العربية والفارسية، جامعة كلكتا، بنغال الغربية، الهند
————————————-
ملخص البحث:
تتناول هذه الدراسة حركة الترجمة التي ظهرت في الدول العربية من العصر الجاهلي إلى العصر الحاضر، على يد العلماء المسلمين وغيرهم، إذ ترجموا أغلب المعارف الأجنبية من فلسفة وعلوم وآداب وثقافة وتاريخ إلى اللغة العربية، أما أهداف الترجمة ومقاصدها فكانت تختلف باختلاف طبقات المجتمع العربي ونواياها. وقد ركز البحث على دور الترجمة في تطوير اللغة العربية وآدابها والثقافة العربية ومعارفها العلمية و تمكين اللغة العربية من التخلص من سلبيات لغة عصر الانحطاط. كما ألقت هذه الدراسة الضوء على أنه لايخفى على كل باحث في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية ما لحركة الترجمة من أهمية بالغة في قيامها، إذ إن الترجمة وهي الحركة الأساسية التي لابد منها في كل عصر، قد أسهمت بشكل مباشر في تعزيز حضارة عربية إسلامية وفي مختلف العصور التي مرت بها هذه الحضارة.
الكلمات المفتاحية: حركة الترجمة، العصور المختلفة، المعارف الأجنبية، المجتمع العربي، الحضارة الإسلامية.
المدخل: الترجمة ضرورة من ضرورات المجتمع البشري، يمارسها الإنسان منذ قديم الزمان، يقول المثل العربي القديم “الضرورة تفتق الحيلة”. يتبين من هذا المثل أن الحاجة هي العامل الرئيسي والقوة الدافعة في الكثير من الأشياء التي أوجدها المجتمع الإنساني. لقد أدرك المجتمع الإنساني حاجته إلى الترجمة منذ القديم لأنه يتكلم لغات عديدة، لا لغة واحدة، وعليه لم تكن أمام الإنسان وسيلة للتفاهم مع أبناء جنسه ممن لا يحدثون بلغته غير وسيلة الترجمة بغض النظر عما كان شكلها في البداية، ولا شك في أن الحاجة لعبت ولاتزال تلعب دورا كبيرا في تطوير الترجمة لأنها تتنوع وتتشعّب حسب متطلبات العصر.
في القرون الماضية ما كان العالم تقدم كثيرا وكذلك كانت ضرورات الإنسان محدودة ومقتصرة على التبادل التجاري المحدود النطاق وكذلك لم يكن الإنسان يعرف كل العالم المعمورة، ولم تكن وسائل النقل ميسرة أو متوفرة كما هي اليوم. وهكذا كان التعامل البشري محدودا وكذلك كانت ضرورة الترجمة وأهميتها محدودتين. ولكن رويدا رويدا أخذ الأنسان يرتقي مدارج التقدم وبدأ يعيش حياة الإستقرار وكذلك ظهرت للوجود وسائل النقل والمواصلات السريعة، والنتيجة ازدياد التعامل بين مختلف شعوب العالم الناطقة بمختلف اللغا.، أغلبية الدراسات في هذا المجال تؤكد بأن الترجمة خرجت إلى حيّز الوجود من جراء حاجات الإنسان الماسة إليها سواء كانت حاجة من الشؤون التجارية والاقتصادية والسياسية، أو حاجة من الدين، أو حاجة من العلاج، أو حاجة إلى كشف المجهول، أو حاجة من التقدم الصناعي، فإن الترجمة هكذا ظلت زمنا طويلا رهن حاجات الإنسان إليها، إلا أن الإنسان، مع مضي الوقت، بدأ يشعر بإفادية عملية الترجمة في بناء المجتمعات وأخذ يولي اهتماما متزايدا للترجمة.
لقد عرف العرب الترجمة كما عرفتها سائر الشعوب، وهي لاشك مظهر من مظاهر النضج العلمي والثقافي الذي أفرزته حقبة من زمن الدولة العربية الإسلامية التي ازدهرت فيها حركة التأليف والكتابة في شتى فنون العلم والمعرفة الإنسانية.
الترجمة لغة:
الترجمة على وزن فعلل مصدرها “ترجم”، وجمعها “تراجم”، وتعني التفسير ويقال ترجم فلان الكلام أى فسره بلسان آخر.[1]
وقد ورد الفعل ( ترجم ) في “لسان العرب” من أصل الفعل رجم والرجم هو القول بالظن والحدس، ومنه ( رجما بالغيب ) ويقال : كلام مرجم : عن غير يقين والترجمان هو المفسر[2].
الترجمة تعني نقل الكلام من لغة إلى أخرى. فقولنا “ترجمة النص العربي إلى الإسباني” أي نقلت كلام النص من اللغة العربية إلى اللغة الإسبانية . ومن هذه الكلمة اشتق اسم الفاعل”ترجمان” و”مُترجِم”[3] والذي يقوم بعملية الترجمة ويلفظ”ترجمان” بأشكال مختلفة، فيلفظ كالتالي:
تَرْجُمان” بفتح التاء وضم الجيم وهذا أجودها بقول أغلب اللغويين. ”
” تُرجُمان” بضمهما معاً بجعل التاء تابعة للجيم.
“تَرجَمان” بفتحهما معاً بجعل الجيم تابعة للتاء.
الترجمة إصطلاحا:
ذكر خبراء الترجمة والمتخصصون فيها عدة تعريفات اصطلاحية لها وهي على ما يأتي:
1- الترجمة في الاصطلاح: نقل الكلام من لغة إلى لغة أخرى[4] .مثلا نقل نص مكتوب باللغة العربية إلى اللغة البنغالية أو الإنكليزية أو بالعكس.
2- وتعرف الترجمة كذلك بأنها فن جميل يعني بنقل الألفاظ والمعاني والأساليب من لغة إلى أخرى بحيث أن المتكلم باللغة المترجم إليها يتبين النصوص بوضوح ويشعر بها بقوة كما يتبينها ويشعربها المتكلم باللغة الأصلية.[5] وقد عرفت الترجمة مؤخرا تعريفا علميا دقيقا بأنها استبدال مادة نصية في لغة معينة (اللغة الأصلية) بمادة نصية مكافئة لها في لغة أخرى (أى اللغة المستهدفة أو لغة النص المترجم).
3- يقول الأستاذ يوئيل يوسف عزيز في موضوع الترجمة:
” بأنها نقل المستوى المعنوي من اللغة الأولى إلى اللغة الثانية واختيار ما يناسب لذلك من المستوى الصوتي والمستوى النحوي في اللغة الثانية”. [6]
4- و يقول كاتفورد في معنى الترجمة:
“Translation is an operation performed on languages: a process of substituting a text in one language for text in another”[7]
( أي إن الترجمة عملية يتم إجراءها على اللغات و هي عملية استبدال نص في لغة بنص في لغة أخرى.)
الترجمة في العصر الجاهلي:
الترجمة في العصر الجاهلي أى في الفترة ما قبل الإسلام ليست بدعة طارئة على العرب فقد عرفها الجاهليون منذ زمن بعيد وهنا عوامل كثيرة ودلائل عديدة تبرهن على وجود الترجمة في ذلك العصر ومنها العلاقات الشخصية والتجارية والعلاقات المحلية الدولية وصلات العرب مع غير العرب ولقاءات الشعراء مع الأغنياء والملوك والأديان ودارسي العلوم والفنون المختلفة والطلاب وغيرهم، وكانوا قد بدأوا القيام بترجمة بعض الكتابات ربما كانت تلك الكتابات دينية فقط حيث نجد القائمين بهذه العملية بأنهم كانوا رجال دين وأساقفة مسيحيين، وأشهر المترجمين في العصر الجاهلي هو يوحنا فيلوبونوس الذي عاش في القرن السادس الميلادي كما يعرف هذا المترجم بإسم يحيى النحوي.
الترجمة بعد الإسلام:
اكتشف المسلمون أثناء الفتح ثقافات جديدة في بلاد الفرس والروم والهند وشاهدوا معالم حضارية متنوعة في هذه البلدان مما جعلهم يتحمسون للاطلاع على هذه المعارف بلغتهم. وبفضل التسامح الديني الذي أقره الإسلام وحب العلم، عكف علماء الإسلام على تعريب ما ينفعهم من علوم الآخرين.
نحن نجد في العصر الإسلامي دلائل عديدة على وجود الترجمة وحركتها المنظمة ومن هذه الدلائل هو الحوار الذي جرى بين النجاشي والمهاجرين من المسلمين والوفد القرشي الذي ذهب لاستردادهم. فقد تم هذا الحوار بترجمان من بلاطه [8] . ثم جاء الإسلام وأعلنه محمد بن عبد الله في 610م و بعد مقاومة أولية بدأ العرب يقبلون الإسلام دينا لهم وهؤلاء العرب المسلمون أولوا بالغ اهتمام لعملية الترجمة حيث بدأت كبداية بسيطة في العصر الأموي وازدهرت كحركة واسعة النطاق حركة منظمة في العصر العباسي الأول و الثاني (132 ـــــــــــ 334هـ)[9].
الترجمة في العصر الأموي:
يبدأ العصر الأموي في سنة 661م بانتهاء العصر الإسلامي وهذا العصر يمتد من 661م إلى 750م وخلال هذا العصر فتحت البلدان الأجنبية المختلفة من الروم والفرس فازداد شعور العرب بضرورة التفاهم مع غيرهم لأغراض تتعلق بأمورالدين والدولة وحبهم للإطلاع على ما يمتلك الآخرون من علوم وفنون واهتمامات. وهكذا بدأ العرب يأخذون بالتدرج ما عند الأمم الأخرى من العلوم والمعارف شفاها ثم بالترجمة المنظمة التي اعتمدت على الجهود الخاصة والرغبة الفردية.
ومن الذين اهتموا بترجمة الكتب في العصر الإموي، الخليفة مروان بن الحكم (ت 65هـ ـــ 685م )، حيث ترجم له الطبيب البصري” ماسروجيعه” و كتاب” أهون القس” من السريانية إلى العربية، كما ترجم للخليفة عمربن عبد العزيز (ت 101هـ 720م ) كتاب” قوى الأطعمة منافعها ومضارها” وكتاب ” قوى العقاقير منافعها ومضارها”.
لقد كان لمدارس الترجمة والتعريب في العصرالأموي دورا مهما في بناء الحياة العلمية والتي كانت تواكب بناء الحياة الحضرية زمن بناء الدولة العربية الإسلامية وتوسيعأافقها الثقافي والحضاري، مما ترك آثاره على مستقبل العرب. لذا لم يمض على زوال هذه الدولة فترة طويلة حتى كانت بين أيدي العرب ترجمات للعديد من الكتب ولاسيما الطبية والفلسفية، ومنها ترجمات عن اكثر ما كتب” أرسطو ” وتعليقات لمعظم الذين اشتهروا من زعماء” الأفلاطونية الجديدة” وبعض الأجزاء الأخرى المنقولة عن كتب الأطباء أو الذين علقوا عليها، وطائفة من كتب حكماء اليونان، وكتّاب الهند وفارس وأهل الصين ومن اشهر وأبرزمترجمي العصرالأموي هما: سويرس سيبوخت أسقف دير قنسرين ويعقوب الرهاوي أسقف الرها[10].
يمثل العصر الأموي في حقيقة الأمر، أول دورمن أدوار حركة الترجمة، فهو العصر الذي شهد ظهور هذه الحركة لأول مرة في تاريخ الإسلام الحضاري والثقافي. وعلى الرغم من أن الترجمة في هذا العصر كانت ترجمة بدائية وضعيفة المستوى إذا ما قورنت بالترجمات الأخرى في الأدوار القادمة، إلا أن هذا العصر كان بحق، بناء هذه الحركة عموما، كما أنه كان المنطلق الأول لها في أنحاء العالم الإسلامي مشرقه ومغربه.
مظاهر حركة الترجمة والنقل في العلوم العقلية في العصر العباسي:
العصر العباسي هو في الحقيقة عصرنشأت فيه حركة عظيمة للترجمة حركة رغب فيها خلفاء الدولة كما أن العامة أيضا لم تتأخر عن مواكبة الدولة فهذا العصر يتميز بالمحاولة الاجتماعية، كان العصر الأموي مقصورا على ترجمة العلوم العملية كالصنعة والطب والنجوم، أما العصر العباسي فقد تعدي إلى العلوم العقلية كالمنطق والفلسفة والهندسة حتى الخرافات. الترجمة العربية في العصر العباسي منقسمة إلى ثلاثة أدوار منها:
الدور الأول: تبدأ هذه الفترة من بداية خلافة المنصور إلى نهاية عهد الرشيد (136هـ إلى سنة 193ه) وتتميز هذه الفترة بترجمة الكتب العلمية بما فيها الطب والفلك والرياضيات [11] فإن جرجيس بن بختيشوع ترجم عددا من المؤلفات الطبية لجالينوس والبقراط. وفي خلافة المنصور عنيت الدولة بترجمة كتب الفلك والتنجيم[12]. فقد طلب الخليفة من إمبراطورية بيزنطة أن ترسل إليه ما عندها من مخطوطات وكتب يونانية فأرسلتها إليه، ويقال إنه في عام 771م جاء وفد من السند غربي الهند كان فيه رجل اسمه ” كنكة” ماهرفي الرياضيات والفلك وكان يحمل معه كتاب “سوريا سدهانتا” فأمر المنصور بترجمته إلى اللغة العربية، وكلف بهذا الأمر إبراهيم بن حبيب الفزاري المنجم الذي كان يتقن اللغة الهندية وعرف هذا الكتاب” بـ السند هند” [13]وكذلك أخذوا من هذا الهندي كتابا ثانيا اسمه” الأركند”وثالثا اسمه” الأرجبهر” كما ترجم في عصره عبد الله بن المقفع كتاب “كليلة ودمنة” من الفارسية القديمة الذي كان مترجما بدوره من اللغة السنسكريتية، ومن مترجمي بلاط المنصور ابن البطريق الذي ترجم له من كتب جالينوس والبقراط وأعيدت ترجمته ثانية لرداءتها في النقل. ثم يأتي دور ابن المنصور الخليفة المهدي الذي رد أولا على الإلحاد الذي نشأ بسبب الكتب الدينية من المانوية والمجوسية بمساعدة العلماء، وكان هذا سبب لوجود علم الكلام كما أنه حذا حذو أبيه ووطد علاقته مع أطباء جنديسابور الذين ترجموا له كتب الطب والرياضيات [14].
الدور الثاني: تبدأ هذه الفترة من سنة 198 إلى سنة 300هـ وتتميز ترجمة كتب الرياضيات والفلسفة والمنطق مع القيام بالتاليف والتعليق والتلخيص، وأجدر خلفاء هذا الدور بالذكر هو الخليفة المأمون الذي كان يميل بطبعه إلى كتب الحكمة ولاسيما كتب الفلسفة والمنطق لأنه كان معتزلي النزعة مؤيدا لسلطان العقل وحرية الرأى فإنه أكمل ما بدأ به المنصور وأمر بترجمة كافة الكتب الفلسفية لأرسطو وغيره، وبيت الحكمة هو معهد كبير أشرف على ترجمة الكتب الأجنبية إلى العربية أنشأه أيضا الخليفة المأمون في عام ثمانية مئة وعشرين للميلاد لكن وضع أساسه الخليفة هارون الرشيد بإنشاء مكتبة الحكمة[15].
الدور الثالث: يبدأ هذا الدور من تسع مئة واثنتى عشرة للميلاد ويتم بقلة الاهتمام بترجمة الكتب الفلسفية وبزيادة العناية بترجمة الكتب الأدبية وخصوصا من أدب الفرس لقيام بعض رجالهم وبخاصة الشعوبية والزنادقة الذين حاولوا التبشير بأمجادهم التي قضى عليها الإسلام مثل تاريخ ملوك الفرس وآئين نامه (نظم الفرس)وكتاب مزدك وغيرها[16].
وقد تطورت اللغة العربية بفضل الترجمة بحيث اكتسبت ألفاظا ومصطلحات علمية جديدة ذات مصادر رومية وفارسية، وازدهرت الثقافة العربية والمعلومات، وامتد هذا التطور من القرن الثاني حتى الخامس الهجريين، الثامن والحادي عشر الميلاديين.[17]
الترجمة في العصر الحديث:
إن الثقافة العلمية الأجنبية التي نهلت منها مصر منذ عصرمحمد على كانت الثقافة العلمية الفرنسية، وأن مدرسة رفاعة خاصة للترجمة والتعريب لم يهتموا بالثقافات الأجنبية الأخرى إلا قليلا. وكان معظم رجال البعثات في عصرى محمد على وإسماعيل يذهبون إلى فرنسا ويعودون متشبعين بالفكر الفرنسي وبالثقافة الفرنسية، ولكن كل شئ ينقل إلى اللغة العربية من الطب والهندسة والعلوم الرياضية والعسكرية والعلوم الأخرى ما شاكلت بهذه. فاتسعت دائرة اللغة العربية وزادت ثروتها كما بذل المترجمون والمعربون جهودا جبارة في سبيل مدها بالكلمات الجديدة أو إحياء الكلمات البهية النادرة التي كانت في مختلف العصور، و هناك عوامل أخرى أيضا ظهرت في هذا العصر الحاضر و لم تكن مألوفة في العصور الغابرة. منها أن الترجمة توفر استكمال للمعرفة التي لا يمكن أن تقف عند حد أو تنتهي عند غاية، وتستخدم الترجمة للدعايات السياسية كما استخدمتها الدول الاشتراكية لنشر مبادئها وأصولها وسخرت جميع وسائل الإعلام لأجلها، وتستخدم الترجمة للأغراض التجارية والاستثمارية، ومن هنا تلجأ الشركات الوطنية والعالمية إلى الترجمة لغرض فتح الأسواق العالمية أمام بضائعها ومنتجاتها وبغض النظرعن هذه الأسباب إن الترجمة تجذب إليها اهتماما بالغا في شتى المجالات العلمية و العملية والاجتماعية والتكنولوجية ولاستكمال الاحتياجات الاقتصادية والصفقات العصرية والمتطلبات الرقمية.
كان لحركة الترجمة في العصر الحديث أثر لا ينكر في رفع المستوى العلمي والثقافي للجيل الحاضر، ولكن هنالك تفاوتًا كبيرًا بدرجة اهتمام الأقطار العربية بهذه الحركة، كما أن هذه الحركة في الأقطار العربية بصورة عامة أقل مما عليه في بلدان العالم المتقدم. لقد قامت المنظمة العربية للتربية والثقافة بإحصاء ما تُرجم من المؤلفات الأجنبية في المدة الممتدة بين عامي 1970م و1980م فتبين لها أن مجموع عدد الكتب المترجمة بلغ (2840) كتابًا، منها 62٪ تُرجمت في مصر، و17٪ في سورية، و 9٪ في العراق، و5.4٪ في لبنان. كما تبين من هذا الإحصاء أن نسبة كتب العلوم الأساسية والتطبيقية المترجمة لا تزيد على 14٪، بينما بلغت نسبة ما ترجم من كتب الآداب والقصة والفلسفة والعلوم الاجتماعية ما يزيد على 70٪. ومما لاشك أن انخفاض نسبة الكتب العلمية المترجمة يعود إلى أن جميع الأقطار العربية، باستثناء سوريا، لم تقم بتعريب التعليم الجامعي.
إن حركة الترجمة لم تبلغ النضج والاكتمال من ناحية سلامة اللغة، ومطابقة الكتاب المترجم للأصل من ناحية أداء المعنى بدقة. ولكن لما أنشئت مؤسسات حكومية تشرف على انتقاء الكتب الأجنبية لترجمتها، وتم اختيار أشخاص ذوي خبرة للنهوض بها، وأُعيد النظر فيما يترجم لإصلاحه، بدأت تظهر كتب مترجمة إلى اللغة العربية بصورة جيدة.
وتتلخص أهداف الترجمة في الوطن العربي في التأكيد على وحدة اللغة العربية، وقدرتها على التعبير عن حاجات العصر، وإدخال هذه اللغة في قائمة اللغات العالمية المعتمدة دوليًّا[18].
دور الترجمة في تطوير اللغة العربية وآدابها في العصر الحديث:
للترجمة فضل كبير على الأدب العربي بوصفه وسيلة اتّصال بين الشرق والغرب، وقد كان هذا التأثير في النثر أكبر منه في الشعر، ذلك أنّ ما يفقده الشعر من إيحاءات ودلالات في الترجمة أكبر بكثير مما يفقده النثر. وقد كانت الترجمة في بادئ أمرها لا تهتمّ كثيراً بالدقّة الحرفية في نقل النص الأصلي، فكان أكثر المشتغلين في هذا الباب يميلون إلى أخذ الفكرة ثم إعادة صياغتها بأساليبهم، ظنّاً منهم أنّ هذا يقرّب المادة المترجمة إلى الذوق العربي، فرخّصوا لأنفسهم حذف بعض المشاهد الغرامية، وترك الكلمات التي تخدش حياء القارئ، وكذلك أضافوا للأصل من الأساليب العربية ما ينسب إلى التحلية والتنميق، كإدخال شواهد شعرية وأغانٍ وبعض الطرائف، وقد أسهم هذا الصنيع في تشجيع القُرّاء على الإقبال على الأدب الغربي والاستمتاع بقراءته والترويج له.
من أهم أفضال الترجمة على النهضة الأدبية الحديثة:
1- تعرَّف الأدباء على الكثير من مظاهر تطوّر الأدب وأساليب التعبير في مختلف الأجناس الجديدة، وخاصّة القصّة والرواية والمسرحية.
2- وقوف الأدباء العرب على المذاهب الأدبية والنقدية، وتطبيق الكثير منهاعلى الأدب العربي الحديث، شعره ونثره.
3- تعرَّف الأدباء عن طريق الترجمة على التراث الأدبي والنقدي في الغرب منذ أقدم العصور، فترجموا الملاحم والمسرحيات وكتب اليونان والرومان مما لم يُترجم من قبل.
4- ترجم المهتمون بالترجمة لأبرز أدباء الغرب ونقّاده في العصر الحديث.
5- قدّمت الترجمة خدمةً جليلةً للنثر فخلّصته من قيود الصنعة وطغيان البديع، ودفعت به إلى العناية بالمضمون بدلاً من الاقتصار على الاهتمام بالشكل الذي كان يرهق الأدب ويثقله.
ومما لا شك فيه أن حركة النقل من الآداب العالمية إلى اللغة العربية قامت بدور هام في تطوير الأدب والشعر. ولا يمكن أن يصرف النظر عن هذه الحركة عند البحث عن تأثيرات آداب أجنبية سواء كان ذلك الأدب أدبا إنجليزيا أو فرنسيا أو غيرهما. وجميع الشعراء والأدباء الذين حرروا الأدب العربي من قيود عرقلته عن التقدم وزودوه بأفكار وخيالات كانت جديدة على العالم العربي وأتقنوا اللغات الأجنبية وقاموا بنشاط واسع في ميدان الترجمة من ابتكاراتهم التي لا تقل درجة عن روائع الآداب العالمية. ومن يستطيع أن ينكر خدمات طه حسين (1889 ـــ 1975م ) وأحمد حسن الزيات ( 1885 ــ 1968م ) وعباس محمود العقاد ( 1964 ــ 1989م ) وإبراهيم عبد القادر المازني (1890 ـــ 1949م) وغيرهم في هذا الميدان مع كثير من أفكارهم الجديدة المبتكرة التي لا تنتمي إلا إليهم والتي تستحق كل إعجاب وتقدير.
ومنذ نهاية القرن التاسع عشر نشطت حركة الترجمة في جميع ميادين الأدب من رواية وقصة صغيرة ومسرحية وشعر ومقالة، وكان الإقبال على الروايات والقصص والمسرحيات أكثر من الشعر والمقالات، ولعل سبب قلة الالتفات إلى الشعر يرجع إلى صعوبة ترجمته شعرا. وقد غلبت الترجمة من القصص والروايات والمسرحيات الأجنبية على الترجمات في الميادين الأخرى وحتى أن عشرة آلاف قصة نقلت إلى اللغة العربية إلى نهاية الثلاثينات حسب الإحصائيات التي قام بها يوسف أسعد داغر، ذلك لأن ترجمة القصص أسهل وإقبال الجمهور عليها أكثر. وأما ترجمة الشعر فما رأينا نشاطا إلا في العشرينات والثلاثينات وقبل هذه الفترة لم يترجم منه إلا قليل، وذلك لصعوبة نقل الشعر من لغة إلى لغة لدقة معانيه ولطافة تراكيبه [19].
أثرحركة الترجمة على الأدب العربي فيما يلي:
1- تمكين اللغة العربية من التخلص من سلبيات لغة عصر الانحطاط:
من المعلوم أن الكتابة العربية، في نهاية القرن الثامن عشر، كانت تميل إلى الاهتمام بالصنعة اللفظية، والمبالغة في استخدام المحسنات البديعية، دون الاهتمام بالمعاني والأفكار، كما اكتظت نصوص تلك الفترة بالألفاظ الأجنبية والعامية. وبما أن الترجمة، في الأساس، نقل للمعاني والأفكار من لغة ما إلى لغة أخرى، فهي أجبرت المترجمين بشكل خاص، والكتاب بشكل عام، على التخلص من قيود السجع والمحسنات اللفظية، والتركيز على المعاني والأفكار، وذلك منذ بداية عصر النهضة.
ومن اللافت حقا أن نجد، في نصوص رفاعة الطهطاوي، المترجمة مثل (مغامرات تليماك)، أو المؤلفة مثل (تخليص الإبريز في تلخيص باريز)، صفحات من النثر التقريري، الخالي من جميع أنواع البديع، لاسيما تلك الفقرات التي يقدم فيها بعض أوجه الحياة الاجتماعية والثقافية والتربوية في فرنسا، مثل الصحف، والكليات، والمتاح باختصار، يمكن القول إن الترجمة هي العامل الأول في إزاحة أسلوب السجع والبديع، وترسيخ الأسلوب المرسل في النثر العربي الحديث في نهاية القرن التاسع عشر.
2- إدخال المصطلحات الحديثة في اللغة العربية:
عند قراءتنا لنصوص رفاعة الطهطاوي نلمس الصعوبة التي يمكن أن الكتاب والمترجمين عند البحث عن كلمات أو مسميات عربية مناسبة للحكم الهائل من الظواهر المرتبطة بالحياة الغربية، التي تتوزع بين شتى العلوم والمعارف، و قد رفد المترجمون اللغة العربية بكثير من المصطلحات والتعبيرات الجديدة، عن طرق الاستعارة، والاقتراض، والاشتقاق والنحت، والتحوير، أو التوليد اللفظي، والتوليد الدلالي. ويتضمن المعجم العربي اليوم آلاف المصطلحات والمفاهيم التي دخلته عن طريق الترجمة، وقد سجَّلها (المعجم الوسيط) باعتبارها جزءًا المعرَّب أو من الدخيل، أو ممّ أقرَّه مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ولا تزال كثير من المصطلحات (المعربة) اليوم خارج المعجم اللغوي المعتمد، إذ لم يتم الإجماع على صورة واحدة لها. وعلى الرغم من بعض السلبيات التي التصقت بتعريب المصطلحات الأجنبية، فيظل للترجمة فضل تعزيز اللغة العربية العلمية التي باتت تحتوي على جميع المصطلحات العلمية المعروفة.
3- ظهور أجناس أدبية جديدة في الأدب العربي:
يرى الباحثون أن العرب، حين بدأوا الترجمة في عصرهم الذهبي، اتجهوا إلى حساب الهند وطب الإغريق وفلسفتهم، وفلك الكلدان وتنجيمهم، أما الآداب فكان لهم معها شأن آخر. فهم لم يترجموا الملاحم أو المسرحيات الإغريقية، وظلت هذه الأجناس الأدبية غريبة على الأدب العربي، إلى أن نشطت حركة الترجمة من جديد في القرن التاسع عشر.
وهناك إجماع على أن مارون النقاش هو أول من أدخل فن المسرح إلى اللغة العربية، وذلك حينما قدم في بيروت عام 1847، مسرحية (البخيل)، باللغة العربية الفصحى، هي في الواقع ترجمة لمسرحية لموليير تحمل الاسم نفسه: (البخيل). وبعد وفاة مارون النقاش استمرت فرقته في تمثيل عدد من المسرحيات المترجمة من اللغات الفرنسية والإنجليزية والإيطالية. ولم تبدأ عمل التأليف المسرحي باللغة العربية إلا عند مطلع القرن العشرين.
وإذا كان مؤرخو الأدب يرون في نص (زينب)، التي ألفها محمد حسين هيكل خلال إقامته في باريس، ونشرها عام 1914م، أول رواية عربية تقترب من النضج الفني، فهم يؤكدون أن هناك عددا كبيرا (آلاف) من الروايات قد تمت ترجمتها أو تعريبها ونشرها مسلسلة في الجرائد والمجلات، أو في كتب، خلال القرن التاسع عشر، وقد لا تكون رواية (مغامرات تليماك)، التي ترجمها رفاعة الطهطاوي عام 1849م.
ومن المؤكد أيضا أن اللغة العربية قد عرفت القصة القصيرة مترجمة، قبل أن يكتب محمد تيمور قصته الأولى (القطار)، عام 1917م، متأثرا فيها بقصص جي دي موباسان، الذي ظهرت ترجمات لبعض قصصه في مجلة الهلال في نهاية القرن التاسع عشر[20].
الخاتمة: الترجمة عامل من عوامل حوار الثقافات ووسيلة للتعارف بين الأمم، ومن خلال الترجمة يمكن نقل المعارف والدراسات العلمية من أمة إلى أمم أخرى ومن لغة إلى لغات أخرى، ومن الطبيعي بعد تقارب العالم كله بمشاركة وتبادل المعلومات والتواصل أن يكون هناك طلب مستمر وحاجة غير مسبوقة لترجمة الأفكار من لغة إلى أخرى، حيث تلعب الترجمة دوراً حيوياً في أداء الشركات الدولية والحكومات على حد سواء. والترجمة العربية تلعب دورا رياديا في التبادل الثقافي، ونقل الأخبار، والمواصلات الأخرى. أثرت الترجمة العربية في المجتمع العربي من الأدب والثقافة و التجارة والحكومة والأشكال الفنية المختلفة مثل الموسيقى والأفلام، لا يمكن نقل الأحداث العالمية بشكل دقيق إلا إذا تلقت وكالات الأنباء المعلومات الصحيحة. تبني الترجمة جسوراً بين الجماعات البشرية المختلفة، فتيسر التواصل والتفاعل بينها، سواء أكان هذا التفاعل اقتصادياً أو ثقافياً أو اجتماعياً. فالترجمة هي البوابة التي تعبر منها الذات إلى الآخر أو يقتحم الآخر الذات.
تعمل الترجمة على تيسير التنمية البشرية، فهي حاضرة دوماً في التبادل التجاري، وإشاعة المعرفة العلمية، ونقل التكنولوجيا أو استنباتها وتوطينها، وغيرها من العمليات الضرورية للاستفادة من علوم الآخر وتقنياته في تحقيق التنمية الهادفة إلى ترقية حياة الإنسان. ولعل أثر الترجمة أشدّ ما يكون وضوحاً في التفاعل الثقافي. فهي تكمن في منظومة المفاهيم الثقافية مثل التبادل الثقافي، والمثاقفة، والتغلغل الثقافي، والإفراغ الثقافي، والغزو الثقافي، والاستلاب، والانفتاح على الآخر، والانغلاق على الذات، والعولمة، إلخ . باعتبار أن الترجمة هي السفينة التي تنقل الحمولات الثقافية المتنوعة من مرفئ إلى آخر.
الهوامش:
[1] معلوف، لويس ، المنجد في اللغة، ص: 6
[2] الأنصاري،ابن منظور، لسان العرب ، ج12، ص: 227
[3] مجمع اللغة العربية (الإدارة العامة للمعجمات وإحياء التراث)، ص: 83
[4] عبد النور، جبور ، المعجم الأدبي ، ط2 ، يناير 1984م ، ص: 4
[5] خلوص، صفاء ، فن الترجمة ، ص: 13
[6] الدكتور عزيز، يوسف ، مبادئ الترجمة من الإنجليزية إلى العربية ، نقلا من كتاب ” فن الترجمة ” للدكتور سيد إحسان الرحمن ، ص: 35 ــ 36
[7] A linguistic theory of Translation ,by J.C. catford , 1965,oxford university press. P. 01
[8] الدكتورطاهر، حامد:الدوائر المتداخلة ، ص: 35
[9] الدكتور الرحمن، سيد احسان ” فن الترجمة ” ، ص: 5 ـــ 8
[10] المرجع نفسه ، ص:12
[11]الدكتور أمين،أحمد: ضحى الإسلام ، الجزء الأول ، ص: 271
[12] الدكتور ضيف، شوقي:تاريخ الأدب العربي ـ العصر العباسي الاول ـ ص: 111
[13] الدكتور أمين ،أحمد:ضحى الإسلام الجزء الأول ، ص: 272
[14] زيدان،جرجي ،تاريخ آداب اللغة العربية ، الجزء الثاني ، ص: 32
[15] المصدر نفسه:ص: 337- 338
[16] د. الجميلي، رشيد، حركة الترجمة في المشرق الإسلامي في القرنين الثالث والرابع للهجري، ص: 35
[17] A history of Arabic Literature by Clement Huart,pp.180-183
[18] أسس المعرفة للترجمة المعتمدة،((أهمية الترجمة في العصر الحاضر))موقع الويب: www.Oactranslation.com ،تاريخ التصفح: 18/04/2021
[19] البروفيسورأشرف، محمد سليمان ، دراسة مقارنة بين الشعر العربي الحديث والشعر الإنجليزي ، ص:34 – 40
[20] Encyclopedia of Arabic Literature, by Routledge Volume 2,pp.177-178
المراجع والمصادر:
- معلوف، لويس: المنجد في اللغة، بيروت،معجم اللغة العربية، المطبعة الكاثولكية، ط17، 1966م.
- الأنصاري ابن منظور: لسان العرب، ج12، دار بيروت و دار صادر، بيروت 1956م.
- مجمع اللغة العربية، الإدارة العامة للمعجمات وإحياء التراث، القاهرة.
- عبد النور، جبور ، المعجم الأدبي ، الطبعة الثانية، دار العلم للملايين، بيروت. يناير 1984م.
- خلوص ،صفاء: فن الترجمة، مطبعة دار المعرفة، بغداد،1956م.
- الدكتور عزيز ،يوسف: مبادئ الترجمة من الإنجليزية إلى العربية، بيت الوصل، 1990م.
- A linguistic theory of Translation , by J.C. catford , 1965,oxford university press.
- الدكتور طاهر ،حامد: الدوائر المتداخلة، دار النصر للتوزيع والنشر،جامعة القاهرة، ولم تذكر سنة الطبع.
- الدكتور الرحمن، سيد احسان: فن الترجمة، دار الصفوة للنشر، فوزي تاج، مئ البارودي.
- الدكتورأمين ، أحمد: ضحى الإسلام،ج1، لجنة التاليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1933م.
- A history of Arabic Literature by Clement Huart, First published in London 1903.
- الدكتور ضيف ، شوقي: تاريخ الأدب العربي (العصر العباسي الأول)، دار المعارف، مصر، 1982م.
- زيدان ،جرجي: تاريخ آداب اللغة العربية (الجزء الثاني)، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، لبنان، 1992م.
- د. الجميلي، رشيد: حركة الترجمة في المشرق الإسلامي في القرنين الثالث والرابع للهجري، دار الشؤون الثقافية العامة، وزارة الثقافة والإعلام دار الحرية للطباعة، بغداد.
- البروفيسور أشرف،محمد سليمان: دراسة مقارنة بين الشعر العربي الحديث والشعر الإنجليزي، كوخ العلم، دهلي،2009م.
- أسس المعرفة للترجمة المعتمدة،((أهمية الترجمة في العصر الحاضر))موقع الويب: Oactranslation.com ،تاريخ التصفح: 18/04/2021
- Encyclopedia of Arabic Literature,Volume2, Edited by Julie Scott Meisami and Paul Starkey , First published 1998,London