ناسك هاريدوار

Vol. No. 1, Issue No. 1 - January-March 2021, ISSN: 2582-9254

0
1039

ناسك هاريدوار

(قصة قصيرة)

د. محسن عتيق خان
رئيس التحرير لمجلة “أقلام الهند” الإلكترونية،  نيو دلهي، الهند

——————————————–

نزل روهيت عند رصيف محطة “هاريدوار” فاستقبله هواء الصباح العطر الممزوج برائحة الأزهار، حيث أطل قرص الشمس الأصفر من أحد جبال الهيمالايا الخضراء الشاهقة العلو مستقبلا إياه بأشعة خفيفة تنعش الروح، ويتزايد علو سلسلة جبال الهمالايا في التصاعد شيء فشيء من هذه المدينة التي تعتبر مدينة مقدسة عند الهندوس تشد إليها الرحال من جميع أنحاء الهند، تقع في مكان حيث ينتهي عندها مصب نهر الغانج في الجبال ويدخل في السهول.

وقف روهيت على ضفة النهر المعروفة بـ”هاركي بوري” التي تعني مكان أقدام الإله وهناك يتواجد العباد الهندوس ويدخلون في ماء نهر الغانج المقدس غطسة أو غطستين بنية التبرك والعبادة وأبدانهم ترتجف وأسنانهم تصطك من شدة البرد، وأشعة الشمس التي اشتدت حرارتها أكثر تلوح بصبح جديد وتنعم بالدفء على الغاطسين في المياه المقدسة لنهر الغانج، خلع ملابسه وحداءه ووضعه عن جنب ثم تقدم وسط الماء وغطس غطستين ليرفع يديه متصالبتان محاذاة صدره للدعاء متجها بوجهه شطر الشمس، أكمل روهيت الثانوية العامة هذه السنة بنتائج تقترب للرسوب  منها إلى النجاح فلم تساعده  للقبول في أي كلية من كليات دهلي المعروفة، فأصيب بخيبة أمل مريرة وشعر أن أحلام المستقبل تحطمت ولكن أبويه الكريمين وقفا بجانبه وشجعاه بأن لا ييئس، ويحاول مرة أخرى السنة القادمة، وأمراه أن يسافر إلى مدينة هاريدوار التي تعتبر بوابة الإله ليغسل القدر القمئ الذي يحمله على كتفه قبل أن يبدأ في الاستعداد لامتحانات السنة القادمة. رغم أنه لم يكن يؤمن كثيرا بالطقوس الدينية والتقاليد القديمة البالية، وخطر بباله مرارا أن يخالف أمر أبيه لكنه لم يجرؤ على قول شيء، فمن يقبل رأي الفاشل!

عندما انتهى من الدعاء، خرج من المياه فوجد أمامه ناسكا وجيها لا يزال في مقتبل العمر فقد بدا شابا في ملبس زعفراني، لحيته طويلة تبلغ حتى صدره، وشعره الطويل يتدلى على كتفيه، وحوله بعض النسوة والرجال يسجدون له ويتبركون به وهو يمسح رأس كل من يدنو منه بشفقة ويدعو له. ألقى روهيت عليه نظرة فالتقت عيناه بعيني الناسك للحظة خاطفة، فشعر كأن لهما أثرا في قلبه، وأحس كأن قوة جامحة تلح عليه أن ينظر إلى الناسك مرة أخرى لكنه شغل نفسه بارتداء ملابسه وحذائه.

 عندما فرغ من ارتداء ملابسه ارتفع ببصره نحو الناسك لا إراديا فوجده هو الأخر يحدق به، ولما التقت عيناهما مرة أخرى سمعه يقول: “يا روهيت بن يشبال من دهلي تعال هنا.” دهش روهيت لما سمعه قد ناداه باسمه واسم مدينته، وأصيب بالحيرة كل الحضور هناك، فاندهشوا وازداد يقينهم به، وافسحوا المجال لروهيت وهو ينقاد إليه انقيادا، اقترب منه وقبل أن يجلس بجانبه، التفت الناسك إليه بعد أن فرغ من تتبعه بعينيه وقال له: “رسبت في الثانوية”، فدهش روهيت أكثر من قبل، ولم يفهم هل هذا خبر أم سؤال والتزم الصمت، بينما ظل الناسك يحدق في وجهه ثم قام وأشار له أن يتبعه، بدأ يسير خلفه منقادا دون أي سؤال ولا تردد كأن للناسك قوة سرية تجذبه  وتشده إليه. 

عبرا الضفة وظلا يسيران حتى وصلا أمام بيت في خاصرة تل أخضر صغير بدا له كأنه بداية سلسلة جبلية، وعلى كلا جانبي البوابة اصطفت مناضد خشبية مفروشة،  في الجانب الأيمن رجال أثرياء كما أوحت ملابسهم، وإلى الجانب الأخر رجال ونساء من العامة ينتظرون الناسك بكل تلهف، عندما رأوه قادما قاموا من مقاعدهم إكبارا له، فأشار لهم أن يجلسوا ودخل من البوابة بمساعدة حارس البوابة، وأشار لروهيت أن يدخل خلفه، فدخل بتردد قليل ووجد نفسه في داخل صالة.

كانت مفروشة ومؤثثة بأثاث يجمع بين البساطة والفخامة، في الوسط سرير فخم وضعت عليه وسائد طويلة، وفُرش حوله بعض الكراسي الوثيرة، علقت في وسط السقف ثريا وعلى جدران الصالة نحتت لوحات جميلة لآلهة الهندوس المختلفة مثل الإله راما، وأخيه لكشمان، وزوجته سيتا، والإله شيوا الذي يظهر مع أفعى حول عنقه، والإلهة دورجا التي تبدو جالسة على أسد وفي يدها سلاح طويل ذو ثلاثة أنصال، وبعض الآلهة الآخرين، جلس روهيت على كرسي ينتظر الناسك الذي دخل من باب صغير بعد ولوجه إلى القاعة، بعد دقائق فُتح الباب الصغير ثانية وظهرت منه فتاة في لباس زعفراني اللون في جمال باهر ذات بشرة بيضاء  كاللبن، وعينيها زرقاوين تنزل كالبرق على من يراها، والنقطة الحمراء  وسط جبينها أضافت إلى جمالها رونقا خاصا، أغدقت هذه الفتاة على روهيت بابتسامة خفيفة وعرضت عليه الماء وبعض الحلويات ثم غادرت متمايلة، ووجد قلبه يتمنى لو توقفت عنده لبعض  الوقت. 

بعد بضعة دقائق ظهر الناسك وجلس متربعا على السرير، وأمر الحارس بفتح البوابة مشيرا إلى الرجل الأول الجالس يمينا، فدخل وألقى نفسه بين رجلى الناسك ثم قام متبركا به، وقال له: “قد قبل الإله راما دعاءك، فقد ربحت في التجارة ربحا كثيرا، وأريد أن ابني لك زاوية في مومباي، وأتمنى أن تعقد هناك البرامج كما تعقد في زاويتكم في دلهي” ثم عرض عليه وثائق الأرض ودعاه بإصرار لزيارة مومبائ ولإقامة زاوية هناك. دخل رجل آخر من جانب اليمين ووضع رأسه في قدميه ولم يرفعه حتى اضطر الخادم أن يقيمه، فقام مبتهلا ومتضرعا إلى الناسك أن يدعو لنجاح ابنه في اختبار الإدارة المدنية الهندية، وبينما رفع الناسك يديه إلى السماء للدعاء ووضع ذلك الرجل صرة كثيفة عند قدميه، ومضى حسب ما أشار له الحارس. دخل الرجل الثالث وفعل كما فعل الأول ثم بدأ يقص على الناسك قصة ابنته التي تواجه أشكالا من الاضطهاد على يدي زوجها وأبويه رغم أنه بذل مالا كثيرا على حفلة الزواج، ووفر لها مبلغا ماليا كبيرا، بدا للخادم كأن قصته تطول فطلب منه أن يقول بإيجاز، فقال: “ابنتي وَلدت أربع مرات، ولكن في كل مرة أنثى، وزوجها لا يريد إلا الذكر، وقد ألقى المولودة الأخيرة في القمامة.” ثم أتبع قائلا “ألتمس منكم أن تدعو لابنتي أن تلد مولودا ذكرا.” رفع الناسك يديه إلى السماء، وعندما وضع ذلك الرجل ظرفا في قدميه، قال له الناسك “في المرة القادمة، ائتني بابنتك.” ثم أشار له أن يغادر. وهكذا توالى الآخرون تباعا بين يديه وعرضوا عليه حاجاتهم حتى حضر وقت الظهيرة، وكان لا يزال هناك صف طويل فأمر خادمه، أن يقول لهم بالقدوم في اليوم القادم، فاليوم لديه ضيف خاص. ثم أغلق الباب.

دخل روهيت مع الناسك في الباب الصغير، فوجد عالما آخر، كانت هناك العديد من الغرف، كلها مريحة ومؤثثة بالضروريات المترفة، وهناك عدة فتيات يرتدين الملابس الزعفرانية، كل واحدة منهن تفوق الأخرى جمالا ورشاقة، وأشار له الناسك أن يدخل في غرفة فخمة، فوجد أنواعا من الطعام قد زينت طاولة مدورة ربما لم توجد مثلها حتى في حفلات الزواج. وبعد الفراغ عن الغداء أشار له إلى غرفة قائلا “الآن استرح، سنلتقي في المساء.”

 أنواع شتى من الأفكار تدور في رأسه، من هذا الناسك؟ لم يعتبره ضيفا خاصا؟ ماذا يريد منه؟ هل وقع في حباله أو هي نعمة من الإله؟ دارت في خلده أفكار كثيرة وتسلل إلى قلبه نوع من الرعب، ولكن الجلوس على سرير وثير بعد السفر لأكثر من ست ساعات مرهقة جعلته يستسلم للنوم ولم يدرك متى انتقل من دنيا الخيال إلى عالم الأحلام، ولم يستيقظ إلا بعد أن أحس أن يدا ناعمة تحرك يده بخفة وسمع صوتا ناعما يدغدغ أذنيه، كانت تلك الفتاة قائمة عند سريره بنفس الإبتسامة الخفيفة المدهشة وتقول له: “السيد الناسك ينتظرك لتناول الشائ.” فأجابها قائلا : ” أجهز نفسي أولا ، أنا قادم  بعد قليل.” وعندما خرج من المغتسل، رأى تلك الفتاة لا تزال في الغرفة، فقامت من الكرسي متمايلة وأومأت له أن يتبعها.

كان الناسك في غرفة أخرى شرفتها تطل على نهر الغانج فجلسا على الكرسيين في الشرفة متقابلين، صوت مائه يطرب الآذان، والهواء النقي البارد يداعب وجهيهما، المنظر الخلاب يكاد يدهش روهيت، وإذ به يسمع صوتا عذبا يعرض عليهما الشاي وما إن استدار رأى نفس الفتاة تقدم لهما ابتسامة حلوة، وتضع الكوبين مع وجبة على الطاولة وقبل أن يحول النظر عنها، خاطبه الناسك قائلا: “ألم تعرفني بعد؟”

أجاب ورهيت: لا.

الناسك: لكنني عرفتك.

روهيت: كيف؟

الناسك: دعني أرفع الستار عن السر.

روهيت: ماذا تعني؟

الناسك: هذه قصة طويلة، باختصار أنا ابن عمك، هربت من البيت قبل عشر سنوات بعد أن رسبت في الثانوية، فلم أستطع أن اتحمل ضربات أبي، وجئت هنا، ولازمت ناسكا، وتعلمت منه أشياء كثيرة، وأصبحت أقرب تلاميذه، وبعد موته ورثت عنه هذه الزاوية، ثم اجتهدت ونذرت نفسي في هذا المجال، حتى أصبحت معروفا ومقبولا بين الناس، ولي زاوية في دلهي، وتشانئ، وبونا. وأمكث أسبوعا في هريدوار، والأسبوع الأخر في تلك المدن، وهكذا تجري الأيام، وكما رأيت اليوم، ستكون عندي زاوية في مومبائ قريبا. أتمنى أن تنضم إلي وتقيم معي. 

روهيت: لكنني قد أزمعت الاستعداد للثانوية العامة من جديد.

الناسك: دع هذا الخيال، عندي ستعيش حياة مترفة لا تجد مثلها في مكان آخر، كل ما تتمنى ستجده موجودا أمامك. 

روهيت: ولكن بماذا سأخبر أبواي؟

الناسك: أريدك أن تتولى مسؤولية زاوية مومبائ. قل لهما قد وجدت وظيفة في مدينة مومبائ  ولا تخبرهما ولا أبواي عني.

روهيت: لماذا لا  تريد أن تظهر نفسك لأبويك، إنهما يتفقدانك كثيرا.

الناسك: هناك أسرار، لا تعرفها ولا أريد أن أخبر أحدا بها الآن.

روهيت: حسنا، كما تشاء، سأذهب غدا إلى البيت، فلم أحضر نفسي إلا ليوم واحد. 

الناسك: ابق معي عدة أيام.

روهيت: لا يمكن، لكي لا يقلق أبواي علي.

الناسك: إذن لا بأس. ولكن فكر في الانضمام إلي.

روهيت: نعم، سأفعل.

عندما نهض روهيت من مقعده وتوجه إلى الباب سمعه يقول: “هل أعجبتك إحدى الفتيات في هذه الزاوية، قل لي، سترافقك إلى مومبائ، وستجدها بين أحضانك.”

روهيت: لا، لا أريد.

الناسك: لا بأس، كنت أمازحك فقط. 

لم يكن روهيت يتوقع هذا النوع الأسئلة، فتلعثم لسانه، فيما انتابته الشكوك لعرض كهذا من الناسك أثار.

 عاد روهيت لبيته، وأراد مرارا أن ينصرف إلى القراءة حسب أمنية أبويه، ولكن الابتسامة الحلوة، وتصورها برفقته في مومبائ، ولمسة يدها بيده، كل ذلك قد طير النوم من عينيه وأصابه الأرق. كان متذبذبا، هل ينصرف إلى الدراسة كما يريد أبواه أو ينضم إلى الناسك كما يتمنى قلبه، ويشتاق فؤاده. وهكذا مضى أسبوع. وفي يوم قرر أن يكلم أباه بهذا الشأن، وعندما دخل غرفة الجلوس، وجده يشاهد خبرا عاجلا على التلفزيون، ودُهش عندما رأى  ذلك الناسك مكبل اليدين. كان قد أتهم بقتل أستاذه وكذلك باغتصاب بنات بعض مريديه. وكانت الشرطة قد داهمت زواياه في أنحاء الهند. وسمع روهيت أباه يتمتم “ليس هناك طريق مختصر للنجاح. قد أفسد هؤلاء الفاشلون حتى النسك والزوايا.” عاد روهيت منكس الرأس، وقد قرر في نفسه أن ينصرف إلى الدراسة تمام الانصراف وهو يحمد الآلهة أن نجته من حبال المكر والفتنة.

 

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here